تأمُّلات في سِيَر القدوات
بقلم نايف بن محمد اليحيى
بعد غزوة حُنَين قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه، فقال رجل: (ما أراد محمد بهذا وجه الله) فانطلق ابن مسعود – رضي الله عنه – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فتمعَّر وجهه الشريف وقال: «رحم الله موسى قد أُوذِي بأكثرَ من هذا فصبر»[1]؛ فما الذي أوذي به موسى -عليه السلام – حتى تعزَّى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم به في مثل هذا الموقف من بين سائر الأنبياء؟
تأملتُ هذا في حاله – عليه السلام – مع قومه وما قص الله – عز وجل – علينا في كتابه من خبره فوجدت أمراً انفرد به في ظهوره وتجلِّيه عن إخوانه من الأنبياء – عليهم السلام – وله ارتباط بالخبر الذي افتتحتُ مقالتي به، وكثيراً ما عانى من هذا الأمر الدعاة والمربون والسائرون على خطى الإصلاح للمجتمع والأمة، وكان عائقاً لبعضهم عن مواصلة السير أو مُضْعِفاً له.
إذا كنا نتفق على أن تجاهل الجميل ونسيان الإنعام صعب وشاق على من وقع في حقه؛ فكيف إذا كان أسوأ من ذلك؛ بمقابلة الإحسان بالإساءة والعدوان، والكرم باللؤم والدناءة؟ لأن النفوس كثيراً ما تتعلق بالمكافأة العاجلة والثناء الحاضر، وتحبُّ تثمين الجهد الذي قامت به ونصبت من أجله، وهذا حق وواجب للمحسن ليُكافَأ مقابل إحسانه.
ولكن هذا – غالباً – لا يتأتَّى، ولا يُنَال في عتبات الإصلاح، ولا بد لمن أراد الثبات والترقي من قدواتٍ يستلهم من سِيَرهم ما يكون زاداً ووقوداً يقويه عند الضعف، ويدفعه عند التباطؤ.
ولعلِّي أعرض طَرَفاً من حال الكليم – عليه السلام – ثم نعرِّج على بعض ما فيها من الدروس والعبر. ويصور هذا العناءَ موسى – عليه السلام – في اللقاء العلوي السماوي مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «وإني – والله – قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة»[2].
تأمل معي حال بني إسرائيل قبل بعثة موسى – عليه السلام – وكيف وصفهم الله بأنهم: {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: ٥] وفرعون {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: ٤]، ثم مع كل هذا الاستعباد والذل والمهانة، ينجيهم الله من كل ذلك على يدي موسى – عليه السلام – في آية باهرة وقدرة قاهرة، ويهلك عدوهم الطاغية، ثم لا تجف أقدامهم من البحر إلا وقد رفعوا حناجرهم عند رؤية أولئك الوثنيين قائلين: {اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؛ فيالله ما أشد وأقسى وقع هذه الكلمة وهي تطرق سمع موسى – عليه السلام – مناقضة لأعظم المقاصد التي يحملها في دعوته ورسالته التي من أجلها قارع فرعون وقاومه، ومع ذلك لم يزد على أن قال: {إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138 إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138 – 139]، ثم ذكَّرهم نعمةَ الله وفضلَه عليهم: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 140]، فحافظ على هدوئه، واستمر في منهجه، ولم تهن عزيمته.
ولم يقف الأمر عند هذا، فلم تمضِ إلا فترة يسيرة ويذهب بعدها لميعاد ربه، فيخبره الله – تعالى -: {قَالَ فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85]، فيرجع إليهم {غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86]، فهذه المرة لم يكتفوا بالقول، بل عبدوا العجل بالفعل ولم يراعوا وجود أخيه نبيِّ الله هارون الذي نهاهم وحذَّرهم، ولا التفتوا لتعاليم موسى – عليه السلام – الذي أرشدهم وعلَّمهم، وما أقاموا وزناً لحق ربهم – جل وعلا – الذي خلقهم وصوَّرهم.
ومع هذا الانتهاك الصَّارخ والاستهتار البالغ يعالج الأمر ويدرؤه، ويعظهم ويرهبهم، ثم يأتيهم بعد ذلك بالتوراة فيها حكم الله، قد كتبها الله إكراماً من لدنه وإنعاماً، فيأمرهم باتِّباع ما فيها فيأبَون ويمتنعون حتى يبيِّن لهم ما فيها من الأحكام؛ فإن كانت سهلةً قبلوها وإلا رفضوها، ولم يستجيبوا لِما فيها حتى رفع الله فوقهم الجبل عقوبةً: {وَإذْ نَتَقْنَا الْـجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: ١٧١]، فيتوعدهم الله بإسقاط الجبل عليهم إن لم يقبلوا ويتوبوا، فسجدوا كرهاً وهم رافعو الجباه يرمقون الجبل خشية سقوطه عليهم[3].
ثم لما سار بهم إلى الأرض المقدسة، يبشرهم بوعد الله لهم بفتحها مخاطباً إياهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، لكنهم دفعوا وعد الله ورفضوا الدخول حتى يخرج الجبَّارون منها، وخاطبوا موسى بسفاهة وحمق: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فعاقبهم الله بالتيه.
وموسى – عليه السلام – على الرغم من كل ما سبق من رذالتهم وإساءتهم صابر لأمر ربه يدعوهم ويصلحهم، لم يسأم ويمل من طلب هدايتهم. ثم وهم في التيه يُنعِم الله عليهم بنعمة لم ينلها أهل المدن والحواضر، ويُنزِل عليهم المنَّ والسلوى، ومع هذا تزداد جرأتهم ووقاحتهم فيقولون: {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [البقرة: 61]، ويقولون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: ٥٥]؛ أي: عياناً بأبصارهم[4]، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
بل وصل أذاهم له بلمزه بأنه (آدَر) {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}. [الأحزاب: 69]
وتُدرك موسى – عليه السلام – المنيَّةُ وتحول دون أمنيته في دخول الأرض المقدسة، فيسأل الله أن يُدنيَه منها رمية بحجر، فاستجاب له ربُّه وحقَّق له سؤله فأدناه إلى حيث طلب[5].
ولنا في قصَّة نبي الله موسى مع قومه وما لقيه منهم من عنتٍ وسوء عبرٌ ووقفات:
1- أن موسى – عليه السلام – لم ينل تلك المنزلة الرفيعة، بأن جعله الله من أولي العزم من الرسل إلا لعزيمته وصدقه مع الله، وصبره على أذى الخلق؛ ولذا عفا اللـه عنه في حوادث عدة: كفَقئه عين ملك الموت، وكسره الألواح، وجرِّه رأس هارون أخيه وهو نبي، وعتابه لربه في ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه، (وربه – تعالى – يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدللـه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة… فكانت هذه الأمور [كالقطرة] في البحر)[6].
2- أنَّ هذا طريق الأنبياء والمصلحين والدُّعاة؛ فكلما قوي حظ المؤمن من متابعتهم زاد نصيبه من البلاء والابتلاء، وما مضى من مواقف تَلحَظُ أن كلها إساءة من قِبَل الأتباع لا من الأعداء؛ ولذا عز وَقْعُها على موسى – عليه السلام – {غَضْبَانَ أَسِفًا}، ومثله: (تمعُّر وجه نبينا صلى الله عليه وسلم وتغيُّره) لما سمع مقولة الأنصاري، فأنت ترى ألمها وشدة أثرها عليه، ما لا تراه حين وُصِم صلى الله عليه وسلم بأشنع منها من المشركين بقولهم: (ساحر – كاهن – مجنون).
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وَقْعِ الحسامِ المهندِ
3- في ترسُّم خطى الأنبياء – عليهم السلام – واقتفاء آثارهم، والاقتداء بهم، سلوة وعزاء لمن وقع في الابتلاء، ولابن بطال – رحمه الله – تعليق جميل على قول النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» يقول فيه: «في تمعُّر وجه النبي – عليه السلام – حين أُخبِر بقولة الأنصاري من الفقه: أن أهل الفضل والخير قد يعزُّ عليهم ما يقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلَّة في البشر؛ إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل اقتداءً بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى في ذلك بصبر موسى»[7]، ويقول القشيري: «وأجرى – تعالى – سنَّته في كتابه أن يَذكُر قصَّة موسى – عليه السلام – في أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فيعقبه بذكر موسى، عليه السلام»[8] ولعلَّ ذلك ليتعزى به ويسلو بما جرى له، {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
4- على الرغم من كل هذا العناء والابتلاء، إلا أن المؤمن يرقب فجر الأجر، فيهون عليه في ذلك عبء التكليف، ومن عرف نور النهاية هانت عليه شدائد البداية، والنصر مع الصبر، وتأمل في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – يرفعه: «فَرُفع لي سواد عظيم فقلت: أمتي هذه؟ قيل: بل موسى وقومه»[9] فلم يضيع الله سعي موسى وصبره، فكانت مكافأته أن تكون أمته ثاني أمة يوم القيامة، وكما قال الشافعي: (اُذكر رِِضى مَنْ تطلب، وفي أي نعيمٍ ترغَب، ومن أي عِقاب ترهب، فمنْ فكر في ذلك صَغُر عنده عمله)[10].
5- {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: ٩]، هذا شعار المربي والداعية؛ فالدَّاعية الصَّادق هو الذي قد قطع الطمع من الخلق وتعلَّق بطلب الأجر من الخالق، وعلى قدر النَّصَب يكون الأجر، وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة عظة وعبرة، فأحدهم حفظ مال الأجير الذي ذهب عنه، وأنماه له حتى رجع بعد زمن فإذا بأجرته الصغيرة قد أصبحت وادياً من بهيمة الأنعام، فأعطاه إياها فساقها جميعاً ولم يعطِ سيده منها شيئاً، بل ولم يقدم له كلمة شكرٍ واحدةٍ مقابل حفظه ورعايته، فكان ذلك عملاً صالحاً حفظه الله له عند توسله به فأفرج عنهم جانباً من الصخرة.
6- أعظم زاد يحمله المصلح هو صدق اللَّجَأ إلى الله – سبحانه وتعالى – وتصفية القلب والنية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وكما قال ابن تيمية – رحمه الله -: (ما لا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفَع ولا يَدوم)[11].
نسأل الله أن يرزقنا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وشكرَ نعمته، وحُسْنَ عبادته.
[1] أخرجه البخاري (3150)، ومسلم (1062).
[2] «عالجتُ بني إسرائيل» أي: مارستهم ولقيت منهم الشدة في ما أردت منهم من الطاعة، والمعالجة مثل المزاولة والمجادلة. عمدة القاري: (17/129).
[3] انظر: البداية والنهاية: (2/163).
[4] انظر: جامع البيان للطبري: (9/358).
[5] أخرجه البخاري (1339)، ومسلم (2372).
[6] المستدرك على مجموع الفتاوي: (1/132).
[7] شرح ابن بطال على البخاري: (9/252).
[8] لطائف الإشارات: (2/447).
[9] أخرجه البخاري (5705)، ومسلم (220).
[10] سير أعلام النبلاء: (10/43).
[11] مختصر الفتاوى المصرية: (1/174).
(المصدر: مجلة البيان)