مقالاتمقالات مختارة

بين حراسة الجدران وسيف القدس.. معركة معرفية بين حماس وإسرائيل

بين حراسة الجدران وسيف القدس.. معركة معرفية بين حماس وإسرائيل

بقلم هشام جعفر

انتفاضة القدس 2021 استدعاء متجدد للأبعاد المعرفية/القيمية للصراع، وهي في تجددها تستند إلى عناصر ثمانية:

أولا: التسمية

“حراسة الجدران” هذا ما أطلقه الكيان الصهيوني على اعتدائه على غزة مايو/أيار 2021، في حين أطلقت المقاومة الفلسطينية على حملتها اسم “سيف القدس”، والتسميتان تحملان دلالات عديدة لنا ولهم: المقاومة في وضعية المبادرة، في حين الكيان في موقف الدفاع والحماية، المقاومة تدرك رمزية القدس وأهميتها المعرفية/القيمية للصراع، ومن ثم تقوض حماس سيادة إسرائيل في القدس، في مقابل الجدران التي لا معنى لها، فهي أبنية صماء بلا تاريخ، والمهم حمايتها وحراستها لأنها موطن الإقامة فقط.

كانت عملية “حراسة الجدران” جولة أخرى في الصراع غير المتكافئ بينهما، وينطبق هذا التباين أيضا على أهداف العملية، فبينما كانت أهداف حماس سياسية ومعرفية كانت أهداف إسرائيل عسكرية

العقيدة القتالية في “حراسة الجدران” تقوم على الردع أي “الدفاع عن إسرائيل“، في حين أن “سيف القدس” تقوم على المبادرة، في الأولى مطلوب أن تحافظ على الجسد من القتل، تحفظ البنيان المادي لأنه المقصد والفلسفة التي قام عليها الكيان، لذا فإن “عملية حارس الجدران: نصر تكتيكي، وهزيمة إستراتيجية”، و”عملية حراسة الجدران” (Guardian of the Walls) انتهت، لكنها لم تتم، وانتفاضة عرب ٤٨ “تهديد وجودي للكيان“، ولكن في الثانية فإن معيار النصر أن تحافظ على عرضك ومالك وبيتك ومقدساتك وإن فني جسدك، في الأولى أنت هالك، وفي الثانية أنت شهيد، والشهيد حي بشهادته الدائمة على أصحاب القضية، وهنا تصير النتيجة “انتهت حرب غزة وبقيت مشكلة حماس، في حين أن “حماس لم تحقق شيئا سوى تدمير غزة”.

هذا هو جوهر خلاصات الجردة الإستراتيجية التي تخرج بها بعد المتابعة لما كتبه مركز بيغن السادات “بي إي إس إيه” (BESA)، ومعهد دراسات الأمن القومي “آي إن إس إس” (INSS)، وهما من أهم مراكز التفكير الإسرائيلية على مدار الفترة من 10 مايو/أيار الماضي حتى الـ26 منه، والتي احتوت على أكثر من 20 مقالا وتقدير موقف وتقويما إستراتيجيا وتدوينه لخبراء المركزين.

ثانيا: فجوة إدراك الأهداف بين الكمي والنوعي.. الفلسطيني مقابل الإسرائيلي

الملاحظة الجوهرية في هذه النقطة -والتي سنناقشها وفق المنظور الإسرائيلي واستنادا إلى الدراسات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة- أنه رغم إدراك العقل الإستراتيجي الإسرائيلي اتساع الجبهات في الجولة الأخيرة من الصراع لتشمل الضفة وغزة وعرب 48، بالإضافة إلى فلسطينيي الشتات، والرأي العام العربي والإسلامي وبعض قطاعات الرأي العام الغربي فإن هناك محاولة دائبة لاختزال الأمر إلى صراع مع حماس، والأسباب مفهومة، منها التغطية على هذا الاتساع، ومنها تغيير طبيعة القضية من أن تكون شعبا وأرضا يبحث عن حقوقه لتكون أمر “الإرهاب الإسلامي” الذي تجمع بلدان كثيرة على محاربته، سواء لدى جل النظم العربية أو بلدان العالم المختلفة وجماهيرها أيضا، فالمقصود شيطنة حماس، فهل يعرف مؤيدو حماس في الغرب حقيقة ما تمثله هذه المنظمة؟ الحقيقة أن حماس ليست حركة تحرير تبحث عن أمة فلسطينية، وبدلا من ذلك تسعى إلى تدمير إسرائيل وإقامة دولة إسلامية على أنقاضها.

ورغم ذلك فإن “للصراع الحالي بين إسرائيل وحماس العديد من السمات القديمة والجديدة”، ومن اقتراب الجديد والقديم تتم مناقشة أهداف طرفي الصراع، حماس وإسرائيل، وكأن بقية الفلسطينيين الذين تحركوا على كل صعيد غير موجودين “كانت عملية حراسة الجدران جولة أخرى في الصراع غير المتكافئ بينهما، وينطبق هذا التباين أيضا على أهداف العملية، فبينما كانت أهداف حماس سياسية ومعرفية كانت أهداف إسرائيل عسكرية”.

أما النتائج فقد “حققت حماس أهدافها مع بداية الحملة، فقد نصب التنظيم نفسه في الساحة الفلسطينية كمدافع عن الأقصى والقدس، وقام بإطلاق قذائف صاروخية في عمق الأراضي الإسرائيلية، مما أدى إلى تعطيل الحياة المدنية الروتينية وتسبب في مقتل 12 شخصا وكثير من الدمار، وحرض على الاضطرابات بين العرب والإسرائيليين في المجتمعات المختلطة، وأثار مظاهرات عنيفة في الضفة الغربية وعلى الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وأثبت أنه كان اللاعب الوحيد (على عكس حزب الله وإيران) المستعد لمواجهة أقوى جيش في المنطقة”.

في حين كان هدف إسرائيل عسكريا بالدرجة الأولى “تحقيق هدوء أمني طويل الأمد، وتأجيل الجولة التالية من الصراع، كانت مترددة في تحديد هدف إستراتيجي لتغيير الوضع جذريا أو على الأقل وضع قواعد جديدة للعبة مع حماس، في محاولة لتقليص الارتباط بين الساحتين: قطاع غزة والقدس والرأي العام العربي في إسرائيل”.

عند هذه النقطة ينتقل النقاش لتقويم العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي التي شهدت تغيرا مع بداية الألفية الجديدة، والانتقال بها من النصر الحاسم الواضح للخصم إلى الردع من خلال “التأكيد على الثمن الباهظ لعدوانها (يقصد حماس)، وإضعاف قوتها العسكرية والإضرار بقدرتها على إعادة بنائها، ومهاجمة قادتها، وتحييد العمود الفقري للتنظيم تحت الأرض، وتقليل الأضرار والمفاجآت للجبهة الداخلية الإسرائيلية”.

وإذا تمت صياغة للأهداف الإستراتيجية لكل طرف على هذا النحو يصبح من الضروري تقويمها، فبينما حققت حماس الأهداف التي حددتها لنفسها في بداية الحملة -وهي تقديم نفسها كمدافع عن الأقصى والقدس وقيادة الفلسطينيين في الكفاح ضد إسرائيل- لم تحرر إسرائيل نفسها من المنطق الذي وجه أعمالها في جولات الصراع السابقة مع حماس التي تركز على الردع القوي.

الهدف الإستراتيجي الذي كان على الحكومة الإسرائيلية أن تصوغه -كما تقترحه إحدى الدراسات- هو السيطرة على ساحة الصراع ومنع توسعها إلى ساحات إضافية، مع التركيز على إضعاف حماس ومنعها من السيطرة على الساحة الفلسطينية، وتقليل قدراتها العسكرية إلى مستواها الأدنى، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى مكانة الممثل الحصري للفلسطينيين، مع التطلع إلى اليوم التالي لعباس.

وجزء من الجردة الإستراتيجية لهذه الجولة من الصراع هو بالنسبة لإسرائيل أولا وقبل كل شيء استعادة الهدوء في القدس وفي المدن والبلدات ذات السكان العرب واليهود المختلطين، وتم إضعاف الارتباط بين الساحتين، بالإضافة إلى منع المزيد من التصعيد في ساحات الصراع الأخرى في الشمال والضفة الغربية، وعلاوة على ذلك تحظى إسرائيل بدعم الولايات المتحدة واعتراف المجتمع الدولي بأنها ليست المعتدية، وقد اضطرت للدفاع عن مواطنيها بالوسائل المتاحة لها.

وفي دراسات إسرائيلية عدة تمت مناقشة ما يمكن أن نطلق عليه “فجوة إدراك الأهداف” بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من جهة، وبين القيادة الإسرائيلية وجمهورها من جهة أخرى، فقد كان الهدف الإستراتيجي المعلن للحكومة الإسرائيلية -كما قدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو- هو أن “حماس ستفكر مرتين في المرة القادمة قبل إطلاق النار علينا”.

ومع ذلك، فإن هذا الهدف لا يتصدى لهدف حماس في الوصول إلى موقع الريادة في الساحة الفلسطينية ككل، واستعدادها لدفع أثمان باهظة من أجل إملاء شروط وقف إطلاق النار على إسرائيل من موقع قوة.

الهدف الإستراتيجي الذي كان على الحكومة الإسرائيلية أن تصوغه وتقدمه هو التعامل مع الأهداف التي ابتغت حماس تحقيقها: السيطرة على مسرح الحرب، ومنع توسعها إلى ساحات إضافية، مع التركيز على إضعاف حماس، هكذا تقترح إحدى الدراسات.

والخلاصة: في حين أظهر تفكير إسرائيل أثناء القتال منطقا كميا تكتيكيا كان تفكير حماس إستراتيجيا نوعيا، وكان هذا واضحا في الخطاب الإسرائيلي الداخلي الذي ركز على الإنجازات الكمية للحملة مثل عدد الأهداف التي تم استهدافها، وعدد قتلى “إرهابيي حماس”، وكمية الصواريخ التي تم إطلاقها أو تدميرها، وعدد الأنفاق التي تم تدميرها، وعدد المباني متعددة الطوابق التي تم تدميرها، وهكذا لم يمنع منطقها التكتيكي الكمي إسرائيل من الوصول إلى نتيجة عسكرية واضحة لا جدال فيها فحسب، بل استخدمت حماس منطقا مختلفا تماما ركز على الأهداف الإستراتيجية المنهجية.

وهذا ما انتهت إليه إحدى الدراسات الإسرائيلية، وتضيف أنه “للمرة الأولى نجحت حماس في إغراء الجسم السياسي الفلسطيني بأسره (في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل) إلى تفجر الإرهاب والعنف، وبالتالي فقد قوض نهجا إسرائيليا رئيسيا، وهو نهج نجح لفترة ملحوظة: دق إسفين بين السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة”.

علاوة على ذلك، شنت حماس حملتها من منظور إقليمي ودولي واسع على عكس الجولات السابقة، حيث كان “الحصار” على غزة مركزا للقتال وأهدافه من قبل، حولت حماس في هذه الجولة القدس إلى بؤرة رمزية، وهكذا تولت حماس قيادة معسكر الإرهاب و”المقاومة” الإقليمي، حتى على حساب حزب الله الذي كان عليه الرضوخ لإطلاق الصواريخ على إسرائيل من الأراضي اللبنانية من قبل الفصائل الفلسطينية “المتمردة” (والتي يمكن أن تصبح ظاهرة مستمرة).

ثالثا: الموجة الثالثة من الربيع العربي

كان الربيع العربي -بموجتيه- ولا يزال تغييرا في قواعد اللعبة الداخلية لصالح شعوب المنطقة، تمهيدا لإحداث تحول على المستوى الإقليمي وفي علاقتها بالنظام الدولي، في مقابل ذلك كانت هناك قوة مضادة تستثمر فائض قوتها وثروتها في الديناميكيات التي كشف سترها وفضحها هذا الربيع لتعيد تشكيل المنطقة وتغير قواعدها لصالح رؤية مناهضة لجوهر الانتفاضات العربية التي هي بحث عن عقد اجتماعي جديد تتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية، هذا الحلم قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ.

أوجه شبه عديدة بين ما يجري في فلسطين وبين موجتي الربيع العربي، المحرك الأول: أجيال شابة وحضور نسائي طاغ سبق التنظيمات في حركتها، مع تجاوز آليات العمل القديمة والثنائيات المتعارضة سلمي/ مسلح، وحل الدولتين، والخلافات السياسية والتنظيمية نحو هدف وطني مشترك ضد الاحتلال الصهيوني في الضفة والقطاع والقدس

في علاقة انتفاضة القدس بالربيع العربي وجوه كثيرة تحتاج إلى تفصيل- ربما نخصص لها مقالا مستقلا، ولكننا نشير هنا إلى بعض وجوه الالتقاء التي جوهرها استكمال الضلع الرابع في العقد الاجتماعي العربي، فرغم أن التجاوب الشعبي العربي المتصاعد مع الانتفاضات الفلسطينية في العقد الأول من الألفية الجديدة كان إحدى المقدمات الأساسية للانتفاضات العربية فإن القضية الفلسطينية لأسباب -لا مجال للتفصيل فيها- قد شهدت تراجعا على مدار العقد الماضي، عمر هذا الربيع.

الانتفاضة الجارية الآن هي استعادة للاهتمام الشعبي بالقضية من جديد، واستعادة لأحد مكونات الشرعية في النظم السياسية العربية ولكن بوعي جديد يتجاوز خبرة النظم القومية في الستينيات وما تلاها والتي وظفت القضية لتصادر بها مطلب الشعوب في الحرية والمشاركة السياسية “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

أوجه شبه عديدة بين ما يجري في فلسطين وبين موجتي الربيع العربي، المحرك الأول: أجيال شابة وحضور نسائي طاغ سبق التنظيمات في حركتها، مع تجاوز آليات العمل القديمة والثنائيات المتعارضة سلمي/ مسلح، وحل الدولتين، والخلافات السياسية والتنظيمية نحو هدف وطني مشترك ضد الاحتلال الصهيوني في الضفة والقطاع والقدس، والتمييز العنصري في الخط الأخضر، استخدام مواقع التواصل الاجتماعي (جيل التيك توك) باعتبارها أدوات للحشد والتعبئة وتوثيق الانتهاكات وتقديم القضية للعالم وأيضا كنموذج معرفي وقيمي يتسم بالشبكية واللامركزية والإبداع في الفعل مع سرعة المبادرة.

وهنا يحسن أن نشير إلى نقطة الضعف الأساسية في النموذج الانتفاضي العربي كما جسدته موجتاه السابقتان وهي العجز عن التمأسس، فهو يعلن نهاية القديم المرتحل لعجزه عن توليد الاستجابات المناسبة للتحديات المستجدة، لكنه في نفس الوقت لم يستطع حتى الآن أن يتبلور في مشروع وطني عريض يحشد قاعدته الاجتماعية وراءه، وهو ما يمثل تحديا أساسيا لهذه الانتفاضة، وهو قدرتها على تجديد المشروع الوطني الفلسطيني.

رابعا: حياة الفلسطينيين مهمة

من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة، والفساد، ورأسمالية المحاسيب، وغطرسة من هم في السلطة، والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس، وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص، تطول القائمة ولكن ما يجمعها “طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية”.

الانتفاضة الجارية جزء من هذا الطلب العالمي، لذا تصاعد التأييد العالمي لها وإن تعددت وجوهه بين الحقوقي المنطلق من مناهضة التمييز العنصري كما برز في تقرير “هيومن رايتس ووتش”، والعرقي على أسس أميركية بحتة كما ظهر لدى تقدميي الحزب الديمقراطي، فالإسرائيليون هم المضطهدون البيض، والفلسطينيون هم الضحايا “البنيون والسود”.

ظهرت هذه السمات على مدى السنوات القليلة الماضية، ولا سيما بين حركة المقاطعة “بي دي إس” (BDS) التي بدأت في إجراء المقارنات بصوت عالٍ بعد أعمال الشغب التي قام بها فيرغسون عام 2014، وأصبحت سمة من سمات خطاب أمة الإسلام و”حياة السود مهمة”. (انظر وجهة النظر الإسرائيلية حول الموضوع في هذا المقال)، ولكن تم التعبير عن هذا الآن بشكل كامل كقضية ثقافية وسياسية، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تصاعد الاهتمام الأميركي حول “العرق” بعد فلويد، وعدم كفاءة إدارة بايدن الجديدة في التعامل مع هذا الملف حتى الآن.

ذهبت النائبة في الكونغرس الأميركي عن الديمقراطيين إلهان عمر إلى أبعد من ذلك، واعتبرت إسرائيل “حكومة فصل عنصري”، فيما صرحت النائبة إيانا بريسلي “بصفتي امرأة سوداء في أميركا لست غريبة عن وحشية الشرطة وعنف الدولة، لقد تم تجريمنا بسبب الطريقة التي نظهر بها في العالم، يتم إخبار الفلسطينيين بنفس الشيء مثل السود في أميركا، لا يوجد شكل مقبول من المقاومة”.

وأوضحت النائبة كوري بوش على وسائل التواصل الاجتماعي “الكفاح من أجل حياة السود والكفاح من أجل تحرير الفلسطينيين مترابطان، نحن نعارض ذهاب أموالنا لتمويل الشرطة العسكرية والاحتلال وأنظمة القمع والصدمات العنيفة، نحن ضد الحرب، نحن ضد الاحتلال، ونحن ضد الفصل العنصري”.

خامسا: حضور الرموز الدينية/الثقافية

هي لم تغب في أي لحظة عن الصراع، لكن هناك توظيف طاغ لها في السنوات الأخيرة، فاتفاقيات التطبيع تسمى “أبراهام” نسبة إلى إبراهيم -عليه السلام- بهدف تسويقها جزئيا على أنها تقارب ديني متجدد بين المسلمين واليهود والمسيحيين، ويهودية دولة إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة في القوانين والسياسات: يعرّف “قانون الدولة القومية” الإسرائيلي (المعروف رسميا باسم القانون الأساسي، والذي دخل حيز التنفيذ في 2018) إسرائيل على أنها الدولة القومية للشعب اليهودي، مما يرسخ دستوريا عدم المساواة والتمييز ضد غير اليهود.

و”سيف الأقصى” اسم مقاومة حماس المسلحة، والمرجعيات الدينية الإسلامية وجموع المسلمين مستفزة من الاعتداء على ثالث الحرمين الشريفين في أيام رمضان وليلة القدر.

استخدام الرموز الدينية في الحشد والتعبئة أمر مفهوم، لكنه بالنسبة للفلسطينيين يطرح ضرورة تكوين مزيج وطني متسع يسمح بصياغة مبدعة لمكونات القضية تجمع بين الديني والوطني والحقوقي والفصل العنصري في نسيج واحد، مما يضمن الإجماع الوطني الواسع والتأييد العربي والإسلامي والدولي من مدخل حقوقي وقيمي إنساني.

سادسا: تآكل صيغة صفقة القرن

قامت هذه الصفقة على أسس ثلاثة، وهي اتفاقيات تطبيع، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وإمكانية السلام مع العرب دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، فالاتفاقيات تجعل فرصة تحقيق سلام عادل ومنصف ومستدام شبه مستحيلة، لكنها في نفس الوقت نزعت ورقة التطبيع من الفلسطينيين كورقة مساومة ضد إسرائيل، وطرحت مفهوما جديدا للسلام في المنطقة يقوم على صيغة الاقتصاد والأمن، أي صيغة مادية صرفة تستند إلى غريزتي الجوع والخوف.

في يناير/كانون الثاني 2020 قدم الرئيس دونالد ترامب “صفقة القرن” لحل الصراع “الإسرائيلي الفلسطيني”، تم تقديم إطار عمل الخطة كنموذج جديد لحل الصراع وتصميم معماري جديد في الشرق الأوسط على أساس تحالف عربي أميركي إسرائيلي.

الخطة تقلب مبادئ العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى العقود الثلاثة الماضية، إنها تتحدى الافتراض القائل إن الوقت في صالح المسعى الوطني الفلسطيني، وإن المجتمع الدولي مع مرور الوقت سيجبر إسرائيل على قبول الشروط الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق، وتقدم المصالح الاقتصادية كسبيل لإعادة صياغة والتغاضي عن الحقوق الفلسطينية.

أما نتنياهو وحكوماته -التي تجنبت دفع مفاوضات السلام مع الفلسطينيين- فقد بدأ في الادعاء بإمكانية التحرك نحو التطبيع مع الدول العربية دون المضي قدما في العملية السياسية مع الفلسطينيين.

وتشير دراسات إسرائيلية عديدة إلى هذه الحقيقة “على مدى سنوات تجاهلت صناعة السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي التطورات الإقليمية، واستمرت في نشر أكاذيب مفادها أن إنشاء دولة فلسطينية فقط على خطوط عام 1967 يمكن أن يحقق الاستقرار في الشرق الأوسط وقبول حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية”.

أعادت انتفاضة القدس 2021 مسألة القدس للواجهة باعتبارها أحد أهم مكونات الصراع، وأسقطت الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات “أبراهام”، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع في مواجهة الاحتلال

وتنتهي دراسة أخرى إلى “إلا أنهم ما زالوا يشيرون خطأ (يقصد الأوروبيين) إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أنه “صراع الشرق الأوسط”، وينظرون إلى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين على أنه مفتاح الاستقرار للمنطقة بأسرها”.

ونتساءل: هل الاتفاقيات كانت محاولة لاستعادة مفهوم بيريز عن الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه في التسعينيات، مستهدفا به قيادة إسرائيلية للمنطقة تستند إلى صيغ اقتصادية/مادية ومتجاوزة أي اعتبارات معنوية تستند إلى الحق الفلسطيني على أن تقوم على الاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيلية والمال الخليجي والعمالة العربية الرخيصة؟

أعادت انتفاضة القدس 2021 مسألة القدس للواجهة باعتبارها أحد أهم مكونات الصراع، وأسقطت الفلسفة التي قامت عليها اتفاقيات “أبراهام”، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع في مواجهة الاحتلال، كما أبرزت ما يتعرض له عرب 48 من سياسات تمييز وفصل عنصري، وأفشلت سياسات الأسرلة، أي اندماجهم في الكيان الذي يصادر حقوقهم، والأهم أنها ألقت بظلال كثيفة على إمكانية أن يكون الكيان الصهيوني جزءا من ترتيبات الأمن الجماعي في الإقليم، وأكدت ما انتهت إليه استطلاعات الرأي العربي المتعددة من إسرائيل هي التهديد الأول للمنطقة كما تدركه شعوبها.

سابعا: التداعيات والآثار

غيّر الصراع في غزة -كما ترى إحدى الدراسات الإسرائيلية- هذا الواقع، وعزز مناصري سياسات الهوية داخل غزة، وبين عرب إسرائيل وفلسطينيي الضفة الغربية.

وبدلا من أن تكون مجرد جولة تكتيكية أخرى بين الجانبين كانت المواجهة الأخيرة في غزة بمثابة صدام إستراتيجي بين مدارس ومقاربات ووجهات نظر عالمية ومخيمات مختلفة، “فالقلوب الآن لها اليد العليا في مقابل البراغماتية الاقتصادية”، وتمكنت حماس من جعل نفسها لاعبا إستراتيجيا مهما خارج الساحة الفلسطينية، وقد نجحت في تقويض النموذج الاقتصادي البراغماتي لصفقة القرن، وإثارة الصراع بين اليهود والعرب في إسرائيل، ومنح الجماعات الإرهابية في المنطقة سببا وجيها لمواصلة مواجهة إسرائيل.

يتطلب أي جهد لمواجهة هذا الاتجاه الناشئ -وفق وجهة النظر الإسرائيلية أولا وقبل كل شيء استيعابا معرفيا للأهمية الحقيقية للحرب الأخيرة، ولا سيما نتائجها الحقيقية.

هكذا تدرك عديد الدراسات الإسرائيلية البعد المعرفي/القيمي لهذه الجولة من الصراع، فهذه الإنجازات تهدف إلى “تشكيل الإدراك في ما يتعلق بالوحدة العربية، وثقب مكانة إسرائيل الإقليمية القوية”.

وحاولت حماس أن توسع معادلة الردع مع إسرائيل من خلال ربط القدس وقطاع غزة، وقد تجرأت على توجيه إنذار لإسرائيل والوفاء بتهديداتها.

لذا يصبح من الضروري “تقليص إنجازات حماس في السنوات الأخيرة، والمدخل في إعادة الإعمار وتحسين الحياة المدنية في غزة، مما يؤدي إلى تآكل شرعيتها المحلية والشرعية الدولية التي سعت إلى ترسيخها، وبدلا من ذلك تقوية صورتها (على الأقل للعديد من الجماهير، خاصة في الغرب) كمنظمة إرهابية تحتجز المدنيين رهائن لسياساتها الجامحة”.

ويستمر التقويم الإسرائيلي لنتائج الجولة على حماس “يجب أن يكون واضحا أن حماس تعرضت لضربة قاسية لقدراتها العسكرية وبالتالي لموقفها السياسي، وأن التحدي الذي تمثله لهيمنة السلطة الفلسطينية على الأراضي والقدس تم إضعافه في أعقاب الحملة الأخيرة”.

وعلى الصعيد الدولي، نقلت إسرائيل أن حماس هي المعتدي الذي خطط لهذه الحملة وشنها، وأنها تعمل كمنظمة إرهابية بكل الطرق وتوجه أسلحتها بشكل أعمى نحو السكان المدنيين.

وبالنسبة لعرب 48 وفلسطينيي الضفة الذين ربما علق بعضهم آمالهم على حماس كقائدة للنضال الوطني الفلسطيني، فقد نقل إليهم رسالة مفادها “قد يؤدي فشل حماس في الحملة العسكرية إلى تقويض آمال تلك الأقلية المتطرفة التي أغراها التنظيم”.

ثامنا: عرب 48.. الجهاد داخل إسرائيل

يلاحظ على النقاش الإسرائيلي في هذه النقطة 4 ملاحظات أساسية:

الأولى: النظر إلى عرب 48 بأنهم باتوا تهديدا وجوديا للكيان الصهيوني “مما جعل هذا الحريق الأخير صادما بشكل خاص لليهود الإسرائيليين”.

والثانية: فشل صيغة دمجهم كأقلية عرقية من منظور الدولة القومية (أو بالأحرى “أسرلتهم” أي تحويلهم لمواطنين إسرائيليين) وكأن إسرائيل دولة قومية طبيعية.

الثالثة: النقاش استحضر الأسباب والدوافع التي أدت لانتفاضتهم، فالمحرك الرئيسي لهم لم يكن مشكلة التمييز، بل كان دوافع معنوية وليست مادية سمتها إحدى الدراسات “صعود قومي (وإسلامي) لا ينبع من الافتقار إلى الحقوق أو الفرص ولكن من رفض وضع الأقلية”، واعتبار هيمنة اليهود في فلسطين هيمنة غير مشروعة من قبل غازٍ أجنبي يجب أن يحل محله، لذا فإن الثوران قادم لا محالة ويصبح حتميا وفق إحدى الدراسات “ونأمل أن يكون في المستقبل البعيد، ومن المحتمل أن نرى المدن المذكورة أعلاه (يقصد اللد وأم الفحم وعسقلان.. إلخ)، وكذلك طرق النقل الرئيسية -ولا سيما وادي عارة- والمناطق المجاورة للبلدات والقرى العربية تصبح مرة أخرى ساحات قتال رئيسية إذا لم تتم مصادرة السلاح”.

وتشير إحدى الدراسات إلى أنه لم يتضاءل رفضهم لوضعهم كأقلية، بل اشتد مع ارتفاع ثرواتهم الاقتصادية والسياسية، وكذلك معارضتهم للدولة اليهودية في حد ذاتها، ففي منتصف السبعينيات تخلى واحد من كل اثنين من العرب الإسرائيليين عن حق إسرائيل في الوجود، وبحلول عام 1999 كان 4 من كل 5 يفعلون ذلك.

مدت دراسة أخرى هذا الفهم على استقامته فيكون “انفجار العنف الجماعي من قبل العرب الإسرائيليين ضد مواطنيهم اليهود لا يقل عن كونه حربا دينية، ويجب التعامل معه على هذا النحو”.

وتشرح أن هناك بالطبع جحافل من المعلقين الذين سينسبون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام، والانفجار المستمر للعنف من قبل المواطنين العرب في إسرائيل بشكل خاص لأسباب إقليمية أو وطنية أو اقتصادية أو مدنية أو قانونية، ومع ذلك فهم يتغاضون عن السبب الأعمق والأكثر استعصاء على الحل، وهو رفض الإسلام المطلق لحق اليهود في إقامة دولة.

الملاحظة الأخيرة: استحضار للذاكرة التاريخية في علاقة العرب باليهود على أرض فلسطين منذ مطلع القرن الـ20 وفي النصف الأول منه “هذا ما حدث في ثورة 1936-1939 العنيفة في جميع أنحاء فلسطين عندما انضمت العصابات الإجرامية العربية إلى الإسلاميين المتشددين -الأسلاف الأيديولوجيون لحركة حماس والحركة الإسلامية الإسرائيلية- لقتل حوالي 450 يهوديا، إلى جانب 180 جنديا ورجل شرطة بريطانيا وآلاف من العرب الفلسطينيين.

وتتبع بعض الدراسات الأسباب التي أدت بعرب 48 للانتفاض، وتعزوها إلى تراكم عدة أسباب “في الواقع، مما أدى إلى تزايد التحدي للدولة وسياساتها وقيمها لم يكن الحرمان، بالأحرى، كان التطرف المستمر للمجتمع العربي الإسرائيلي على مدى العقود الماضية، تم تسهيل هذه العملية من خلال زيادة الثراء والتعليم، كما أنها اتبعت منطقا سياسيا خاصا بها”.

وتضيف دراسة أخرى “خوفا من التخلف عن الركب صعد عرب إسرائيل بثبات مطالبهم القومية، الآن تم طرح مثل هذه الأفكار التي لا يمكن قولها حتى الآن مثل أنه يجب حل إسرائيل وتحويلها إلى دولة ثنائية القومية، أي دولة عربية لا يحل فيها العرب ولكن اليهود مكانهم كأقلية”.

كما ساهمت عوامل أخرى في تدهور الوضع “أولها هو القوة والنفوذ الصاعدان للحركة الإسلامية التي ضخت في الصراع عنصرا دينيا ظل خامدا إلى حد كبير منذ عام 1948، والثاني هو احتضان إسرائيل الوهمي لأوسلو على الرغم من استهزاء منظمة التحرير الفلسطينية الوقح والمتواصل بالتزاماتها بموجب اتفاقية عام 1993، والثالث هو الاتجاه المتنامي “لما بعد الصهيونية” بين المتعلمين الإسرائيليين، والذي من خلاله تم خلق انطباع عن مجتمع منهك ومستعد لدفع أي ثمن مقابل الراحة، وأخيرا شجع العناصر الأكثر راديكالية في الجانب العربي على الحلم بتوجيه ضربة نهائية”.

نختم فنقول إن العقل الإستراتيجي الإسرائيلي كان أكثر إدراكا للأبعاد المعرفية/القيمية لانتفاضة القدس 2021 من العقل العربي الذي يحتاج إلى حوار معمق حول النموذج الانتفاضي العربي الذي دشنته الانتفاضات العربية على مدار العقد الماضي، وأكدته انتفاضة القدس الأخيرة، فالصراع في جزء منه تنافس على نماذج معرفية/قيمية متباينة جوهرها الانحياز إلى الإنسان/السر -بتعبير أستاذنا عبد الوهاب المسيري رحمه الله- في مقابل الإنسان/المادة، وكل منهما له تصور مختلف للحياة ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته، وهذا ينتج خطابا وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى