الهروب من الشعب.. هكذا تعكس العاصمة الإدارية خوف السيسي من ثورة جديدة
إعداد شريف مراد
في العام 2008، كتب أحمد خالد توفيق عراب جيل الثورة في مصر -كما يحلو لمحبيه تسميته- روايته الأهم في مسيرته الأدبية الطويلة “يوتوبيا”، كانت الرواية حدثا مفاجئا حين صدورها، فأحمد خالد توفيق الذي ذاع صيته بين أوساط الشباب والمراهقين برواياته المحافظة التي تناسب جميع الأعمار، خرج في هذه الرواية عن خطّه الأدبي المعتاد، لتأتي روايته صادمة، لا لمحتواها الاجتماعي والسياسي فقط، بل لامتلائها بروح عبّر بها العراب عن مخاوفه وتشاؤمه العميق من مستقبل الحياة في مصر، حيث رأى أن المجتمع المصري يشهد استقطابا طبقيا واقتصاديا يزداد حدة بمرور الوقت، وفي الرواية التي تدور أحداثها في مستقبل ليس ببعيد عن الآن، تمتد خطوط الاستقطاب في مصر إلى أقصى استقامتها، ليتنبأ بانهيار المدينة المصرية والاجتماع السياسي المصري الحديث.
تزامن الوقت الذي كُتبت فيه رواية “يوتوبيا” مع صعود الجناح اليميني النيوليبرالي في الحزب الوطني الحاكم بقيادة جمال مبارك(1)، نجل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وكان مشروع هذا التحالف السياسي-الاقتصادي يتلخص في العمل على رفع يد أجهزة الدولة عن المجتمع والتخلص من همومه والمسؤولية عنه، في مقابل تركيز الدولة لجهودها على توفير بنية تحتية جاذبة للاستثمار والشركات العالمية الكبرى، والاكتفاء بخمسة ملايين مصري “نافع” تختارهم “نخبة الدولة الحاكمة” للاعتماد عليهم في مشاريعها، ولتصبح تلك الشريحة القاعدة السياسية والاجتماعية لتدعيم سُلطتها، وعلى هذا الأساس قامت الدولة المصرية بإنشاء القرية الذكية على أطراف مدينة القاهرة، كجُزء من خطة سياسية طموحة لنقل الأجهزة الإدارية للدولة خارج القاهرة، ونقل قاعدتها الاجتماعية المُنتقاة بعناية خارج العاصمة التاريخية المُزدحمة بالمصريين.
كانت خطة جمال مبارك وحُلفائه من الحرس النيوليبرالي الجديد تجري على قدم وساق، حتى صباح يوم الخامس والعشرين من يناير، حيث اصطدمت بأجساد ملايين المواطنين المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع، مُحتلين الفضاءات العامة في القاهرة والمحافظات المصرية الرئيسية، لتدخل أجهزة الدولة على إثر ذلك في حالة شلل، خاصة بعد هزيمة الآلة الأمنية للنظام حينها أمام تدفق الثورة وعنفوانها، وهو الدرس الذي ستعيه الدولة المصرية جيدا، وسيُشكل حدثا مركزيا في سياستها الإستراتيجية القادمة.
شهدت السنوات الأخيرة لحكم مبارك تصاعدا في حدة الصدام بين قوى المعارضة بأنواعها وبين أعمدة النظام المصري، صراعات اتخذت من منطقة وسط القاهرة ساحة لها، حيث بات حدثا اعتياديا خلال تلك السنوات رؤية تظاهرات على عدة صُعُد، من أحزاب أو عمال أو لمجموعة من السُكان، تجمعهم مطالب خاصة، واقفين ومعتصمين أمام أسوار البرلمان أو مجلس رئاسة الوزراء، لإيصال أصواتهم ومطالبهم للحكومات المتعاقبة والنواب الذين يُفترض تمثيلهم للسكان.
إلا أن الاحتجاجات التي شكّلت تهديدا جوهريا دق نواقيس الخطر لدى أرباب السلطة، كانت متمثلة في ثورة الخامس والعشرين من يناير بميدان التحرير، فمن حيث الجغرافيا ومحوريتها، يعد ميدان التحرير شريان الحياة النابض لمدينة القاهرة، فهو الطريق الرئيسي الذي يمتد باتجاه عدد من المنشآت الحيوية، وعلى رأسها مُجمع التحرير، الهيئة الحكومية المدنية الأكبر في القُطر المصري، والتي تعد الجهة المعنية بصورة مباشرة عن إدارة حياة عشرات الملايين من المصريين، بالإضافة إلى “مبنى الإذاعة والتلفزيون” (ماسبيرو) الواقع شمال ميدان التحرير في مثلث ماسبيرو بحي “بولاق أبو العلا”، “مبنى مجلس الشورى”، “مبنى مجلس الشعب”، “مبنى مجلس الوزراء” ورئاستها الواقع في منطقة “المنيرة” جنوب ميدان التحرير، “مبنى وزارة الداخلية” الواقع في شارع “الشيخ ريحان” المتفرع مباشرة من شارع “قصر العيني”، على بُعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، “مبنى وزارة العدل” في “لاظوغلي” بشارع مجلس الشعب ويقع بين مجلس الشعب ووزارة الداخلية، “مبنى أمن الدولة” (الذي سُمّيَ بـ “الأمن الوطني” بعد ثورة يناير) الواقع بميدان “لاظوغلي” هو الآخر. هذا بجانب وجود عدد من الوزارات منها “وزارة التربية والتعليم”، و”وزارة الإسكان” وغيرهما في منطقة المنيرة، بالقرب من الميدان(2).
ووفق تلك المركزية للميدان، مثّل احتشاد ملايين المصريين في ساحة التحرير تطبيقا سياسيا لإمكانية استعادة الشعب لأجهزة الدولة، أو تعطيل حركتها على أسوأ حال، ومع استمرار الصدام بين الجماهير والدولة، كان كل اعتصام وتظاهرة ومسيرة واشتباك في مُحيط وسط القاهرة يُحدث شللا جزئيا أو كُليا لمؤسسات الدولة الرئيسية، والتي انعكست عبر تطور المظاهرات لحصار وزارة الداخلية ومقرات جهاز أمن الدولة من قِبل المتظاهرين الذين حاولوا الانتقام من المؤسستَيْن أكثر من مرة، ومن هنا، “صار كبار رجال الدولة والمُتحكمون في مصائرها يتساءلون كيف لهؤلاء الشباب -واصفين إياهم بـ “العيال” للاستهانة بهم- أن يعطلوا مصالح الدولة ووظائفها الحيوية بمجرد غلق مداخل ومخارج الشوارع الرئيسية” (3)، وهو السؤال الذي يبدو أن الدولة المصرية لم تنسه أبدا.
في كتابه “السياسة والسُرعة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة”، يشرح الفيلسوف بول فيريللو العديد من المفاهيم المُتعلقة بالسُلطة السياسية الحديثة والعقد الاجتماعي والسيادة والهيمنة، حيث يوضح فيريللو أن حدود هيمنة وسيادة الدولة وحدود العقد الاجتماعي تبدأ من مركز سُلطة الدولة ممثلة في مؤسساتها الأيديولوجية والأمنية وتنتهي بشبكة خطوط مواصلاتها، فالدولة، جهاز يسعى لدمج حياة السُكان وفرض السيادة والهيمنة عليهم، وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في التخطيط العُمراني وشبكات المواصلات التي تربط كل أطراف الحيّز الجغرافي بمركز السلطة، ويُتيح للسلطة الوصول والهيمنة على كافة مناطق سيادتها، ووفق هذا التحليل للدور السياسي الذي يقوم به العمران وشبكات المواصلات، يؤكد فيريللو أن مفاهيم المُواطنة والعقد الاجتماعي والديمقراطية لا يمكن أن تنتج إلا عبر تفاعل وثورات من السكان بغرض عقلنة جهاز الدولة الذي وحّدهم داخل الفضاء المكاني الجديد وفرض هيمنته عليه.
إلا أن التوجه السياسي المصري يُظهر عبر انتهاجه لسياساته الحالية دخوله في مسارات مناقضة لأدبيات السيطرة التقليدية للدولة، حيث مثّل فشلها في عزل المباني السيادية من خطر الجماهير دافعا للاتجاه نحو حل أكثر جذرية، متمثلا في تأسيس عاصمة إدارية جديدة، وهو ما يوضحه الباحث إسماعيل الإسكندراني(4) باعتبار أن العاصمة الإدارية الجديدة تأتي وفق خطة النظام المصري باعتباره متضمنة لعدد من العناصر الأساسية، حيث “هي عاصمة صحراوية مرتفعة عن سطح البحر، ذات هواء أنقى وأصحّ من العاصمة الحالية، واسعة الشوارع، يقتصر الانتقال فيها على الإطارات الهوائية حصرا، فلا سكك حديدية ولا مجال فيها للمشي على الأقدام. يريد السيسي مركز حكم يسهّل إغلاق الطرق المؤدية إليه وقت الحاجة، إما بقطع الطريق الأسفلتي أو بتعطيل أول سيارتين لتتراكم وراءهما حشود الزاحفين المحتملين. أما حراك الجماهير المرتجلين فهو مستبعد وغير عملي بعيدا بهذه المسافة عن الكثافة السكانية. فأيّ مسيرة تلك التي ستترك طرف المدينة الشرقي لتقطع عشرين كيلومترا في الصحراء حتى تصل إلى مركز الحكم الجديد”.
يظهر هذا النمط العمراني الذي تقوم عليه العاصمة الإدارية نموذجا شاذا وفريدا في الآن ذاته، فالعواصم السياسية والاقتصادية وحتى المراكز الحضرية الصناعية والتجارية يتم الترويج لها بموقعها الجغرافي المُتميز وبسهولة الوصول إليها، أما العاصمة الإدارية الجديدة، مسكونة بهواجس أمنية لا يمكن لناظر إغفالها، فالموقع الذي تم اختياره يقبع في عزلة تامة عن شبكة الطرق التاريخية التي تربط المحافظات المصرية ببعضها البعض، مما يجعلها في مأمن تام من أي احتكاك أو اتصال غير مرغوب فيه مع الجماهير، فالأسوار العالية المُزمَع بناؤها ستكون مرتكزات للتحصين ضد العدوان المسلح. والشوارع الفسيحة هي الساحة المثالية لآلة البطش وأجهزة منع الشغب وفض التجمهر، “فلن نسمع عن اعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء، ولا احتجاج أمام بوابات الوزارات. فحين تنشأ عاصمة جديدة في أرض خلاء بدءا من 2015، فإن الخيال لا يحتاج كثيرا من الإبداع لاستشراف وسائل المراقبة التي ستغطي كل شبر فيها”(5).
تعيش مدينة القاهرة أزمة ضخمة بالفعل، فهي بحسب الإحصائيات(6) تعد من أسوأ خمس مُدن في العالم للحياة من حيث حجم الكثافة السكانية والبنية التحتية وشبكة المواصلات والخدمات والصحة العامة ومعدلات العُنف والأمن، فهي تتحول مع الوقت إلى مدينة خارج السيطرة الأمنية والسياسية وحتى العمرانية.
وبصورة عامة، تتمثل المُدن الحديثة في مساحة تتجلى فيها سيادة الدولة وما يتصل بمفاهيم العقد الاجتماعي والمواطنة، وعليه فإن تشظي المدن يعكس بالأساس وبصفة جوهرية تآكلا في صِيغ المواطنة والتعايش، فدرجة العُنف الرمزي والمادي الذي تشهدة القاهرة يوميا يجعل الحياة داخلها حالة من الصراع المستمر بين السكان وبعضهم، وبين السكان الدولة من ناحية أخرى، بينما كانت الثورة والاعتصامات والمسيرات التي شهدتها العاصمة المصرية، وضمت ملايين المواطنين المصريين والهتافات والأناشيد التي تم إنشادها، محاولة جادة في تشكيل صيغة عقد اجتماعي مصري جديد، يؤسس حالة من المواطنة والتشاركية الديمقراطية في المساحات والفضاء العام وأجهزة الدولة المُختلفة باعتبارها امتدادا للمواطنين(7)، إلا أن هذه المحاولة سُحقت من أطراف أجهزة الدولة العسكرية والأمنية وآلتها الإعلامية التي أنتجت في المقابل حالة من الفاشية والعُنف لم تشهدها مصر طوال تاريخها الحديث تقريبا.
في هذا السياق تأتي العاصمة الإدارية كمحاولة من السيسي ونخبته الحاكمة في مصر للهروب إلى الأمام، والتخلص من عبء المجتمع والدولة معا، والهروب من استحقاقات الشرعية والمواطنة والعقد الاجتماعي والتنمية، ومع العجز البنيوي للنظام عن إنتاج أي خطاب يؤسس لشرعيته السياسية مما يجعل الفجوة بين الدولة والمجتمع تزداد يوما بعد يوم خاصة مع الإجراءات النيوليبرالية التي تتخذها السلطة، تأتي العاصمة الإدارية كحل قادم من قلب العصور الوسطى، حيث يتم إنشاء عاصمة جديدة بمجرد إنجاز الغزو العسكري لتكون العاصمة الجديدة مقر الحكم الجديد وقاعدة الغزاة الجُدد، وإليها تُحصّل أموال الجزية والخراج.
حيث يؤكد العديد من الباحثين أنه لا يُمكن بالفعل فهم وتحليل نظام السيسي بمنطق العلوم السياسية الحديثة من حيث فهم آليات توزيع الصلاحيات الدستورية بين السلطات، وتنظيم العلاقات بين أجنحة النفوذ، والأمر ذاته ينعكس بين السلطة والمعارضة، وآليات تداول السلطة، وغير ذلك من ديناميات سياسية حداثية. يبدو حكم السيسي بذلك منتميا في كثير من جوانبه لثقافة القرون الوسطى بامتياز، حيث الاستيلاء على السلطة بالقوة وترسيخ الوجود فيها بمذبحة سياسية ضد الغريم الرئيسي(8)، وبالكيفية نفسها تأتي عاصمة السيسي، ليست كعاصمة مركزية مفتوحة على محيطها الجغرافي والسياسي، بل كقلعة منيعة يسكنها الغزاة الجدد، كتعبير عمراني بليغ عن الانهيار التام للعلاقة والعقد الاجتماعي بين المواطنين من ناحية، وبين سُلطة وطبقة حاكمة تسعى للتحكم في المجتمع من بعيد دون حتى أن تشاركهم المكان والعالم الذي يَحيَوْن فيه.
وتنتهي التوقعات(9) إلى أن العاصمة الجديدة لن تخرج عن كونها مُحاكاة للمدن الخليجية الصحراوية النيوليبرالية، حيث ناطحات السحاب والشركات الكبرى والفنادق الفخمة و”الكومباوندات” المُترفة، مدينة تتجه بالأساس للنُّخب المالية والتجارية عبر العالم، معزولة عن محيطها، إلا أنه كعادة مصر في صُنع المُفارقة؛ فالعاصمة الجديدة سوف تُهيمن وتتحكم في حياة عشرات الملايين من المصريين حولها، حيث تسكنها نُخبة رجال الدولة والجيش، كطبقة نيوليبرالية غازية سيطرت على البلاد بالحرب، ثم أسست قلعتها على ربوة عالية.
(المصدر: ميدان الجزيرة)