مقالاتمقالات المنتدى

بين الود والورد تعالج القضايا الاجتماعية

بين الود والورد تعالج القضايا الاجتماعية

 

بقلم د. سلمان السعودي “أمين ملتقى دعاة فلسطين” (خاص بالمنتدى)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلَّا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم … وبعد.

عظيم جدا أن يكون للعبد المؤمن ورد يحافظ عليه، يتقرب به إلى الله تعالى، ولكن الأجمل من هذا أن يحافظ على الود بينه وبين الناس قبل محافظته على الورد، فما فائدة محافظة المرء على ورد من العبادة وقد قطَّع ما بينه وبين الناس من صلة، وبنى بينه وبينهم جسور الكراهية والحقد والقطيعة، فلذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دخل المدينة المنورة مهاجرا حث الناس على الودِّ قبل الورد، فعن عبدالله بن سلام قال: لمَّا قدمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ المدينةَ، انجَفلَ النَّاسُ قِبلَهُ، وقيلَ: قد قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ ثلاثًا، فَجِئْتُ في النَّاسِ، لأنظرَ، فلمَّا تبيَّنتُ وجهَهُ، عرفتُ أنَّ وجهَهُ ليسَ بوَجهِ كذَّابٍ، فَكانَ أوَّلُ شيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أن قالَ: يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ [صحيح] – [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي]

ومن هذا الحديث نستدل على أنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أراد أن يُربِّي النَّاسَ على الفَضائلِ والمكارِمِ حتَّى يكونَ المجتمعُ مُتحابًّا متعاوِنًا، كما بيَّن أنَّ مكارِمَ الأخلاقِ لها أجْرٌ عظيمٌ عند اللهِ، وهذا ما أقرَّ به صلى الله عليه وسلم في بداية بعثته حيث جاء في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ” رواه البخاري، وفي رواية ” مكارم الأخلاق “.

فنجده صلى الله عليه وسلم يوجه دعوة عالمية لعلاج القضايا الاجتماعية بالتكافل الاجتماعي وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: ” يا أيها الناس ” فوجه صلى الله عليه وسلم خطابه لكافة الناس في المدينة المنورة، والخطاب متعدٍ لعامة الناس من بعده، ولم يخصص الخطاب للمؤمنين أو المسلمين، والمتمعن في هذا الحديث يجده يحث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة حقوق، حق المجتمع، وحق الأهل، وحق النفس، كما أنه صلى الله عليه وسلم قدم الودَّ على الوردِ، لأن الودَّ أصل الرحمة، والرحمة أصل العبادة، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء:107)  والودُّ متعديا من النفس إلى الغير، أما الورد فهو خاص بالنفس، وإن تعدى أحيانا فهو تعدٍ محصور في الأصول والفروع من النسب، قال تعالى: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } (الكهف:82) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ” إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ “. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ويتجلى حق المجتمع في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لإفشاء السلام في قوله: “أفشوا السلام” فإذا فشى السلام بين الناس سادت المحبة والألفة والمودة، وانتشرت الطُمأنينة، وحلَّ الاستقرار في المجتمع، فتم بذلك معالجة معظم القضايا الاجتماعية، لأن السلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، والمقصود بإفشاء السلام نشره والإكثار منه، والسلام اسم من أسماء الله عز وجل، وإفشاء السلام طريق موصل للمحبة بين المسلمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم، وهو حق من حقوق المسلمين فيما بينهم، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم ست)، قيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه, وإذا دعاك فأجبه, وإذا استنصحك فانصح له, وإذا عطس فحمد الله فشمته, وإذا مرض فعده, وإذا مات فاتبعه) رواه مسلم.

كما أن إفشاء السلام من خير خصال الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام, وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) رواه البخاري، فبذل السلام على من تعرفه ومن لا تعرفه يُزيل الوحشة ويُبعد المرء عن الخصال المذمومة من الكبر والاحتقار ونحوهما.

وإطعام الطعام، فيه سد جوعة وحاجة، وفيه شعور بالآخرين، وفيه أيضًا كسب لقلوبهم، فإن الإحسان يأسر القلوب ولو كان ذلك الإحسان يسيرًا، شيء بسيط من المعروف تقدمه لإنسان تعرفه أو لم تعرفه تأسره به، فخير الإطعام يتعدى لجميع الناس، فلذلك ذكَّر به النبي صلى الله عليه وسلم في أول مهاجره كونها عبادات متعدية، فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، عبادة تؤسس للودِّ ولذلك قدمها على الورد ” قيام الليل “.

وأما حق الأهل فيتجلى بصلة الرحم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ” وصِلوا الأرحام ” وصلة الرحم، صلة الأقارب والإحسان إليهم الأصول ومن علا، والفروع ومن نزل، من آباء وأبناء وأخوة والأخوال والأعمام وبني العم وبني الخال، يصلهم ويحسن إليهم بما أعطاه الله، ويكون ذلك بالرعاية والزيارة، والعطاء، والاطعام، والسلام، والكلام الطيب، والتودد والمحبة، والعون.

والأرحام هم: كل من تربطك بهم رحم أو قرابة من جهة الأب أو الأم، وقد حث القرآن الكريم على صلتهم وحذر أشد التحذير من قطعهم، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1)، وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22)، وأعظم الرحم وأوجبها: الوالدان، فيجب برهما والإحسان إليهما، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} (الإسراء: 23).

وقد جاء التحذير من قطع الرحم، فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) رواه البخاري، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم) رواه أبو داود.

وأما عظيم الأجر المترتب عليها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن يُبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه، أي من أحب أن يبسط له في رزقه فيكثر ويوسع عليه ويبارك له فيه، أو أحب أن يؤخر له في عمره فيطول: فليصل رحمه.

أما حق النفس: فبعد أن ذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم بالود وحث على تحقيقه بإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام، ذكَّر بالاهتمام بالورد وكثرة السجود والتذلل لله من أجل القبول واستنبات الود، والاهتمام بحظ النفس فقال صلى الله عليه وسلم: ” وصلوا في الليل والناس نيام ” وخص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل لأنها أبعد ما تكون عن شائبة الرياء والسمعة والمظهر، وصلاة الليل هي شرف المؤمن، وأثرها يظهر في وجهه وعلى جوارحه وسلوكه، يقول الله تعالى واصفا عباده المؤمنين: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } (السجدة: 16)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ” متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء, رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء ” رواه أحمد وأصحاب السنن.

وفي هذه الحقوق جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الود المتمثل في إفشاء السلام واطعام الطعام، وصلة الأرحام، وبين الورد وهي الصلاة في جوف الليل، فمن كان له ورد ولم يكن له ودٌّ فليتحسس نفسه، وليراجع حسن إيمانه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى