مقالاتمقالات مختارة

انتقد القرآن وأوجب الغناء وألّف الكتب “الملعونة”.. هل كان ابن الراوندي أشهر الملاحدة في التاريخ الإسلامي؟

انتقد القرآن وأوجب الغناء وألّف الكتب “الملعونة”.. هل كان ابن الراوندي أشهر الملاحدة في التاريخ الإسلامي؟

بقلم إبراهيم الدويري

عرفت الحضارة الإسلامية ظاهرة القلق الديني أو ما كان يسمى “الإلحاد” الذي اتخذ مفهومُه معنًى فضفاضا عبر العصور، بحيث عنى كلَّ خروج عن القصد الصحيح للدين من صغائر المعاصي سلوكاً وحتى الإشراك بالله اعتقاداً؛ فكان “أصلُ الملحد هو المائلُ عن الحق، والإلحادُ العدولُ عن القصد..، [ثم صارت] هذه الصيغةُ في العُرف مستعملةً للخارج عن الدين”؛ وفق تعبير الإمام ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘فتح الباري بشرح صحيح البخاري‘.

ولعل ابن الرواندي (ت نحو 298هـ/912م) أشهر الشخصيات التي نالتها تهمة “الإلحاد” في التاريخ الإسلامي، وسبب شهرته ليس أفكاره فقط بل جرأته على إعلان تلك الأفكار داخل أروقة الثقافة ومجالس الفكر وفي مدونات الجدل الكلامي؛ مما جعل نصوصه وآراءه مثارا لأقوى السجالات الكلامية والفِرَقية في التاريخ الفكري الإسلامي، وهو ما تتطرق هذه المقالة إلى رصده واستنطاقه سعيا لرسم ملامح هذه الشخصية الجدلية، وما صاحبها من حِجاج كلامي صاخب ومستمر.

انتماء متذبذب
اتفق مترجمو ابن الراوندي (أو الراوندي أو الريوندي) على اسمه واسم أبيه؛ فقالوا إنه: أَحْمد بن يحيى الراوندي، لكنهم لم يذكروا تاريخ ميلاده. كما لا تسعف مصادر ومراجع ترجمته -التي أوصلها المؤرخ العراقي الدكتور عبد الأمير الأعسم (ت 1440هـ/2019م) إلى 74 مصدرا في كتابه عنه بعنوان: ‘تاريخ ابن الريوندي الملحد: نصوص ووثائق من المصادر العربية خلال ألف عام‘- بتفاصيل وافية عن حياته الأولى قبل قدومه إلى بغداد، ولا تطنب في ذكر شيوخه الذين تتلمذ عليهم.

وقد ذكر الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه أخذ عن عيسى بن الهيثم الصوفي (ت 245هـ/859م) الذي يعدّ أحد “كبار المعتزلة [وإن كان] يخالفهم في أشياء”. كما عُدَّ أبو عيسى الوراق المعتزلي (ت 247هـ/861م) من شيوخه الذين أثّروا فيه، وكان الوراق من رؤساء “المتكلمين الذين يُظهرون الإسلام ويُبطنون الزندقة”؛ وفقا للنديم (ت 384هـ/997م) في ‘الفهرست‘. ومن شيوخه أيضا المعتزلي أبو حفص الحداد (ت 252هـ/866م) صاحب كتاب ‘الجاروف في تكافؤ الأدلة‘.

مرت علاقة ابن الراوندي بالمعتزلة بمراحل مختلفة من “التجمُّل” بمذهبهم، إلى التفرغ لـ”فضحهم” بعد “طردهم” إياه من صفوفهم، وردودهم الوفيرة على كتبه؛ فهو حسب خصمه أبي الحسين الخياط المعتزلي (ت بعد 300هـ/912م) -في ‘الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد‘- كان “تابعهم، والمتعلم منهم، والمختلف إلى مجالسهم، والناسخ لكتبهم، والسائل عن مسائلهم، والمتجمِّل عند الناس بانتحال مذهبهم”.

ويرى أبو الحسين الخياط المعتزلي أن المعتزلة طردوا ابن الراوندي لطعنه في الدين؛ فـ”أول عداوة المعتزلة له” كانت بسبب وقيعته في الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 51هـ/672م) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (ت 80هـ/700م) اللذين كانا يتأولان لإصلاح مروءتهما بأخذ الأموال من معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد. وكان الخياط شاهد تلك الوقيعة بنفسه.

وفي موضع آخر من الكتاب؛ يُذَكِّر الخياطُ ابنَ الراوندي بسبب طرد أهل الاعتزال النهائي له؛ فيقول: “وبوضعك كتاب ‘الزمرد‘ تطعن فيه على الرسل، وتقدح في أعلامها، وبوضعك فيه بابا ترجمته على المحمدية خاصة؛ فهذا مذهبك وهو قولك، ومن أجله نفتك المعتزلة وطردتك عن مجالسها، وباعدتك عن أنفسها”.

ظاهرة معتزلية
لم يكن ابن الراوندي الوحيد الذي طرده أهل الاعتزال لانحرافه عن مبادئ “الأصول الخمسة” المؤسِّسة لمذهبهم الكلامي؛ فقد صرح الخياط بأنهم طردوا فضل الحذّاء الحَدَثي (ت 257هـ/861م) الذي كان “معتزليا نظّاميا”، فـ”خلّط وترك الحق فنفته المعتزلة عنها، وطردته عن مجالسها”، وكذلك فعلوا مع أبي عيسى الوراق “لما قال بالمنانية (= المانوية) ونَصَرَ الثَّـنَوِية (= أزلية النور والظلام)، ووضع لها الكتب يقوي مذاهبها ويؤكد قولها”.

ويؤكد لنا الخياط أن تنظيم المعتزلة يطرد “كل من حاد عن سَنَن الحق، وطعن في التوحيد ومال عن الإسلام”، وأنه لا يشفع لأولئك المطرودين كون ذويهم أعضاء في التنظيم، فقد طردوا أحمد بن حائط (زعيم فرقة “الحائطية” المعتزلية، مات قبل 232هـ/847م) رغم أن “أهله.. معتزلة معروفون، وأهل حق مشهورون، وليس بعيب عليهم أن يكون رجل منهم ألحد وخرج عن الإسلام”. كما أن ابن الراوندي نفسه كان أخوه وعمه معتزلييْن، “وليس بعيب عليهما إلحاده لعنه الله وطعنه في التوحيد، ووضعه الكتب للدهرية والملحدين”.

وتفيد أدبيات المعتزلة بأنهم كانوا صارمين في اكتساب الأفراد “عضوية التنظيم” والاستمرار فيه وطرد مخالفي أصوله، وكان الطرد والتأديب عندهم بحسب حجم المخالفة ونوعيتها؛ فضرب من المخالفات يستحق أصحابه الطرد النهائي، وبعض تخفض بسببه عضوية الفرد فقط ولا تشفع له منزلته، ولا عظيم بلائه السابق في الدعوة إلى الاعتزال.

ففي فصل عقده النديم -في ‘الفهرست‘- لـ”ذكر قوم من المعتزلة أبدعوا وتفرقوا”، وذكر منهم ابن الراوندي وشيوخه الثلاثة المتقدمين؛ نجد رجلا بمنزلة أبي بكر الأصم (ت 200هـ/815م) الذي “كان من المعتزلة المعدودين”، ولم “يكن يُعاب” بغير ميل لديه إلى علي بن أبي طالب، وبسبب ذلك الميل “أخرجته المعتزلة من جملة المخلصين”.

فالأصم ذو المكانة المعتزلية العالية خُفضت رتبته التنظيمية بسبب هذه المخالفة الجزئية البسيطة فأخرج من جملة “المخلصين”، رغم أنه كان قياديا مبدئيا “فقيرا شديد الصبر على الفقر”، اشتهر بإبعاد أتباعه عن الدنيا وأسباب الثراء والوظائف التي تقلد معتزلة زمانه أكثرها. وبلغ الأصم من قوة شخصيته القيادية والفكرية أن الإمام المعتزلي ثمامة بن أشرس (ت 213هـ/828م) كان يصفه للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) بإعجاب وإطناب، وقد قال له عنه يوما وفقا للنديم: “يا أمير المؤمنين أنت خليفة وهو سوقة، لو رأيته هبته”!

ومن رموز المعتزلة الذين بُدِّعوا ثم طُردوا: هشام بن عمر الفُوَطي (ت 230هـ/845م) وضِرار بن عمرو (ت نحو 230هـ/845م)، وعباد بن سليمان البصري الذي كان “يخالف المعتزلة في أشياء ويختص بأشياء اخترعها لنفسه”؛ حسب النديم. ومن طريف إقصائهم له أنهم رموه بالجنون؛ فقد كان أبو علي الجُبّائي المعتزلي (ت 303هـ/915م) “يصفه بالحذق في علم الكلام ثم يقول: لولا جنونه!!”. وذكر النديم أن من المطرودين الناشئ الأكبر أبا العباس الأنباري (ت 293هـ/912م) الذي “سلك.. طريقة الفلسفة فسقط عند أهل طبقته من المتكلمين”.

وتسجل أدبياتُ سجالِ الفِرق الإسلامية وتنابزِ أهل المِلَل والنِّحَل أن المعتزلة تعودوا التكفير المتبادل، وأنه أمر شائع بينهم مما أدى إلى كثرة فرقهم وانشطارها المتتالي، حتى أوصلها مؤرخ الفِرَق عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) -في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘- إلى “عشرين فرقة كل فرقة منها تكفّر سائرَها”؛ وقد ضرب البغدادي مثلا لـ”تكفير شيوخ المعتزلة بعضها بعضا” بإبراهيم النَّظَّام (ت 229هـ/844م)، فإنه على جلالة قدره فيهم “قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة، منهم أبو الهُذيْل” العلّاف (227هـ/842م) والجُبّائي.

احتفاءٌ مُغرِض
وإذا كان ابن الراوندي وشيوخه الثلاثة المذكورون من أهل الاعتزال المطرودين؛ فإن لنا أن نسأل عن مصير هؤلاء بعد فصلهم تنظيميا؟ ذلك ما نكشف عنه بالعودة إلى مسيرة ابن الراوندي -بعد مغادرته صفوف المعتزلة- مع الفرق والأفكار والتُّهم، ومترجمي سيرته وكتبه “الملعونة” و”الصالحة”.

يؤكد الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ/936م) -في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘- أن ابن الراوندي وشيخه الوراق من “رجال الرافضة” وقد “ألّفا لهم كتباً في الإمامة”. ويصف لنا الخياط -بتفصيل أكبر- حال ابن الراوندي بعد طرد المعتزلة له، والتطورات التي عرفتها مسيرته الفكرية والمذهبية، وأثر ذلك الطرد على نفسيته؛ فيقول إنه “بقي طريدا وحيدا فحمله الغيظ الذي دخله على أن مال إلى الرافضة، إذ لم يجد فرقة من الأمة تقبله فوضع لهم كتابه في الإمامة، وتقرّب إليهم بالكذب على المعتزلة”.

ويفيد نص الخياط هذا بمحورية الانتظام في سلك فرقة من فرق ذلك العصر الذي كان يمور بشتى المذاهب والطوائف، كما يُرينا -في نص آخر- مدى تأثير أفكار ابن الراوندي “الخبيثة” فيمن حوله من الشباب؛ فيقول: “وهذا القول كان يقوله الخبيث في آخر صحبته للمعتزلة، وصَحِبَه على ذلك أحداثٌ، فكلهم ظهر إلحادُه وانكشف كفره”. وتذكر كتب التراجم “أن ابن الراوندي كان لا يستقرّ على مذهب ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالا بعد حال”؛ على حد وصف المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘الوافي بالوفيات‘.

ويذهب مترجمو ابن الراوندي إلى أن اضطرابه التنظيمي تجاوز مجرد الانتقال الفكري إلى تأليف الكتب وبيعها لمختلف الطوائف وفق طلباتها؛ فالصفدي يقول -نقلا عن أبي العباس الطبري البغدادي المعروف بـ”ابن القاص” (ت 335هـ/947م)- إنه “صنّف لليهود كتاب ‘البصيرة‘ ردا على الإِسلام لأربعمئة درهم -فيما بلغني- أخذها من يهود سامَرَّا، فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مئتيْ درهم فأمسك عن النقض”.

وفي ‘طبقات المعتزلة‘ لابن المرتضى (ت 840هـ/1436م) أنه “صنف لليهود والنصارى والثنوية وأهل التعطيل، قيل وصنف الإمامة للرافضة وأخذ منهم ثلاثين دينارا (= اليوم 5000 دولار أميركي تقريبا)”. ويشير المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1262م) -في ‘وفيات الأعيان‘- إلى أن ابن الراوندي “انفرد بمذاهب (= آراء) نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم”.

ونجد حوالي عشرين من هذه الآراء في ‘مقالات الإسلاميين‘ للأشعري، وهي تتعلق باتفاقه مع المرجئة في تعريف الإيمان، وزعمه “أن السجود للشمس ليس بكفر ولكنه عَلَمٌ (= أمارة) على الكفر”، واستحالة خلود عصاة أهل القِبلة في النار، وأمور كلامية أخرى أهمها يتعلق بعلم الله، وتعريف “القدرة” و”الإنسان”، ومذهبه في القرآن الكريم الذي هو عنده “خلـَقَه الله عز وجل ليس بجسم ولا عرض”.

ويقول مؤرخ الأفكار المصري أحمد أمين (ت 1374هـ/1954م) -في ‘ظهر الإسلام‘- إن البغدادي وأبا الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) وغيرهما من مؤلفي كتب المِلَل والنِّحَل انتفعوا بما كتبه ابن الراوندي عن المعتزلة، فنسبوا لهم أقواله عنهم من غير تحقيق فشنعوا عليهم. واحتفاء الأشاعرة بما يشين سمعة المعتزلة ليس غريبا لمن استحضر حدة الخلاف بينهما في ذلك الزمن، ولعل اهتمام الأشعري الكبير بأقوال ابن الراوندي وحكاياته لآراء أهل الاعتزال راجع إلى اتحادهما في العداوة لـ”جماعتهما الأولى” قبل انشقاقهما عنها.

نقل أم تشويه؟
وفي وجوب الحذر اللازم بشأن أقوال ومذاهب شيوخ الاعتزال التي ينسبها إليهم ابن الراوندي؛ يشير الخياط -في انتصاره لجماعته- إلى أن “المعتزلة قد غاظت هذا الماجن بنصبها (= استهدافها) للملحدين وإفسادها لمذاهبهم، ووضعها الكتب عليهم، فأراد أن يكذب عليها وينحلها ما ليس من قولها، ويشنع عليها بما لم يقله أحد منهم، ليوهم الجهال ومن لا علم له بالكلام أن أقاويلهم شنعة، ومذاهبهم فاسدة”.

وقد نبه الخياط في عدة مواضع من دفاعه عن شيوخ الاعتزال إلى تعمد ابن الراوندي للكذب عليهم بنسبة الأقوال الشنيعة إليهم لتشويههم، وقد أرهقه تكذيبه حتى خاطبه بقوله: “لقد كثرت كذبك على المعتزلة في هذا الكتاب، حتى لقد كان الوجه في نقض كتابك أن يكتب على ظهره: كذب صاحب الكتاب فيما حكاه عن المعتزلة”.

ويذكر الخياط المعتزلي قاعدة منهجية مهمة في كيفية نقل مذاهب الأئمة وأقوال الطوائف؛ فهو يقرر أن “قول الرجل إنما يُعرف من حكاية أصحابه عنه أو بكتبه”، حتى مع سلامة مقصد الناقل. وتعليل ذلك –حسب ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘منهاج السنة النبوية‘- أن كثيرا “من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس -من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يُعرف مرادُهم- قد يتعسّر على بعض الناس، ويتعذّر على بعضهم”.

وهذه القاعدة المنهجية الهامة لا يمكن للمنصف أن يقرأ كتب مناقب ومثالب المذاهب والفرق من دون استحضارها وتطبيقها، وذلك لما شاع في زمن تأليفها من اتّقاد جذوة التعصب للمُوالي والتحامل على المخالف، وهو ما تفيده كلمتا “فضائل” و”فضائح” في تلك العناوين الرئيسية والفرعية؛ إذ يرى البعض أن ابن الراوندي صنف ‘فضيحة المعتزلة‘ ردا على كتاب ‘فضيلة المعتزلة‘ للجاحظ (ت 255هـ/869م). كما أن هذه القاعدة المنهجية تعين في حق ابن الراوندي وما رُمي به من كفر وإلحاد، وما رَمى هو به خصومه من فضائح وتضليل.

ذكر الخياط المعتزلي أن ابن الراوندي كان “دائما ينادي على نفسه: اعلموا أني ملحد”. وبعد الخياط؛ رماه جُلُّ من ترجم له بالإلحاد والزندقة، فهو قد “انسلخ” من الدين؛ حسب تعبير النديم في ‘الفهرست‘. ولم يذكره ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في كتابه ‘المنتظم‘- إلا “ليُعرَف قدر كفره، فإنه معتمَد الملاحدة والزنادقة”؛ والذهبي وصفه بـ”الملحد، عدو الدين.. صاحب التصانيف في الحط على الملة”.

ويرى الصفدي أنه “كان من متكلمي المعتزلة ثم فارقهم وصار ملحدا زنديقا”؛ أما الحافظ ابن حجر فقد وصفه بـ”الزنديق الشهير”، واستجاد حذفَ الذهبي لـ”ترجمته من هذا الكتاب”، يقصد ‘ميزان الاعتدال‘؛ لكنه أورده هو في ‘لسان الميزان‘ معتذرا عن ذلك الإيراد بقوله: “وإنما أوردته لألعنه”.

ويلاحَظ أن اتهام ابن الراوندي بالإلحاد والزندقة مما اتفقت عليه الفرق الكبرى رغم تناقضاتها المذهبية: المعتزلة والحنابلة والأشعرية والظاهرية والشيعة إماميةً وإسماعيليةً؛ فابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) يصفه -في ‘شذرات الذهب‘- بـ”الملحد لعنه الله”؛ والشيعي الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري (ت 1313هـ/1895م) ينقل -في كتابه ‘روضات الجنات‘- أنه “كان يُرمى عند الجمهور بالزندقة والإلحاد”. فكان انتقاده لكل هذه الجبهات عليه أحد أسباب رمي الجميع له عن قوس واحدة، إذ كانت بعض الفرق أحيانا تعدّ “إلحادا” كل مخالفة لما هي عليه من المعتقدات.

وفي مقابل تلك الاتهامات الموجهة إليه بالإلحاد من كل هذه الطوائف؛ نجد قولا معزواً إلى ابن الراوندي يدل على أنه كان ينفي عن نفسه هذه التهمة الشنيعة، وينحو بأسبابها الموصلة إليها لدى الخصوم منحى معرفيا بحثيا خالصا؛ فقد جاء في ‘الوافي بالوفيات‘ للمؤرخ الصفدي: “قال القاضي أبو علي التنوخي (ت 384هـ/995م): كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم”.

مغاضبة ومجون
يصرح الخياط بأن ابن الراوندي تلقى الإلحاد عن “أستاذه وسلفه سلف السوء” أبي عيسى الوراق، فهو الذي أخرجه “من عزّ الاعتزال إلى ذلّ الإلحاد والكفر”، ويشير الخياط في مواضع أخرى إلى أن غيظ ابن الراوندي على المعتزلة حمله على الإلحاد.

وقد اهتم مترجمو ابن الراوندي بتحديد سبب إلحاده، وتضاربت أقوالهم في ذلك بشدة؛ فمراجع المعتزلة -التي جاءت بعد الخياط- اهتمت كثيرا بالسبب النفسي لذلك الإلحاد، فهو حسب النديم اعترف “بأنه إنما صار إلى ما صار إليه حميّةً وأَنَفَةً من جفاء أصحابه وتنحيتهم إياه من مجالسهم”، وابن المرتضى يقول: “واختلفوا في سبب إلحاده فقيل: فاقةٌ لحقته، وقيل: تمنى رياسةً ما نالها فارتدّ وألحد، فكان يضع هذه الكتب للإلحاد”.

وأشعار الرجل تشير إلى أن البحث عن المنزلة هو الذي أغراه بهذا “الإلحاد” مع اضطرابه النفسي المزمن، ولعل هذين البيتين -اللذين عزاهما له أكثر من مصدر أدبي وتاريخي- يدلان على أنه يعاني من “قلق السعي إلى المكانة”؛ وفق تعبير آلان دو بوتون. والبيتان هما:
كمْ عَاقلٍ عاقلٍ أعيتْ مذاهبُه ** وجاهلٍ جاهلٍ تَلقاهُ مـــرزوقا
هذا الذي ترك الأوهامَ حائرةً ** وصَيَّر الْعَالِمَ النِّحريرَ زنديقا

لا يصف الخياط ابن الراوندي إلا بـ”الماجن السفيه”، ويصرح بانحرافه السلوكي فيقول: “إن الماجن السفيه حكى عن ثمامة [بن أشرس] شيئا كان هو الماجن يُعرف به، وعوتب عليه فلم يتركه حتى أهلكه الله إلى أليم عذابه، ولولا صيانتي لهذا الكتاب عن ذكره لذكرتُه”.

وقبل ابن الراوندي؛ اشتهرت طائفة من الزنادقة والملحدين باسم “عصابة المُجّان”، وقد عَدَّ أبو حيان التوحيديُّ (ت بعد 400هـ/1010م) ابنَ الراوندي منهم في كتابه ‘الإمتاع والمؤانسة‘؛ فجعله من أولئك الذين “طاحوا في أودية الضلالة، واستجرّوا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة”. وذلك في ذكره لـ”قوم دهريّين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل، ومالوا إلى الشّغَب بالتعصّب”.

ومما يؤيد شغف ابن الراوندي بـ”المجون” أنه كان يرى وجوب سماع الغناء؛ فقد نقل عنه الإمام المعتزلي جار الله الزمخشري (ت 538هـ/1143م) -في ‘ربيع الأبرار‘- قوله: “اختلف الناس في السماع فأباحه قوم وحظره آخرون، وأنا أخالف الفريقين فأقول: هو واجب”. ويرى الخياط أن خطة ابن الراوندي للطعن في الدين تأخذ منحنى تنازليا؛ فقد “ألف عدة كتب في تثبيت الإلحاد، وإبطال التوحيد، وجحد الرسالة، وشتم النبيين عليهم السلام، والأئمة الهادين”، لكن الخياط -في رده عليه- ركز على طعنه في أئمة المعتزلة.

كتب “ملعونة”
يذكر ابن الجوزي أنه كان يسمع بـ”العظائم” عن ابن الراوندي حتى رأى “ما لم يخطر مثله على قلب أن يقوله عاقل”، وذكر أنه وقف على عدد من كتبه فسمى منها نحو العشرة، ونقل أقوالا “مستبشَعة” من هذه الكتب، فمن كتاب ‘الزمرد‘ نقل قوله: “نجد في كلام أكثم بن صيفي (التميمي أشهر حكام العرب في الجاهلية) أحسنَ من {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ}”، وقوله عن حديث عمّار بن ياسر (ت 37هـ/658م) «تقتلك الفئة الباغية» إن “المنجِّم يقول مثل هذ”.

ونقل عنه زعمه أن في القرآن تناقضا بين قوله تعالى {وَما تَسْقُطُ من وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها} وقوله سبحانه {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ..}، وكذلك تعليقه الاعتراضي على قوله تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً}، بقوله “أي ضعف له وقد أخرج آدم وأزلّ خلقا؟!”.

وقد ذكر ابن خلّكان أن لابن الراوندي نحوا من 114 كتابا، أما صاحب ‘الفهرست‘ فقد قسم كتبه إلى مرحلتين: “مرحلة الصلاح” ومرحلة “الكتب الملعونة”؛ وأدرج في كل مرحلة أسماء طائفة من كتبه. ومن مظاهر اضطرابه النفسي أنه يرد على نفسه، وينقض كتبه بيده وفكره؛ ففي الكلام عن جُلّ كتبه تلاقيك عبارة النديم: “ونقضه ابن الراوندي على نفسه”.

وقد وصف أبو علي الجبائي المعتزلي –حسبما ينقله عنه ابن كثير (ت 774هـ/1373م) في ‘البداية والنهاية‘- كتابا لابن الراوندي بأنه لا يحتوي غير “السفه والكذب والافتراء”، واتهمه بأنه “وضع كتابا في قـِدَمِ العالَم ونفي الصانع وتصحيح مذهب الدهرية، والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابا في الرد على محمد صلى الله عليه وسلم”. ثم علّق ابن كثير بقوله: “وهو أقلُّ وأخسّ وأذلّ من أن يُلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه”.

ورغم وصف الجبائي هذا ودعم ابن كثير له؛ فإن الردود ما فتئت تتوارد على كتب “جهالات وحماقات” ابن الراوندي، ولاسيما من رموز الاعتزال؛ فقد رد الجبائي على أغلب “كتبه الملعونة”، وكذلك أبو الخياط في ‘الانتصار‘، وثمة نقود أخرى وردود كثيرة مبثوثة في كتب الفرق في انتقاد آرائه والرد عليها.

ولم تقتصر الردود عليه على المعتزلة ولا على العراقيين؛ بل انتقد كتبَه وأقوالَه “الإلحادية” الحنابلةُ والإسماعيلية وظاهرية الأندلس وأدباء القيروان بتونس؛ فقد رد عليه ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1124م) وابن الجوزي وابن تيمية في مختلف كتبهم. كما صنف ابن حزم الظاهري الأندلسي (456هـ/1065م) كتابا بعنوان: “‘الترشيد في الرد على كتاب الفريد‘ لابن الراوندي في اعتراضه على النبوات”.

ويفيدنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأن ابن عبدون الفهري الأندلسي (ت 529هـ/1135م) نظم “قصيدةً [من] أحد عشر ألف بيت في الرد على المرتد البغدادي”، وكان يقصد بذلك ابن الراوندي. ومن أهم الردود التي احتفظت بنُبَذ من كتاب ‘الزمرد‘ لابن الراوندي كتاب ‘المجالس المؤيدية‘ للمؤيد في الدين هبة الله الشيرازي (ت 470هـ/1077م)، وهو “داعي الدعاة” الإسماعيلي في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/1095م).

زملاء وآراء
يروي الذهبي -في ترجمته للتوحيدي من كتابه ‘تاريخ الإسلام‘- عن ابن الجوزي قوله: “زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري. وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا وهو مجمجم ولم يصرح”. وقال أبو علي الأهوازي (ت 446هـ/1055م) في كتابه ‘مثالب ابن أبي بشر‘: “رجلان كانا من المعتزلة خرجا من المذهب فألحدا: ابن الراوندي والأشعري”؛ فما رأي هؤلاء الثلاثة “الملحدين” في ابن الراوندي؟

كتب الأشعري عدة ردود على ابن الراوندي، ولذلك استاء أتباعه من وصف الأهوازي له بالإلحاد وجعله مع ابن الراوندي؛ فقال ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تبيين كذب المفتري فيما نُسِبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري‘: “فَأَما تشبيهه أَبَا الْحسن بِابْن الروندي فَإِنَّهُ فِيهِ غير مُصِيب عِنْدِي، فقد ذكرتُ تَسْمِيَة مَا نقض عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ من تواليفه، وَبيّن من فَسَاد أَقْوَاله فِي كتبه وتصانيفه؛ فَكيف يقرن بَينهمَا فِي الْإِلْحَاد مَعَ مَا كَانَ بَينهمَا من الْخلاف والعنَاد؟”.

ويفيدنا ابن عساكر في هذا الباب فائدة عظيمة بشأن نظرة المعتزلة للذين خرجوا من تنظيمهم؛ فيقول إن مقالة الأهوازي المتقدمة “تنبئ عنه أنه كان من القائلين بالاعتزال لأنه جعل الخروج عن مذهب أهل الاعتزال إلحادا، وكفى بهذا القدر من قوله فسادا”. ورغم ما تقدم عن ابن الراوندي من أقوال مستبشَعَة إنْ صحت نسبتها إليه، وردود أبي الحسن الأشعري نفسه عليه؛ فإن الأخير جعل ابن الراوندي “إسلاميا مصليا” حسبما يُفهم من إيراده له ولآرائه الكلامية في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘؛ كما تقدمت الإشارة إليه.

أما التوحيدي فقد زندق ابنَ الراوندي في الإمتاع ومجَّنه، كما تقدم؛ لكنه أثنى -في كتابه ‘البصائر والذخائر‘- على نقضه على النحويين نحوَهم، وجعَلَه ممن “لا يلحن ولا يخطئ، لأنه متكلم بارع، وجهبذ ناقد، وبحّاث جَدِل ونظّار صبور”. إلا أن التوحيدي في موضع آخر من الكتاب ذكر اعتراض ابن البقال الشاعر البغدادي على القرآن واصفا إياه بأنه “كان على مذهب ابن الراوندي”، رغم أنه يذكر -في كتابه ‘أخلاق الوزيرين‘- ابن البقال هذا ضمن “قوم كرام يرجعون إلى فضل كثير وبصائر حسنة”. ويدلنا هذا التباين في الحكم على أن التوحيدي يزكي قدرة ابن الراوندي الجدلية والكلامية إلا أنه يطعن في نحلته الدينية.

كان المعري (ت 449هـ/1058م) أكثر زملاء التهمة اهتماما بابن الراوندي؛ فقد تناوله بإسهاب وسخرية وتقريع في ‘رسالة الغفران‘، وسخر من كتبه “الملعونة” سخرية لاذعة، يقول مثلا عن كتابه ‘الفريد‘ إنه “أفرده من كلّ خليل، وألبسه في الأبد بُرْدَ الذّليل”، وعن ‘الدامغ‘ يقول: “ما إخاله دمغ إلاّ من ألّفه، وبسوء الخلافة خلفه..؛ [وقد] دلّ ممن وضعه على ضعف دماغ”.

وقد علق الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/1937م) بتعليق طريف على تناول المعري لابن الراوندي؛ فقال -في كتابه ‘تاريخ آداب العرب‘- إنه “وفّى الرجلَ حسابَه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع! وناهيك من سجع المعري الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى”.

دفاع خجول
يُلاحَظ تراثيا أن زملاء ابن الراوندي في تهمة الزندقة والإلحاد -مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ/922م) والتوحيدي والمعري- وجدوا من يدافع عنهم؛ فقد كُتبت كُتبٌ وفصول لتبرئهم من تهم الإلحاد والزندقة، كتبها أئمة ومحققون كبار؛ كابن عساكر في دفاعه عن الأشعري؛ وتاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ذبّه عن التوحيدي؛ وعبد العزيز الميمني الراجكوتي (ت 1398هـ/1978م) وأبي فهر محمود محمد شاكر (ت 1418هـ/1997م) في منافحتهما عن المعري.

ولم ينل ابن الراوندي من تزكية قديمة خالصة غير دفاع الشريف المرتضى (ت 436هـ/1045م) الذي رأى –في كتابه ‘الشافي في الإمامة‘- أن ابن الراوندي “إنما عمل الكتب التي شُنّع بها عليه معارضةً للمعتزلة وتحديًّا لهم. لأن القوم كانوا أساؤوا عشرته واستنقصوا معرفته؛ فحمله ذلك على إظهار هذه الكتب ليبيّن عجزهم عن استقصاء نقضها، وتحاملهم عليه في رميه بقصور الفهم والغفلة، وقد كان يتبرأ منها تبرؤا ظاهرا، وينتفي من عملها، ويضيفها إلى غيره”.

ولا يُجيز المرتضى تأليف هذه الكتب أصلا لأنه “ليس يشك في خطئه بتأليفها، سواء اعتقدها أم لم يعتقدها”، لكنه تحريا للإنصاف يقارنه بالجاحظ الذي كان يسوق أدلة خصوم الدين، ولم يقل أحد باعتناقه لتلك المذاهب؛ فكذلك “ابن الراوندي لم يقل في كتبه هذه التي شُنِّع بها عليه: إنني أعتقد المذاهب التي حكيتُها، وأذهب إلى صحتها. بل كان يقول: قالت الدهرية، وقال الموحدون، وقالت البراهمة، وقال مثبتو الرسول”.

وهنا يرى الشريف أنه من الإنصاف إن “زالت التبعة عن الجاحظ في سب الصحابة والأئمة والشهادة عليهم بالضلال، والمروق عن الدين بإخراجه كلامه مخرج الحكاية فلتزولنّ أيضا التبعة عن ابن الراوندي بمثل ذلك”. وقد كان ابن الخياط في انتصاره محتاطا لهذا المخرج الذي اتاحه المرتضى، فقال إن ابن الراوندي “شديد الغيظ على أنبياء الله ورسله، يريد أن يشتمهم ويعيبهم على لسان غيره”.

أما الفقيه الشافعي وقاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان فوصف ابن الراوندي بأنه “العالم المشهور.. من الفضلاء في عصره”، ولم يشر إلى زندقته وإلحاده رغم ذكره لبعض كتبه “الملعونة”. وتغاضيه ذلك عنه أغضب ابنَ كثير؛ فعلّق قائلا إنه “دَلّس عليه ولم يجرحه بشيء.. على عادته في العلماء والشعراء؛ فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم”!

توبة أم رهبة؟
من ألوان “الدعاية السوداء” في عصر ابن الراوندي أن بعض مؤلفي كتب “مثالب المذاهب” يرمون خصومهم بالانتساب إلى أصول غير إسلامية، مثلما فعل الأهوازي مع أبي الحسن الأشعري. وفي تراجم ابن الراوندي نجد إلحاحا من كتّابها على ذكر انتسابه إلى رجل يهودي، رغم أن بعض نسخ ‘الفهرست‘ للنديم قالت إن اسم جده “محمد”.

بل إن التراجم تذهب إلى أكثر من ذلك فتصور “آل الراوندي” وكأنهم أسرة تعادي الكتب السماوية؛ فالابن ألّف ‘الدامغ‘ ليظهر به تناقض القرآن، ونقل عنه الذهبي –في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه قال: “في القرآن لَحْنٌ”. ووالده يقول اليهود إنه حرّف توراتَهم، و”نصحوا” المسلمين بالحذر من ابنه لئلا يفسد عليهم القرآن؛ فقد ذكر الصفدي أن “أباه كان يهوديا فأسلم، وكان بعض اليهود يقول للمسلمين: لا يفسدنّ عليكم هذا كتابكم كما أفسده أبوه التوراة علينا”.

وقد حكى النديم عن جماعة أن ابن الراوندي “تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم”. وعلق ابن عقيل الحنبلي متعجبا من نجاته من عقاب السلطان رغم شناعة ما بدر منه؛ فقال: “عجبي كيف لم يُقتل!!”. ويؤكد لنا الخياط أن السلطان (لم يُذكر اسم هذا السلطان ويصعب تحديده للاختلاف الكبير في تاريخ وفاة ابن الراوندي) طلبه، وأنه أظهر التوبة خوفا من السيف؛ يقول: “ولقد ألّف هذا الماجن كتابا في التوحيد يتجمّل به عند أهل الإسلام لمّا خاف على نفسه، ووُضع الرَّصَد (= الجنود) في طلبه”.

وفي تأكيد لظاهرة وشاية المعتزلة بخصومهم إلى السلطة في نمط داخلي من آفة التعصب المذهبي؛ يتبرع لنا الخياط بمعلومة مهمة حين يقول إن المعتزلة بلغت من شدتها على ابن حائط –الذي كان معتزليا- أن “خبّرت [الخليفة العباسي] الواثق (ت 232هـ/847م) بإلحاده، فأمر [القاضيَّ] ابنَ أبي دُؤاد (ت 240هـ/854م) أن ينظر في أمره، وأن يقيم حكم الله فيه، فمات لعنه الله في ذلك الوقت”.

وحُكي عن أبي علي الجبائي أن السلطان طلب ابن الراوندي وشيخه الورّاق؛ “فأما الوراق فسُجن حتى مات..، واختفى ابن الراوندي عند ابن لاوي اليهودي، فوضع له كتاب ‘الدامغ‘”؛ طبقا للصفدي. وذكر النديم أن أكثر “كتبه الكفريات ألّفها لأبي عيسى ابن لاوي اليهودي الأهوازي”. وفي رواية ابن المرتضى أنه لما “ظهر منه ما ظهر قامت المعتزلة في أمره، واستعانوا بالسلطان على قتله، فهرب ولجأ إلى يهودي في الكوفة، وقيل مات في بيته”. وأغلب المراجع تتفق على أن ابن الراوندي توفي سنة 298هـ/912م.

تلك إذن كانت ملامح شخصية انضمت إلى تنظيم فكري ثم انشقت عنه، فاتهمها رجاله بالزندقة والإلحاد، فردت عليهم صاع التحامل صاعيْن؛ في جوٍّ غلب عليه مزاجُ الوَلَع بـ”فضائح الخصماء” و”فضائل الحلفاء”. وهو ما يجب أن تُقرأ في ضوئه تلك التهم إنصافا للخصم ورحمة بالمنشقّ، ولو وقفنا عند نصيحة الخياط –وهو الخصم الألدّ لابن الراوندي- لجعلنا السكوت مغنما؛ فقد قال: “وإذا رأيت أهل المذاهب يعيّر بعضهم بعضا بشنيع الأقاويل فعليك بالصمت”!!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى