مقالاتمقالات مختارة

بابٌ في فقه المسافات

بابٌ في فقه المسافات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ثبت عن جمع من الصحابة والتابعين قولهم: “أزهد الناس بعالم أهله[ 1]

ورد في تفسير أهله هنا أنهم الأبناء [2]، وورد أنهم الجيران [3]، والمعنى شامل لكل من اقترب نسبًا أو سببًا.

 

من المعاني الخفيّة هنا أن الإنسان يعظّم حقّ نفسه أكثر من حق غيره، فالجار والابن وغيرهما يريدان حظهما منك من معيشة وحقوق؛ فإن قصّرت بها لم يحفلوا بحقك في التوقير ومعرفة المقام، بينما البعيد يأتيك لعلمك، وهو حظه منك، فيكون توقيره لحظه متسقًا مع معرفة مقامك.

ومن الأوجه أيضًا؛ أن النفس تزهد في المتاح، وهذا أمرٌ تصدّقه حوادث الأيام، وعادات الأنام، فالنفس تزهد في القريب الذي ضمنت، وتضعه في جيبها، وتحرص على التمسك بالبعيد خشية عوارض الحجب، وهذه الآفة سرّ أراه في معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” [4]

فالمتواضع سيلقى شعبة من خفض المقام؛ فناسب أن يكون جزاؤه رفعة، جريًا على سمت الشريعة في ” إنك لن تدع شيئًا لله إلا أبدلك الله به ما هو خير لك” [5]، ولو كان هذا المتروك متمثلًا في جاه وأبّهة ورسوم علم.

ومن محكات المروءة عندي أن ترى اقتراب الفاضل منك نعمة تستحقّ أن تكافئه عليها بمزيد توقير، وآية السفيه أن يزداد مع البعد اقترابًا، ومع القرب ابتعادًا، فتصير عاقبة أمر التبسط له كسرًا لحدودك، واستحلالًا لحمى روحك، واستقصارًا لحائطك.

ومع ذا لا يحسن بمن أخلص لله أن يخاصم في حقه، ولا أن يمنّ على من حوله، هي أشياء لا تُطلب، ولا تُشترى، وقد أشار ابن القيم لهذا المعنى ورواه عن شيخه فقال:

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: العارف لا يرى له على أحد حقًّا، ولا يشهد على غيره فضلًا، ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب” [6]

وهذه مرتبة شريفة لا يلقاها إلا الذين روضوا أنفسهم بمعاني العلم، وكان الإخلاص مبتدأ قصدهم، وميزان فعلهم؛ ولفقه المسافات مباحث وذيول.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 [1] سنن الدارمي (1/477)، والعلم لزهير بن حرب ص23، وحامع بيان العلم (2/51)، والجامع للخطيب البغدادي (2/304)

[2]انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر(41/101)

[3] شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين ص55

[4] مسلم 2588

[5] مسند أحمد (5363)

[6] مدارج السالكين(1/519)

(المصدر: موقع مداد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى