مقالاتمقالات المنتدى

اليُسْر العميق في القرآن الكريم

اليُسْر العميق في القرآن الكريم

بقلم أ. د. فؤاد البنا 

سبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أحكمه، ما أسهل مبانيه وما أعمق معانيه، ما أقل كلماته وما أغزر هداياته!

إنه من اليُسر والوضوح بمكان بحيث يستطيع العامي أن يفهم منه ما ينير له طريقه ويجيب عن أسئلته ويحقق له حاجاته، وهو من العمق لدرجة تُمكّن الفيلسوف والعالم من أن يغوص في أعماقه، فيستخرج من أصداف آياته لآلئ عجيبة لا يمكن أن يقع عليها نظر العامي ولا يمكن أن تخطر على باله، بل قد لا يخطر بعضها على من كان في مستواه العلمي.

وبهذه التركيبة المعجزة للنص القرآني تستمر سحائب القرآن في سكْب المعاني وهطْل الهدايات، مع مختلف المتدبرين في كل زمان ومكان، فقد قضت حكمة الله بأن يُنزل معاني القرآن بقدر معلوم، بحسب الادكار المبذول وحاجة الناس ومستجدات العصر . وإلى هذه التركيبة القرآنية العجيبة يشير قوله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}؟ فهو من اليسر بحيث لا يحتاج إلى واسطة تقوم بتوصيله، وهو من العمق بحيث يحتاج إلى طاقات المتدبرين ومدارك المُدّكرين، وبهذا وذاك يضمن الإسلام عدم احتكار مجموعة لتفسير القرآن والتي قد تتحول مع كرّ الليالي وفرّ الأيام إلى طبقة كهنوتية تفعل مثلما الكهنة في الأديان السابقة!

وسورة الفاتحة هي أبرز مثال على ما يمكن تسميته هنا باليُسر العميق، كما تشير الآية السابقة، ويخبرنا تاريخ الصحابة الكرام بأنهم كانوا جميعا يفهمون هذه السورة بمستوياتهم العلمية والثقافية المتعددة، لكن حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل”، ذهب إلى أنه لو أراد أن يستخرج من سورة الفاتحة حمل جمل من المعاني والأسرار والفوائد، لفعل، مما يُظهر طبيعة النص القرآني المكتنز لسائر الهدايات الضرورية لسعادة البشرية في الدارين، والقادر على تجديد الحياة تحت سقف {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، مهما تغيرت الأزمان وتناءت الأماكن ومهما تغيرت العوائد وتعقدت المشاكل!

وهنا تكمن قدرة القرآن على تلبية حوائج الناس بشتى مستوياتهم العلمية والاجتماعية والثقافية، وفي سائر الأزمان والأماكن، وهنا تتجسد قضية خلود القرآن إلى قيام الساعة.

وتظهر كذلك أهمية عملية التدبر في استخراج درر المعاني وجواهر الهدايات التي تحتاجها قضية الاستخلاف عن الله في عمارة الأرض وصناعة الحياة، وصولا إلى استئناف النهوض الحضاري والعروج بالأمة نحو مقام الشهود المنشود على الأمم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى