تاريخ حلّ الدَّولتين منذ الانتداب البريطاني حتَّى صفقة القرن 3 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
تاريخ دولة “فلسطين”
يشير موريس إلى أنَّ عرب فلسطين دأبوا، خلال العشرينات من القرن الماضي، على تعريف دولتهم بأنَّها الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسّط، والممتدَّة جنوبًا حتَّى صحراء النَّقب وخليج العقبة، مدّعيًا أنَّه لم توجد دولة مستقلَّة عُرفت باسم فلسطين، سياسيًّا أو إداريًّا، ومذكّرًا بأنَّ منطقة جُند فلسطين، السَّابقة لزمن الحروب الصَّليبيَّة، وكانت عاصمتها الرَّملة، لم تشكّل أكثر من جزءٍ من فلسطين التَّاريخيَّة. فقد كان القسم الشَّمالي من فلسطين، الَّذي يضمُّ الخليل ويزرعيل وبيسان وأغوار الأردن الشَّماليَّة، جزءًا من الأردن، وسُمّي ذلك الإقليم جُند الأردن وكانت عاصمته طبرية. وكما سبقت الإشارة، كانت فلسطين مقسَّمة إلى عدَّة أقاليم، أو مناطق إداريَّة، تحت الحُكم العثماني. كان القوميُّون العرب، ما عدا السُّوريين، أوَّل من طالَب بإعلان فلسطين دولة عربيَّة مستقلَّة؛ في حين طالَب القوميُّون السُّوريُّون بضمّ فلسطين إلى سوريا. غير أنَّ القوميين جميعًا لم يختلفوا على رفْض الوجود اليهودي في فلسطين، سواءً سُكَّانيًّا من خلال تأسيس دولة ثنائيَّة القوميَّة، أو جغرافيًّا من خلال التَّقسيم. عارَض العنصر الإسلامي في فلسطين مطالبة اليهود بحقٍّ ديني أو تاريخي في الأرض المقدَّسة، وأثيرت الشُّكوك حول تواطؤ العنصر المسيحي مع الانتداب البريطاني وتغاضيه عن المطالبة بانتهاء الانتداب، بينما أصرَّ زعماء الحركة القوميَّة على عروبة فلسطين، وعلى انتفاء الحقّ اليهودي فيها، وعلى ضرورة تأسيس وطنيَّة مستقلَّة هناك بعد انتهاء الانتداب.
موقف العرب من الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة والتَّقسيم
نقلًا عن سوزان هاتيس، أوَّل مؤرّخة تناولت فكرة الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة في فلسطين، يوضح بيني موريس أنَّ العرب رفضوا تلك الفكرة، شكًّا منهم في صحَّة مزاعم اليهود، واعتقادًا منهم بأنَّ الدَّعوة إلى التَّعايش بينهم وبين العرب ما هي إلَّا محاولة لدسّ السُّم في العسل. لم ينخدع العرب بمزاعم القوميين اليهود، ولم يأخذوا بظاهر تلك المزاعم؛ فقد رأى العرب المطالبين بتأسيس دولة ثنائيَّة القوميَّة من اليهود “صهاينة في ثوب حملان، يسعون في الأساس إلى تأسيس دولة يهوديَّة ويمهّدُّون لذلك” (ص90). لم يُستثنَ المعتدلون من العرب من رفْض تلك الفكرة، فقد رأوا أنَّه من غير المعقول تأسيس دولة يُتقاسَم فيها الحُكم مع أقليَّة جاءت إلى فلسطين مغتصبة وأصبحت تطالب بحقّ لا أساس له. لم يمنع الرَّفض العربي لفكرة الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة من حيث المبدأ السّياسي عمر صلاح البرغوثي، وهو أحد معارضي المفتي أمين الحسيني، من التَّفاوض مع رابطة التَّقارب والتَّعاون اليهودي والعربي في هذا الشَّأن. أُسّست تلك الرَّابطة عام 1939م، وكان أعضاؤها من الأعضاء السَّابقين في حركة بريت شالوم، ومن بين أعضاء حركة هشومير هاتزير، وكذلك من أعضاء الحزب الماركسي بوعلي صهيون. كان البرغوثي مؤيّدًا للفكرة، ومرحّبًا بالتَّقارب السُّكَّاني بين اليهود والعرب، مشترطًا أن تُؤسَّس تلك الدَّولة بموافقة عربيَّة جامعة، ولكنه لم يكن يمثّل أيَّ تيَّار سياسي في فلسطين، وبالتَّالي لم تُوقَّع أيَّة اتّفاقيَّة. سعى فوزي درويش الحسيني، من خلال منظَّمة فلسطين الجديدة الَّتي أسَّسها لخدمة هدف التَّقريب بين الطَّرفين، من خلال مفاوضاته مع الرَّابطة إلى الوصول إلى نموذج لدولة عربيَّة-يهوديَّة، تقوم على تقاسُم الحقوق بين الطَّرفين وتنضمُّ إلى جامعة الدُّول العربيَّة. بالفعل، وقَّع الحسيني في 11 نوفمبر 1946م مع رابطة التَّقارب والتَّعاون اليهودي والعربي اتّفاقيَّة باسم فلسطين الجديدة، نصَّت على التَّعاون والمساواة السّياسيَّة بين العرب واليهود، وتقييد الهجرة اليهوديَّة بالقدرة الاستيعابيَّة الاقتصاديَّة للبلاد، لكنَّ المشروع قُوّض بالكامل بعد اغتيال الحسيني على يد مسلَّح عربي بعد 12 يومًا من إبرام الاتّفاقيَّة.
إذا كان تقاسُم السُّلطة بين العرب واليهود غير ممكن، فقد بقي خيار التَّقسيم، بتأسيس دولة يهوديَّة وأخرى عربيَّة وفق حدود متَّفق عليها، ولكن موقف العرب من ذلك الخيار لم يكن مختلفًا. فقد صرَّح أمين الحسيني بأنَّ الأمر مرفوض من حيث المبدأ، مفضّلًا المقاومة المسلَّحة على التَّفاوض مع مَن لا حقَّ لهم بالمرَّة في الأرض المقدَّسة، وضاربًا عرض الحائط بتوصيات لجنة بيل لعام 1937م بشأن التَّقسيم بعد انتهاء الانتداب البريطاني. كان التَّصريحات الرَّسميَّة للمسؤولين العرب تندّد بالتَّقسيم وتنادي بدولة عربيَّة في فلسطين، ويُستثنى من ذلك عبد الله بن الحسين، حاكم شرق الأردن، المعروف عنه موالاته لبريطانيا، وإن صرَّح لاحقًا بما يفيد برفضه التَّقسيم وميله إلى الصَّف العربي. دعَّم عبد الله بن الحسين عائلة النَّشاشيبي، وكانت عائلة من أعيان عرب فلسطين، في معارضتها أمين الحسيني، وتزعَّم المعارضة راغب النَّشاشيبي، رئيس بلديَّة القُدس المعيَّن من قِبل الانتداب البريطاني منذ عام 1920م حتَّى عام 1934م، والمعروف عنه تعاوُنه مع المحتل البريطاني على حساب حقوق العرب. لا عجبَ في أنَّ الانتداب البريطاني اعتبر عائلة النَّشاشيبي معتدلة، في مقابل ما شكَّله آل الحسيني من تشدُّد إسلامي منبوذ من وجهة نظر الانتداب، الَّذي اعتبر المقاومة المسلَّحة لآل الحسيني أعمالًا إرهابيَّة تستهدف المعارضين العرب، تمامًا مثل اليهود والبريطانيين. يحاول موريس تبييض سيرة راغب النَّشاشيبي من خلال ادّعاء أنَّه لم يساند فكرتي التَّقسيم والدَّولة ثنائيَّة القوميَّة، وأنَّ مساندته حلَّ الدَّولتين كان مؤقَّتًا وتكتيكيًّا، وينطبق الأمر ذاته على قبوله الدَّعم الصُّهيوني ومساندته الجهود البريطانيَّة لسحق الثَّورة الكبرى عاميّ 1938 و1939م.
وجدت فكرة التَّقسيم معارضة لدى المفكّرين الفلسطينيين المتغرّبين أنفسهم، ومن بين هؤلاء المفكّر المسيحي القومي جورج أنطونيوس، الَّذي عبَّر عن ذلك في كتابه The Arab Awakening (1938م)، الصَّادر بالعربيَّة بعد وفاته بـ 4 سنوات تحت عنوان يقظة العرب (1946م). يشير أنطونيوس، المقدسي المهاجر إلى بريطانيا، إلى أنَّ تأسيس دولة يهوديَّة في فلسطين لم يكن يعني سوى ترحيل المواطنين العرب وتشريدهم أو إبادتهم، مذكّرًا بأنَّ الفلَّاحين، سُكَّان المناطق الخصبة الَّتي كانت الهدف الأكبر للاستيطان اليهودي، يفضّلون الموت على التَّفريط في أرضهم. أمَّا عن الأمثل لتلك المعضلة، فكان تأسيس دولة عربيَّة مستقلَّة يعيش فيها اليهود دون تفرقة عنصريَّة، ويتمتَّعون بالحريَّة السّياسيَّة والاقتصاديَّة، ويحتفظون بكافَّة حقوق المواطَنة. لم يكن حلٌّ مثل ذلك ليرضي الحاج أمين الحسيني، الَّذي كانت جهوده مسلَّطة على القضاء على اليشوف، أي المجتمع اليهودي في فلسطين، تمامًا مثلما استهدفت إيقاف الهجرة اليهوديَّة إلى هناك. يحاول موريس أن يثبت أنَّ العرب بتعنُّتهم ورفضهم المطلق للتَّعايش مع اليهود هم مَن أضاع الأرض ومكَّن اليهود منها، وكأنَّما كان من الممكن تأسيس دولة عربيَّة، إن لم يصر العرب على رفْض التَّفاوض مع اليهود؛ وكانت النَّتيجة أنَّ المقاومة المسلَّحة أفضت إلى حرب عام 1948م، الَّتي أسفرت بدورها عن تقسيم تأسيس إسرائيل، وضمّ الضَّفَّة الغربيَّة إلى الأردن وقطاع غزَّة إلى مصر، وتهجير 60 بالمائة من الفلسطينيين من مساكنهم وحياتهم في مخيَّمات، هذا إلى جانب اللجوء إلى الدُّول العربيَّة المحيطة.
منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة وموقفها من حلّ الدَّولتين
نظَّم مسلَّحون فلسطينيون خلال الخمسينات من القرن الماضي عمليَّات فدائيَّة ضدَّ الإسرائيليين، أحيانًا تحت إشراف المخابرات المصريَّة، دون تحقيق نتائج تُذكر. وفي عام 1964م، أسَّس مجموعة من القوميين الفلسطينيين ما عُرف بالمجلس الوطني الفلسطيني، وأتبعوا ذلك بتأسيس منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، الجناح التَّنفيذي للمجلس، برئاسة أحمد الشُّقيري، وكان في السَّابق من معاوني أمين الحسيني. أصبح الميثاق الوطني الفلسطيني بمثابة دستور للمنظَّمة، الَّتي أعلنت أنَّ أهمَّ أهدافها هو المضيُّ قُدمًا في طريق الجهاد حتَّى تحقيق النَّصر الكامل المؤزَّر. عرَّف الميثاق الشَّعب الفلسطيني بسُكَّان فلسطين التَّاريخيَّة حتَّى عام 1947م، سواءً الباقين أو المهجَّرين، واعتبر أبناء المهجَّرين كذلك فلسطينيين، ولم يعترف بصحَّة قرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة لعام 1947م الخاص بتقسيم فلسطين، واعتبر اليهود من أصول فلسطينيَّة فلسطينيين، ويشمل ذلك اليهود من قاطني فلسطين قبل الغزو الصُّهيوني، الَّذي أرَّخه الميثاق بصدور وعد بلفور عام 1917م. غير أنَّ الميثاق فشل في تحديد شكل الدَّولة الفلسطينيَّة المُراد تأسيسها، وإن كانت هويَّتها محدَّدة ضمنيًّا، وهي أنَّها دولة قوميَّة علمانيَّة تقبل الوجود اليهودي من حيث المبدأ. جدير بالذّكر أنَّ المنظَّمة انبثقت عنها حركة فتح المسلَّحة، والَّتي تُعرَّف بأنَّها “أولى حركات النّضال الفلسطيني العلماني ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي”، كما تصفها موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة، مطلع عام 1965م، بقيادة ياسر عرفات، الَّذي ظلَّ قائدها حتَّى وفاته، وخلفه على قيادتها محمود عبَّاس، الرَّئيس الحالي للسُّلطة الفلسطينيَّة.
كما ينقل يزيد صايغ في كتابه Armed Struggle and the Search for State-الكفاح المسلَّح والبحث عن الدَّولة (1997م)، أكَّد ياسر عرفات عام 1970م أنَّ هدف حركة فتح كان تحرير فلسطين من البحر المتوسّط إلى نهر الأردن، ومن رفح حتَّى بلدة النَّاقورة، الواقعة جنوبي لبنان. غير أنَّ منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة اضطرَّت بعد حرب أكتوبر/تشرين 1973م إلى تعديل موقفها، تكتيكيًّا إن لم يكن استراتيجيًّا، خاصَّة بعد موقف الرَّئيس المصري أنور السَّادات، الجانح إلى السَّلام مع إسرائيل والغرب. أثير تساؤلٌ حينها عن مدى استعداد المنظَّمة لقبول تأسيس دولة فلسطينيَّة صغيرة، إذا ما نجحت المفاوضات الَّتي قادها السَّادات في إقناع اليهود بالانسحاب من بعض المناطق، وخشي قادة المنظَّمة من أن يُفسَّر ذلك على أنَّه خضوع أمام الضَّغط الإسرائيلي أو قبول لحلّ الدَّولتين. حينها، أوضح ياسر عرفات، الَّذي يصفه موريس بأنَّ “خليفة الحاج أمين الحسيني على زعامة الحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة”، أنَّ قبول الفلسطينيين تأسيس دولتهم على أيّ مساحة من الأرض لا يعني الاستسلام، إنَّما الوصول إلى نهاية إحدى مراحل الكفاح (ص118). نصَّت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني لاجتماع 8 يونيو 1974م على فكرة “الكفاح المرحلي” لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأسيس دولة فلسطينيَّة، وأصبح ذلك بمثابة تحوُّل مبرَّر في موقف المنظَّمة، من الإصرار على حلّ الدَّولة الواحدة إلى القبول بحلّ الدَّولتين، تحت ذريعة أنَّ ذلك يمثّل مرحلة لا يمكن تفويتها في طريق الكفاح من أجل تأسيس دولة فلسطينيَّة ديموقراطيَّة على حدود فلسطين التَّاريخيَّة. دُعي عرفات، بصفته رئيس منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، لإلقاء خطاب أمام الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة في نوفمبر من عام 1974م، وردَّد في ذلك الخطاب أنَّه يرنو إلى اليوم الَّذي سيعيش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود في دولة واحدة، مندّدًا بالصُّهيونيَّة، الَّتي اعتبرها أساس العنصريَّة والتَّفرقة بين البشر. هكذا، تخلَّى عرفات عن اشتراط الميثاق الوطني الفلسطيني أن يكون اليهودي من سُكَّان فلسطين قبل عام 1917م حتَّى يُعتبر فلسطينيًّا.
في 22 مارس 1977م، في خضمّ الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة، وقتال منظَّمة التَّحرير مع سوريا، أعاد المجلس الوطني الفلسطيني استعداده لتأسيس دولة فلسطينيَّة صغيرة في أيّ مساحة ينسحب منها اليهود، على غير رضا الكثير من حركات المقاومة، ومن بينها الجبهة الشَّعبية لتحرير فلسطين والحركات الإسلاميَّة، الَّتي رفضت تأسيس دولة على غير كامل أراضي فلسطين. تطوَّر موقف منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة عام 1982م، مع عدوان الجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان وحصاره غرب بيروت وتدميره القوَّة العسكريَّة للمنظَّمة. اضطر عرفات وأعوانه إلى اللجوء إلى بلدان أخرى، منها تونس واليمن، لإعادة تنظيم صفوفهم، واستمرَّ الوضع على ما كان عليه حتَّى ديسمبر 1987م، حينما اندلعت الانتفاضة الأولى في غزَّة والضَّفَّة الغربيَّة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وكان ردُّ فعل منظَّمة التَّحرير وقتها هو إعلان الاستقلال الفلسطيني في 15 نوفمبر 1988م. وكما يذكر دون بيرتس في كتابه Intifada: The Palestinian Uprising-انتفاضة: الثَّورة الفلسطينيَّة (1990م)، سبق إعلان الاستقلال تصريحٌ للقيادي في المنظَّمة ومعاون ياسر عرفات، بسَّام أبو شريف، في يونيو من العام 1988م، عن استعداد المنظَّمة لقبول حلّ الدَّولتين وإحلال السَّلام الدَّائم القائم على الاعتراف المتبادل.
كتب نصَّ إعلان الاستقلال الشَّاعر الفلسطيني محمود درويش، ونقله إلى الإنجليزيَّة المفكّر والأكاديمي الأمريكي، فلسطيني الأصل، إدوارد سعيد. طالَب الإعلان أن تحذو فلسطين حذو الدُّول الأخرى الَّتي “انسلخت عن الدَّولة العثمانيَّة“، واعتبر منظَّمة التَّحرير “ممثلًا شرعيَّا ووحيدًا للشَّعب الفلسطيني، باعتراف المجتمع الدولي، متمثلًا بهيئة الأمم المتحدة ومؤسَّساتها والمنظَّمات الإقليميَّة والدُّوليَّة الأخرى“، وشدَّد على أنَّ دولة فلسطين “جزء لا يتجزَّأ من الأمَّة العربيَّة” وعلى “التزامها بميثاق جامعة الدُّول العربيَّة” وعلى “التزامها بمبادئ الأمَّم المتَّحدة وأهدافها وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. يُلاحظ تركيز إعلان الاستقلال على الانسلاخ من رابطة العالم الإسلامي، ألا وهي دولة الخلافة الإسلاميَّة، واعتباره ذلك تكريسًا للحريَّة الدّيموقراطيَّة؛ ويُلاحظ كذلك حرْص الإعلان على الاعتراف بولاء الدَّولة النَّاشئة للغرب، من خلال إعلان الالتزام بميثاق الأمم المتَّحدة؛ كما يُلاحظ اتّخاذ القوميَّة العربيَّة شعارًا ومرجعيَّة للدَّولة، دون أيّ إشارة تُذكر للهويَّة الإسلاميَّة. ما يثير الدَّهشة هو أنَّ الإعلان أشار إلى قرار الجمعيَّة العامَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة رقم 181، الخاص بتقسيم فلسطين، باعتباره مصدرًا لشرعيَّة إعلان الدَّولة، الَّتي تُعلن “انطلاقًا من قرارات القمم العربيَّة، ومن قوة الشرعيَّة الدُّوليَّة التي تجسدها قرارات الأمم المتَّحدة منذ عام 1947“، في اعتراف ضمني بدولة إسرائيل، الَّتي نصَّ القرار ذاته على تأسيسها. ينطوي الإعلان على مزيد من الرُّضوخ للاحتلال الإسرائيلي، من خلال عدم الإشارة إلى حدود للدَّولة الفلسطينيَّة، كما لم يشر إلى دولة إسرائيل صراحةً، واكتفى بذكر “الاحتلال”.
اتّفاقيَّة أوسلو والاعتراف بإسرائيل
واصل ياسر عرفات مهادنته لصالح الاحتلال، وأبدى استعدادًا للتَّفاوض على أساس قراري الجمعيَّة العامَّة 242 و338، ورضخ للضغوط الأمريكيَّة لقبول المشاركة في مؤتمر للسَّلام في مدريد في أكتوبر 1991م، بعد أن أصبحت منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة الممثّل الشَّرعي للفلسطينيين، وفق إعلان الاستقلال لعام 1988م. وبرغم إخفاق المؤتمر، استمرَّت المفاوضات بين الجانبين بعد أن وصل حزب العمَّال الإسرائيلي إلى سُدَّة الحُكم، بزعامة إسحق رابين، في يونيو 1992م. حقَّق طرفا النّزاع نجاحًا كبيرًا في رأب الصَّدع خلال أشهر قليلة، وفي سبتمبر 1993م، أرسل عرفات إلى رابين اعترافًا من منظَّمة التَّحرير بـ “أحقيَّة إسرائيل في أن تنعم بالسَّلام والأمن”، معلنًا قبوله قراري الجمعيَّة العامَّة 242 و338، والتزامه بالخيار السّلمي لفضّ النّزاع (ص127). من ناحيته، اعترف رابين بمنظَّمة التَّحرير ممثلًا شرعيًّا للشَّعب الفلسطيني، دون أيّ إشارة إلى اعترافه بدولة فلسطين المعلنة في 15 نوفمبر 1988م. أبرم عرفات ورابين في 13 سبتمبر 1993م في البيت الأبيض، في واشنطن العاصمة، وبحضور الرَّئيس الأمريكي بيل كلينتون (يناير 1993-يناير 2001م)، اتّفاقيَّة سلام تحت اسم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحُكم الذَّاتي الانتقالي، والَّتي عُرفت إعلاميَّا باسم اتّفاقيَّة أوسلو، نسبةً إلى العاصمة النُّرويجيَّة، حيث جرت المفاوضات السّريَّة بين الطَّرفين. بموجب الاتّفاقيَّة، أُسّست السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، وصارت المدن الكبرى في الضَّفَّة الغربيَّة (رام الله وبيت لحم وجنين وطولكرم ونابلس) تحت إدارتها. ومع كلّ تنازلاته لصالح الاحتلال، وبرغم اعترافه بإسرائيل، أصرَّ عرفاتـ رئيس السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، على أنَّ لم يزل يرفض حلَّ الدَّولتين!
تراجعت مسيرة إحلال السَّلام باغتيال إسحق رابين على يد أحد المتطرّفين اليهود في نوفمبر 1995م، حيث لم تشهد الفترة الأولى لتولّي بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، الحكومة (1996-1999م) أيَّ تقدُّم يُذكر بشأن مساعي السَّلام، خاصَّة مع استمرار العمليَّات الفدائيَّة، أو “الإرهابيَّة”، ضدَّ الإسرائيليين، بتغاضٍ من منظَّمة التَّحرير والسُّلطة الفلسطينيَّة. فشلت قمَّة كامب ديفيد في يوليو 2000م في توصُّل طرفي النّزاع إلى اتّفاق ملزم، ودار الخلاف حينها حول القُدس الشَّرقيَّة وجبل الهيكل وحدود الدَّولة الفلسطينيَّة، كما عجز بيل كلينتون قبيل تخلّيه عن السُّلطة في توفيق الطَّرفين إلى حلّ مُرضٍ. ويعلّق بيني موريس بقوله “إنَّ الفلسطينيين”، ويقصد بذلك منظَّمة التَّحرير وممثلوها، “ظلُّوا يطالبون بحلّ الدَّولتين على مدار سنوات”، دون موافقة من الإسرائيليين، وكانت المفاجأة أنَّهم رفضوا ذلك الحلَّ لما أقرَّه السّياسيون الإسرائيليون؛ ونُسب فشل القمَّة إلى تعنُّت عرفات وتخلّيه عن المرونة في التَّفاوض، كما صرَّح إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي (يونيو 1999-مارس 2001م) ومفاوِض عرفات حينها (ص139). لم يتوصَّل طرفا النّزاع إلى اتّفاق، وانهارت المفاوضات في 26 يوليو 2000م، لتندلع انتفاضة الأقصى في سبتمبر من العام ذاته، إثر اقتحام الجنرال العسكري والسّياسي البارز، ولاحقًا رئيس الوزراء الإسرائيلي (مارس 2001-أبريل 2006م)، أرئيل شارون المسجد الأقصى مع مجموعة من المستوطنين، معلنًا أنَّه منطقة إسرائيليَّة. أيقن الفلسطينيون عدم جدوى مفاوضات السَّلام ومزاعم الاحتلال استعداده التَّنازل عن أراضٍ لتأسيس دولة فلسطينيَّة مستقلَّة، مع استمراره في بناء المستوطنات وانتهاجه سياسة تعسُّفيَّة في الاعتقال والاغتيال وتعنُّته في الإفراج عن الأسرى والمعتقلين؛ وحينها انطلقت الاحتجاجات وتكرَّرت المواجهات بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال.
يتعمَّد موريس إظهار ياسر عرفات بالمتواطئ ضدَّ الاحتلال، والمتجاهل لانتهاكات المسلَّحين ضدَّ المستوطنين، برغم قبول منظَّمة التَّحرير بزعامته تقسيم فلسطين وحلَّ الدَّولتين، واستمرار النَّشاط الاستيطاني الإسرائيلي في المناطق الخاضعة للسُّلطة الفلسطينيَّة برئاسة عرفات، وبرغم اقتصار موقف عرفات ورجاله حيال حملات الاغتيال والاعتقال في حقّ النُّشطاء والسّياسيين الفلسطينيين على الشَّجب والتَّنديد. يُتَّهم عرفات بالإسهام في تفجير انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر 2000م من خلال خطابه المعادي للاحتلال، وبعدم التَّدخُّل لإنهاء حالة الاحتقان، وإن لم يُصدر أمرًا مباشرًا بالاحتجاج. شارَك عرفات في مفاوضات جديدة برعاية بيل كلينتون في ديسمبر 2000م، قبيل انتهاء فترته الرّئاسيَّة الثَّانية، وكانت نتيجة المشاركة الفشل من جديد في التَّوصُّل إلى حلّ لتأسيس دولة فلسطينيَّة وإحلال السَّلام. عُرف عرْض كلينتون بـ “معايير كلينتون” (The Clinton Parameters)، وكان عبارة عن معايير توجيهيَّة تقوم على انسحاب الإسرائيليين من 94 إلى 96 بالمائة من الضَّفَّة الغربيَّة ومن كامل أرا ضي قطاع غزَّة، مع الاعتراف بالسّيادة الفلسطينيَّة على جبل الهيكل، أو الحرم القُدسي كما يطلقون على موقع المسجد الأقصى، وإلزام الجانب الفلسطيني باحترام العقائد اليهوديَّة التَّي تفترض أنَّ هيكل سليمان وُجد في تلك البقعة، ممَّا يعطي الإسرائيليين جانبًا من السّيادة عليها. أمَّا بالنّسبة إلى حقّ العودة للمهجَّرين من فلسطين في أعقاب حرب 1948م، فقد نصَّت معايير كلينتون على تعويضهم وإعادة توطينهم خارج فلسطين، حيث اعتُبر أنَّ في عودتهم تهديدًا للهويَّة اليهوديَّة للدَّولة. وبرغم الموافقة المبدئيَّة للطَّرفين، أبدى عرفات اعتراضه على عدَّة أمور، من بينها تقاسُم السّيادة على جبل الهيكل، أو الحرم القُدسي، بين الطَّرفين، وعدم تعويض الفلسطينيين عن التَّضييق الاقتصادي والاستحواذ الإسرائيلي على الموارد المائيَّة على مدار عقود، وإلغاء المعايير حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، والوجود الإسرائيلي على شريط نهر الأردن في الضَّفَّة الغربيَّة، علاوة على صعوبة تأسيس دولة فلسطينيَّة تشمل أراضي غزَّة والضَّفَّة الغربيَّة تتخلَّلها دولة الاحتلال وتربط بين طرفيها طرقٌ بريَّة. وصلت تلك المفاوضات إلى طريق مسدود مع وصول جورج دابليو بوش إلى حُكم أمريكا (يناير 2001-يناير 2009م)، وعدم دعمه تلك الخطَّة.
إلى ما ستؤول الأمور؟
ينهي المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس دراسته التَّفصيليَّة بخصوص سُبل حلّ الصّراع العربي-الإسرائيلي والحلول المقترَحة على مدار قرن كامل من الزَّمان لإنهاء الصّراع وإحلال السَّلام، بطرح سؤاله “Where to?”، أو إلى أين، ويقصد إلى أين ستتَّجه المفاوضات وإلى ما ستفضي. من الملاحظ أنَّ السّيادة الإسرائيليَّة على أرض فلسطين التَّاريخيَّة تزداد بمرور الوقت، ولم يعد للفلسطينيين أكثر من 22 بالمائة من تلك الأرض، وهي مساحة أصبحت مهدَّدة بعد إعلان الاحتلال استعداده لضمّ مستوطنات الضَّفَّة الغربيَّة وغور الأردن، بموجب صفقة دونالد ترامب للسَّلام، المبرمة في 28 يناير 2020م، والمعروفة باسم صفقة القرن. ويعني اتّساع رقعة دولة إسرائيل تضاؤل فرص تطبيق حلّ الدَّولتين، الَّذي هو في الأصل اعتراف بشرعيَّة الاحتلال وإضاعة لحقّ الفلسطينيين في كامل أراضي فلسطين التَّاريخيَّة، أو لتقل الأرض المقدَّسة.
يلقي موريس باللوم على الحاج أمين الحسيني، زعيم الحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، في تعنُّته في الإصرار على تأسيس دولة عربيَّة في فلسطين، مع إنكار تامّ لأيّ حق لليهود في تلك الأرض، وكأنَّما كان ذلك التَّعنُّت السَّبب في اندلاع حرب 1948م. احتفظ ياسر عرفات بذلك التَّعنُّت، ثمَّ لان موقفه لاحقًا بقبول حلّ الدَّولتين مؤقَّتًا، فيما أطلق عليه “الكفاح المرحلي” في مواجهة الاحتلال. عُدَّل الميثاق الوطني الفلسطيني، الَّذي أصدره المجلس الوطني الفلسطيني لأوَّل مرَّة في مايو 1964م، لينصَّ على أن تكون الدَّولة فلسطينيَّة “ديموقراطيَّة علمانيَّة” تسمح بحريَّة المعتقَد وبزيارة الأماكن المقدَّسة، لكنَّ ذلك لا يقنع المواطن الإسرائيلي بأنَّ دولة فلسطينيَّة تتمتَّع بالسيادة على جبل الهيكل ستتعامل مع اليهود بتسامح عند زيارة موقع هيكلهم، كما يشير موريس الَّذي يتساءل “أيُّ مجتمع عربي مسلم في العصر الحديث عامَل المسيحيين واليهود والوثنيين والبوذيين والهندوس بتسامح وعلى قدم المساواة؟ لماذا يمكن أن نظنَّ أنَّ مسلمي فلسطين سيختلفون عن ذلك النَّهج؟” (ص168-169). يضيف موريس أنَّ أمين الحسيني، وهو أوَّل زعيم بارز للحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، كان رجل دين متسلّطًا يحكم بالسّلاح، واستخدم الخطاب والرُّموز الدّينيَّة في تحريك الجماهير ضدَّ “المحتل الكافر”، وتلك اللهجة هي الأقرب إلى قلوب الفلسطينيين، كما يدَّعي المؤرّخ الإسرائيلي؛ وكأنَّما أراد القول إنَّ العقليَّة المسلمة لا تعرف التَّسامح الدّيني وتميل إلى العنف المسلَّح، ويعني ذلك أنَّ رفع شعار الدَّولة الدّيموقراطيَّة العلمانيَّة لا يعبّر عن كافَّة الفلسطينيين، ويبدو مجرَّد ادّعاء لتحقيق أهداف سياسيَّة. ما يثبت ذلك أنَّ ياسر عرفات، ثاني أبرز زعيم للحركة الوطنيَّة بعد الحسيني، طالما أعلن تأييده لحلّ الدَّولتين، وطالما عارَض كذلك الحلول المقترحة لفضّ النّزاع، بدايةً من عرْض الحُكم الذَّاتي لغزَّة والضَّفَّة الغربيَّة المقترح خلال مفاوضات كامب ديفيد لعام 1978م، ليتحمَّل وحده مسؤوليَّة فشل مفاوضات كامب ديفيد في يوليو 2000م، وكذلك فشل مشروع “معايير كلينتون” في ديسمبر من العام ذاته. ويفسّر موريس رفْض عرفات المتكرّر بأنَّه “كان لم يزل متعلّقًا بحل الدَّولة الواحدة ويريد كامل فلسطين” (ص173).
(المصدر: رسالة بوست)