مقالاتمقالات المنتدى

بين سيرتين عطرتين لعظيمين من عظماء التأريخ

بين سيرتين عطرتين لعظيمين من عظماء التأريخ

بقلم د. عبدالله بن غالب الحميري (خاص بالمنتدى)

بين سيرتين عطرتين لعظيمين من عظماء التأريخ، نبي مكلم، وصِدِّيق ملهم، (مــوسـى بن عمـران صلوات الله وسلامه عليه، وعمـر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه) ..

  إذا كان الرجل العظيم هو من يجعل من حوله يشعرون أنهم عظماء، فذلك هو ما فعله موسى عليه السلام، حين جعل من القوم المُستضعَفين بمصر قوة موحدة تتحدى الطغيان وتفارق الأوطان .. وهو ما فعله عمر رضي الله عنه، حين يمم وجهه شطر فارس والروم وأطلق حركة الفتوح، وحقق نبوءة «فأخذ الدلو عمر فاستحالت في يده غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روي الناس».

ذاك ابن عمران، وهذا عمر.

ذاك موسى، وهذا الفاروق.

والحق ركنان : بنّـاءٌ وهـدّام.

ذاك عاصر فرعون المتألّه وتربى في ظلّه، وهذا عاصر فرعون هذه الأمة وكان من أخواله.

ذاك نبي معلّم مكلّم، وهذا صدّيق شهيد ملهم.

تشابها في الخَلْق والجسامة والطول، وتشاكلا في الأخلاق والطبائع والعقول! الجاذبية والسر الغريب (الكاريزما)، القيادة الفطرية، أولياء الله من هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل. لا غرو أن يقارن الاسم الاسم، ويقارب الرسم الرسم.

جرأة موسى حتى في حواره مع ربه حين سأل بإدلال المحب: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (143 الأعراف). جرأة عمر في صلح الحديبية: “عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟”

في أسرى بدر رأى أن يُجندل الأسرى على جنوبهم، فكان شبيهاً لموسى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (88 يونس). أتى بصحيفة من التوراة، فبادره رسول الله: “لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي”. يذهل لخبر الرحيل فيرقى المنبر متحدّثاً بالظن أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه.

غضب موسى للإسرائيلي المظلوم وأردى المعتدي، فكانت بداية مفاصلته للقصر وخروجه من مصر. وغضب عمر من حصارٍ ظالمٍ فأعلن إسلامه وقاتل دونه، وهاجر علانية.

نمطٌ من العظماء يتميّز بالقوة والشدة والصلابة والحزم؛ في الخطاب الموسوي {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} (102 الإسراء). وفي الخطاب العمري لأبي سفيان: “أنا أشفع لكم؟ لا والله، والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به”.

يأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، في لحظة انفعال وغيرة على التوحيد، ويشتد عمر على أبي هريرة؛ حياطةً للدين وخشية من سوء الفهم للوعد بالجنة لمن شهد شهادة الحق: “لا تبشر الناس أخشى أن تبشرهم فيتكلوا”.

شدة موسى مع فرعون، مع بني إسرائيل، مع أخيه، حتى مع الحجر حين ضربه بعصاه. وشدة عمر على نفسه، وأمرائه، وأبنائه، وخدمه، حتى مع الحجر الأسود : “إِنّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِيَ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ” (متفق عليه).

جرأة موسى حتى في حواره مع ربه حين سأل بإدلال المحب: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (143 الأعراف). جرأة عمر في صلح الحديبية: “عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟”، وفي الصلاة على عَبْدِ اللهِ بن أُبَيّ بن سَلُول: “أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ؟، وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ”، وفي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ” (رواه البخاري ومسلم).

حسمٌ مع رؤوس الخيانة بلا تردد، خطاب موسى للسامري كخطاب عمر لابن سلول.

انكسارٌ عند الخطأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (16 القصص). وقال عمر في خلوته: “عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! بَخٍ بَخٍ.. وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ”.

غضبٌ لله يثور ثمّ يسكت فيأخذ موسى الألواح. يسمع عمر من يسبّه: (وَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ)، فيهمّ به فيذكره جليسه بـ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199 الأعراف) فوالله ما جاوزها وكان وقّافاً عند حدود الله.

“موسى وعمر” قيادة نادرة استثنائية تتخذ القرار الحازم الحكيم وتمضي إليه بثقة دون التفات، فربما كان بينها وبين الأتباع مسافة غطاها هارون المحبب في قومه، كما غطاها عثمان وأصحاب الشورى لدى عمر.

شخصيات حاسمة عظيمة تصنع الفرق، بعد موسى عبدوا العجل واستضعفوا هارون وتآمروا لقتله، وكان عمر الباب الذي يكسر فتظهر الفتن.

التواضع والبساطة لا تمنع الهيبة والخشية من المؤاخذة، فهذا النمط الحازم لا يهادن الخطأ ولا يصبر عليه.

كان فرعون يخاف من موسى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} (35القصص). وكان عمر مهيباً يَفْرَقُ الشيطان من ظلّه.

نكل بنو إسرائيل عن دخول القدس، ودخلها عمر بجند الله.

القيادة تحتاج لأتباع جيدين! سقى موسى للفتاتين، وأبصر عمر ناراً تضوي فقال: “أرى قوماً قصر بهم البرد والليل، فحمل جراب دقيق وشحم، وطبخ لهم”، وسمع المرأة تقول: “الله حسيبنا على عمر يتولى أمرنا ويضيعنا!”.

رقةٌ أمام حالات الضعف الإنساني ونجدةٌ وشهامة لا تعرف الرياء، ولا تنشغل بهما عن هم غيرها.

وعيٌ بالمتغيرات وتكيف مع المستجدات، ما بين القصر إلى الاستخفاء إلى الصحراء إلى مَدين، وما بين الإسلام العلني فالهجرة فالوزارة فالإمارة.

{الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26 القصص)، توسّم فتاة ذكية خليقة بأن تكون زوج نبي، وهما شرط النجاح القيادي في رؤية عمر: (أشكو إلى الله ضعف الثقة وخيانة القوي).

العدالة والأمانة وإجراء الحق على القريب والبعيد، ومواجهة التحديات والمصاعب بلا تردد، وتكريس الحياة للمبادئ العظيمة.

قيادة نادرة استثنائية تتخذ القرار الحازم الحكيم وتمضي إليه بثقة دون التفات، فربما كان بينها وبين الأتباع مسافة غطاها هارون المحبب في قومه، كما غطاها عثمان وأصحاب الشورى لدى عمر.

إياك أن تأخذ من موسى قوته وتنسى رقته.. أو من عمر حزمه وتنسى عدله.. هي معادلة الجناحين.. قوة اليد في أخذ الحق، وقوة الظهر في تحمّل المسؤولية

تمنى موسى القرب من الأرض المقدسة عند احتضاره، وكان في دعاء عمر: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك.

أيقن موسى ألا فكاك من الموت فقال: ربّ فالآن، وقال عمر: اللهم كثرت رعيتي ورقّ عظمي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيّع. موسى يلطم ملك الموت، وعمر يخاطب شاباً بشأن إسبال ثوبه ويوصي بالمهاجرين والأنصار، وبطنه يَثْعَبُ.

رباطة جأش حتى اللحظة الأخيرة. عاشوا حياةً واحدة، لكنها تشعّبت وأشرفت في أرواحٍ أحبتهم وارتسمت في عيونٍ لمحتهم، وألهمت من بعدهم معاني الصبر والإحسان والأمل.

هكذا كانوا..

إياك أن تأخذ من موسى: {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} (15 القصص)، وتنسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي..} (16 القصص). أو أن تأخذ من عمر (لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به..) وتنسى (أرى قوما قصر بهم البرد والليل..).

إياك أن تأخذ من موسى قوته وتنسى رقته.. أو من عمر حزمه وتنسى عدله.. هي معادلة الجناحين.. قوة اليد في أخذ الحق، وقوة الظهر في تحمّل المسؤولية..

لا تطل يدك وتضعف ظهرك، ولا تنظر لزاوية دون أخرى.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى