مقالاتمقالات مختارة

تأصيل مستثنيات قاعدة لا ينسب إلى ساكت قول

بقلم أ. محمد جبر الألفي

يختلف منهج الأصوليين في تأصيل الاستثناءات التي خرجت عن قاعدة: “لا يُنسب إلى ساكتٍ قول” عن المنهج الذي اتبعه الفقهاء، وذلك على التفصيل الآتي:

أولًا: معيار الأصول:

وضع علماء أصول الفقه – بمناسبة حديثهم عن كيفية استثمار الأحكام من الألفاظ – معيارًا عامًّا يقسم الدلالة إلى دلالة لفظية، ودلالة غير لفظية[1].

أ- فالدلالة اللفظية: هي تلك التي تعتمد النص أو اللفظ، سواء أكان ذلك في محل النطق (دلالة المنطوق)، أم كان في غير محل النطق (دلالة مفهوم الموافقة ودلالة مفهوم المخالفة).

ب- والدلالة غير اللفظية: – وتسمى بيان الضرورة، وتلحق باللفظية في إفادة الحكم[2] – تنقسم إلى أقسام، كلها دلالة سكوت[3]:

1- أن يلزم عن مذكور مسكوت عنه، كما في قول شخص لآخر: دفعت لك مالي مضاربة على أن لك نصف الربح، فهذه الصيغة تدل على انحصار الربح فيهما، وقد بين نصيب أحدهما، فيلزم منه أن نصيب الثاني هو الباقي، وواضح أن مجرد السكوت لا يدل على ذلك، وإنما هو ناتج من الانحصار.

2- دلالة حال الساكت الذي يلزمه البيان “السكوت الذي يكون بدلالة حال المتكلم”[4]: كسكوت البِكر إذا استأذنها وليها أو رسولُه في تزويجها من معين، فسكتت؛ فإن هذا ينزل منزلة الرضا؛ لدلالة الحال[5].

3- اعتبار سكوت الساكت دلالة كالنطق لدفع التغرير: فالولي أو الوصي أو القيم الذي يرى مَن تحت ولايته يبيع – ولا ينهاه – يدل بموقفه هذا على إذنه له في التصرف، فلو لم يعتبر ذلك إذنًا لكان تغريرًا بالناس؛ إذ هم يستدلون بهذا السكوت على الإذن، فلا يمتنعون عن التعامل معه.

4- دلالة السكوت على تعيين معدود يستدل على حذفه، ولا ضرورة لإطالة الكلام بذكره، كما يقولون: مائة ودرهم، أو مائة ودينار، فالسكوت عن مميز المائة يدل عرفًا على أنه في الأول: درهم، وفي الثاني: دينار.

وظاهر أن الدلالة في هذه الأحوال ليست لمجرد السكوت، وإنما هي للقرائن التي حفت بالسكوت.

ثانيًا: معيار الفقه:

انتقل معيار الأصول إلى المؤلفات الفقهية وكتب القواعد؛ حيث نلحظ تمييزًا جليًّا بين الدلالة اللفظية والدلالة غير اللفظية، مهما تنوعت العبارات المستخدمة.

من ذلك قولهم: “… لأن جواز البيع باعتبار الرضا، لا بصورة اللفظ[6]“، وقولهم: “العقد قد ينعقد بالدلالة كما ينعقد بالتصريح[7]“، وقولهم: “الشرط قد يثبت نصًّا أو دلالة[8]“، وقولهم: “كل ما يدل على ما في نفس الإنسان من غير النطق، فإنه يقوم مقام النطق[9]“، وقولهم: “والدال عرفًا أعم من أن يكون لفظًا أو غيره، ككتابة أو إشارة”، قال بعضهم: أو عادة، كتصرف الزوج لزوجته في مالها، وهي عالمة ساكتة، أو تصرفه لإخوته كذلك، فإنه محمول على التوكيل، فيمضي فعله[10]“.

وقولهم: “والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها[11]“، وقولهم: “فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العام وتقييد المطلق وغيرهما[12]“.

وجملة القول: أن ضابط “السكوت في معرض الحاجة بيان” يلزم تطبيقه في خمسة مواضع:

الموضع الأول: أن تكون هناك دلالة من حال المتكلم: وأوضح مثال لذلك هو سكوت البِكر عند استئذان وليها لها قبل التزويج، فإن سكوتها يكون كصريح القول بالقَبول، ويكون العقد لازمًا، فإن حالتها (وهي استحياؤها عن إظهار الرغبة في الرجال، لا عن إظهار عدمها)، تدل على أن سكوتها – مع إمكان تصريحها بالرد، ولا حياء يمنعها – بيانٌ وإفصاح[13]، “والمعول عليه اعتبار قرائن الأحوال[14]“.

والموضع الثاني: أن تكون هناك ضرورة لدفع غرر أو ضرر[15]: مثال ذلك: أن يسكت الشفيع حين علمه بالبيع، فإنه تسليم للشفعة[16]؛ لأنه إذا لم يجعل تسليمًا، كان تغريرًا للمشتري وإضرارًا به، إما بامتناعه عن التصرُّف، أو بنقضِ الشفيع تصرُّفَه إذا تصرف.

والموضع الثالث: ما يُبنى من الأحكام على العرف: كما لو رأى العدو يقصد مال غيره الغائب، فبادر وصالحه على بعضه، كان محسنًا ولم يضمن، وكذلك لو استأجر غلامًا فوقعت الأكلة في طرَف من أطرافه بحيث لو لم يقطعه سرى إلى نفسه، فقطعه، لم يضمنه، “وأضعاف أضعاف هذه المسائل، مما جرى العمل فيه على العُرف والعادة، ونزل ذلك منزلة النطق الصريح[17]“.

والموضع الرابع: قد تُبنى بعض أحكام السكوت على الاستحسان، مثال ذلك: سكوت القريب أو أحد الزوجين، إذا رأى قريبه أو زوجه يبيع شيئًا، فإنه اعتراف منه بأنه لا حق له فيه[18]، فالقياس في هذا الفرع ألا يكون السكوت اعترافًا؛ لانتفاء دلالة الحال، وعدم وجود ضرورة لدفع الغرر أو الضرر، ولم يجرِ العُرف باعتبار السكوت هنا إقرارًا، ولكن الاستحسان في هذا الحُكم ورد قطعًا للتزوير الممكن بين الأقارب أكثر من غيرهم[19].

والموضع الخامس: ما يُبنى من الأحكام على الاستصحاب: مثاله: ما إذا طلب المؤجر من المستأجر زيادة معينة على الأجر المسمى – بعد انتهاء مدة الإجارة – لزمته الزيادة إذا انقضت المدة وظل حائزًا للعين المؤجرة دون اعتراض؛ ذلك أن سكوت المستأجر جاء في وقت الحاجة إلى البيان، فيعتبر قبولًا[20].

ومثله: ما إذا انقضت مدة الإجارة وبقي المستأجر حائزًا للعين المؤجرة، بعلم المؤجر ودون اعتراض منه، فإن الإجارة تتجدد بنفس الشروط السابقة؛ ذلك أن بقاء المستأجر في انتفاعه بالمأجور يُعَد استصحابًا للتعامل السابق، وسكوت المؤجر على مسلك المستأجر – دون اعتراض – يدل على قبوله تجديد الإجارة [21].


[1] يراجع في الدلالات – بوجه عام – كتب الأصول المعتمدة، ومن أشهرها: الآمدي، سيف الدين أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1347هـ، البخاري، علاء الدين عبدالعزيز، كشف الأسرار على أصول البزدوي، إستانبول، 1308هـ، ابن حزم، علي بن أحمد، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، ابن قدامة، موفق الدين، عبدالله بن أحمد، روضة الناظر وجنة المناظر، السلفية، القاهرة، 1397، البصري، أبو الحسين (المعتزلي)، المعتمد، دمشق، 1964، الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الشريعة، القاهرة، 13411هـ.

[2] البخاري، كشف الأسرار، مرجع سابق، جـ3، ص148.

[3] الخضري، محمد، أصول الفقه، الطبعة السادسة، القاهرة، ص109 – 203، 1969م، إبراهيم، أحمد، علم أصول الفقه، دار الأنصار، القاهرة، ص26 – 83.

[4] البخاري، كشف الأسرار، جـ3، ص148.

[5] التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر، شرح التلويح على التوضيح، الخيرية، القاهرة، د. ت: جـ2، ص30، أمير بانشاه، محمد أمين، تيسير التحرير، مصطفى الحلبي، جـ1، مصر، ص84، 1350هـ.

[6] الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، جـ4، بولاق، مصر، ص4، 1315.

[7] السرخسي، المبسوط، مرجع سابق، جـ11، ص150.

[8] الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، جـ5، القاهرة، ص261، 1910.

[9] الونشريسي، إيضاح المسالك، مرجع سابق، ص159.

[10] الدردير، شرح الصغير، مرجع سابق، جـ3، ص506.

[11] ابن القيم، إعلام الموقعين، مرجع سابق، جـ1، ص218.

[12] ابن عبدالسلام، عز الدين، عبدالعزيز، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الشروق، جـ2، ص121.

[13] الزرقا، أحمد بن محمد، شرح القواعد الفقهية، مرجع سابق، ص238 – 239.

[14] ابن الهمام، كمال الدين بن عبدالواحد، فتح القدير، جـ2، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر، 398، 1316هـ.

[15] الزرقا، مرجع سابق، ص340 – 341.

[16] ابن نجيم، الأشباه والنظائر، بشرح الحموي، جـ1، ص441.

[17] ابن قيم الجوزية، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، قدم له وعرف به: محمد محيي الدين عبدالحميد، راجعه وصححه: أحمد عبدالحليم العسكري، القاهرة، ص27، 1380هـ، 1961م.

[18] ابن نجيم، الأشباه والنظائر، بشرح الحموي، جـ1، ص443، الرابعة والعشرون: سكوتُه عند بيع زوجته أو قريبه عقارًا، إقرارٌ بأنه ليس له، على ما أفتى به مشايخ سمرقند، خلافًا لمشايخ بخارى.

[19] الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص344، ابن البزاز، الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية، مرجع سابق، جـ2، ص405 – 406.

[20] الفتاوى الهندية، جـ1، ص409، شيخ زاده، عبدالرحمن بن سليمان، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، جـ2، المطبعة العامرة، إستانبول، ص267، 1328هـ.

[21] الفتاوى الهندية، جـ1، ص409، شيخ زاده، مجمع الأنهر، جـ2، ص368، الدردير، الشرح الصغير، جـ3، ص506، باز، شرح المجلة، جـ1، ص244 – 245.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى