مقالاتمقالات مختارة

الهاربون من بطش السلطة وظلمة السجون.. إمام الثورة العباسية يقودها من تحت الأرض ومليار دولار عقوبة لإيواء خليفة مطارَد

الهاربون من بطش السلطة وظلمة السجون.. إمام الثورة العباسية يقودها من تحت الأرض ومليار دولار عقوبة لإيواء خليفة مطارَد

بقلم براء نزار ريان

كان وقع المفاجأة مذهلا!! كيف يمكن لأسرى في أعتى السجون العالمية أن يفروا عبر نفق حفروه على مهل بعزم هائل وأدوات بدائية، ثم يخرجوا لتبتلعهم الأرض فيعمى أثرهم.. تاركين وراءهم سجّانيهم في صدمة هائلة لا تصفها الكلمات!!

لا يدور الكلام هنا عن فيلم هوليود الشهير “الهروب الكبير”؛ بل عن أصحاب النفق الستة من المناضلين الفلسطينيين الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، الذين نجحوا في الفرار من قبضة السجان والتواري عن شبكة رصده الأمنية الفائقة الدقة! في خبر لا يزال يملأ الدنيا ويشغل الناس!

إن قصة أصحاب النفق هي قصة كل معارض للسلطة دفعته الظروف للهرب والتخفي خوفا من سطوة بأسها؛ وفي مقالنا هذا نتوقف عند مشاهد وقصص تاريخية عجيبة، طرفاها معارض يسعى للتغيير أو الاعتراض وسلطة تريد فرض كلمتها وبسط هيمنتها، فخلف كل هارب قصة وبجانب كل متوارٍ حكاية، ولم تخلُ غالبية القصص من فواجع ومآسٍ، كما لم يعدم كثير من المطارَدين براعة في التخفي والمرواغة.

وفي لعبة الفرار هذه يتناوب المطارِد والمطارَد الأدوار؛ فالسلطة التي كانت تمعن في تتبع الثوار وملاحقة المعارضين تصيرا يوما ما في عداد المطارَدين، وقد يصل الأمر إلى حافة الدراما حينما يختبئ المطارَد في دار المطارِد.. دون أن يعلم الطرفان حقيقة أي منهما، ثم يتحول الهارب إلى نديم ومسامر لمن كان يلاحقه!!

كما لم تخلُ قصص المطاردة من جوائز رُصدت فأوقعت الهاربين في قبضة السلطة، ولا من إبداع في أساليب الاختفاء والتنكر يبرهن على ذكاء الهارب ووسع حيلته، كما تدل قصص أخرى على تمرُّس المؤسسات الأمنية في التحري الأمني والمتابعة الحثيثة، ولنا أن نتخيل أنه رغم ترامي أطراف جغرافيا الخلافة الإسلامية شرقا وغربا فإن فرص نجاة كثير من الهاربين كانت تحفُّها أخطار شديدة!!
استثناء لافت
كره العربُ في جاهليتهم الفرارَ من أرض المعركة، وحين جاء الإسلام عدَّ التولي يوم الزحف إحدى كبائر الجرائم فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ (سورة الأنفال/ الآية: 16). كما امتدح العربُ الثباتَ في صفّ القتال وتقحّم الأهوال وافتخروا بالقتل لا بالنجاة، وروى المسلمون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فضلَ المُقاتل الذي «يَبتغي القتلَ والموتَ مَظانَّهُ»؛ (رواه مسلم).

غير أنّهم فرّقوا بين الفرار من المبارزة أو صفّ القتال، وبين الهرب من سُلطة غاشمة أو مؤامرةٍ دنيئة أو أسرٍ قاهر، فتمثلوا بقول نبي الله موسى عليه السلام: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾؛ (سورة الشعراء/ الآية: 21). واستشهدوا لذلك أيضا بمقوله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م): “ما علمتُ أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا غير عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م)؛ كما عند الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘.

بل إن بعضهم صاغ في ذلك المعنى كلمة بليغة تعبر عن نفسية طلاب المُلك وبناة الدول، فهي تقضي بأن تحمُّل “الهوان والعذاب من الملوك في طلب المُلك ليس بعار”؛ كما روى المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘المقفَّى الكبير‘.

ويرى العلماء أن قوله تعالى ﴿وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾ (سورة القصص/ الآية: 59) “يستفاد منه مشروعية الهروب من الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى الهلكة”؛ وفقا للإمام شهاب الدين القسطلاني (ت 923هـ/م) في ‘إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري‘.

ومن هنا عُني مؤرخو الإسلام وكتّاب تراجم أعلامه -من كل الفئات والطبقات- بتوثيق أخبار الفارّين والمطارَدين والمختبئين والمتنكّرين، ومواقفهم في مواجهة القوى السلطانية الباطشة، والحملات الأمنيّة الدقيقة، وإجراءات التفتيش والملاحقة، ورووا من ذلك قصصا تجمعُ بين البطولة ورباطة الجأش والذكاء وحسن التدبير.

وكان من مآثر مكتبتنا العربية الإسلامية أن احتوت مصنَّفا متخصصا في هذا الموضوع بعنوان: “كتاب المتوارين” ألّفه محدِّث مصر عبد الغني الأزْدي (ت 409هـ/1019م) وجمع فيه قصص اختفاء الثوار الذين طاردهم الحجاج بن يوسف الثقفيّ (ت 95هـ/715م)، ناهيك عن الفصول التي تناولت هذه الظاهرة في مدونات الأدب عموما، وخاصة “أدب المِحَن” مثل “الفرَج بعد الشدة” للقاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/993م).

شرارة الكلمة
لا شيء أزعج السلطةَ السياسية على مرّ التاريخ أكثر من الكلمة الناقدة أو المعترضة؛ فكل ثورةٍ تشعلها كلمة وتقودها كلمة، وتصوبها أو تحرفها كلمة، فلا عجب إذا كانت تلك الكلمة أهمّ أسباب الملاحقة السياسية عبر العصور، فالسلطة السياسية -وكذلك المجتمعية أحيانًا- ضائقة ذرعًا بالكلمات.

ولذا لم تزل صدور السلاطين ضيقة بكل نقد أو اعتراض منذ نشأة الملك الجبري في الدولة الإسلامية منتصف القرن الأول الهجري/الثامن الميلادي؛ ومع تعدد أنواع الاعتراض السياسي والنقد للسلطات تنوعت أساليب الملاحقة السلطوية لأصحابه، ومن ثم تعددت طرق الفرار هربا من تلك الملاحقات، وأبدع المطارَدون في ابتكار أنماط التنكّر والتخفي طلبا للأمن والسلامة.

وقد توزعت هذه الملاحقات على طوائف وفئات شتى من طبقات المجتمع؛ بدءا بمن تولوا مناصب الخلافة والإمارة والسلطنة أو سعوا لتوليها، ومرورا بالوزراء الأقوياء وكبار المسؤولين الرسميين وأثرياء التجار، وانتهاء بأئمة العلم والقضاء ومشاهير المثقفين والشعراء، بل وعامة الناس الذين كثيرا ما نالهم الأذى من مطاردات تلك الشخصيات.

فمن النماذج المبكرة لطلّاب الملك الذين تواروا عن السلطة القائمة وهم يحاولون الإطاحة بها الثائر الهاشمي يحيى بن زيد بن علي (ت 126هـ/745م) الذي شارك مع والده الإمام زيد بن علي زين العابدين (ت 122هـ/741م) في ثورته على الأمويين سنة 122هـ/741م. فبعد إخفاق ثورتهما بالعراق واستشهاد أبيه زيد؛ سار يحيى على نهج أبيه مواصلا ثورته لكن من على أرض أخرى ووسط حاضنة شعبية جديدة.

فقد تمكن أنصار أبيه من إخفائه عن عيون السلطة الأموية المتربصة به في كل مكان، “فلما سَكَن الطَّلَبُ (= البحث عنه) سار في نفر من الزيدية إلى خراسان”؛ حسبما يرويه ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في ‘الكامل‘. ويقول ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- إنه “لم يزل يحيى مختفيا في خراسان.. ببلخ حتى مات [الخليفة الأموي] هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/746م)”.

أوصى يحيى بن زيد بقيادة الثورة من بعده إلى اثنين من أبناء عمه، فـ”فوَّض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم الإماميْن”؛ وفقا للشهرستاني (ت 548هـ/1153م) في ‘المِلَل والنِّحَل‘. والموصَى إليهما بقيادة الثورة هما: محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية (ت 145هـ/763م) وأخوه إبراهيم بن عبد الله (ت 145هـ/763م)، اللذان انخرطا في النشاط السري الساعي لتقويض الدولة الأموية، وهو نشاط كان مشتركا بين مجموعة من الهاشميين بفرعيْهم العلوي والعباسي.

ظل الجهد الأكبر في ذلك النشاط الثوري من نصيب العباسيين بعد عزوف معظم العلويين عن النهج الثوري، وكانت إدارته في مرحلته الحاسمة بيد إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 131هـ/750م) المعروف بـ”إبراهيم الإمام”، وهو أخو الخليفتين الأولين للدولة العباسية أبي العباس السفّاح (ت 136هـ/754م) وأبي جعفر المنصور (ت 157هـ/775م).

ويفيدنا الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- بأن إبراهيم هذا ظل طوال إدارته للثورة العباسية “مختفيا عند رجل من أهل الكوفة قد حفر له نفقا في الأرض”، حتى كشف أمرَه للأمويين أحدُ رجال دعوته كان من ضباط الارتباط بينه وبين القائد الميداني للثورة بخراسان أبي مسلم الخراساني (ت 137هـ/755م)، وعندها “وقف [الخليفة الأموي] مروان بن محمد (ت 132هـ/751م) على خبره، فوجّه إليه [جنوده] فأخذه وحبسه وقتله”!!

تحوُّل مضاد
بعد نجاح الثورة العباسية وسقوط الدولة الأموية؛ انتقلت دائرة الملاحقة الأمنية من العباسيين إلى الأمويين كما يحصل عند تلاشي أي سلطة لا يُتداول عليها بالطرق السلمية وإنما بـالانقلابات العسكرية والثورات المسلحة، فأصبح الأمويون ورجال دولتهم عرضة للمطاردة والفرار طلبا للنجاة “فاختفى من قَدَرَ [على الفرار] من بني أمية وتشتت شملُهم”؛ وفقا للمؤرخ النويري (ت 733هـ/1333م) في ‘نهاية الأرب‘.

وقد تولى إدارة تلك المطاردة القائد العباسي القوي سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 142هـ/760م) الذي بالغ في التنكيل بهم حتى إنه لم يكتف بقتلهم بل “وألقاهم على الطريق فأكلتهم الكلاب”!!

وكان من رجال الأمويين المختفين عمرو بن معاوية ابن عتبة بن أبي سفيان (ت بعد 132هـ/751م)، الذي يحدثنا عن كربته قائلا طبقا للنويري: “فضاقت عليّ الأرض فقصدت سليمان بن علي -وهو لا يعرفني- فقلت له: لفظتني البلاد إليك، ودلّني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالما فأمنت، فقال مَنْ أنت؟ فعّرفتُه بنفسي فعرفني، فقال: مرحبا بك..، وكتب لهم أمانا، وكان هذا أول أمان [لـ]ـبني أمية”!!

وأعجب مما وقع لعمرو هذا قصة ابن عمه إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) التي يرويها لنا المؤرخ مسكويه (ت 421هـ/1031م) في ‘تجارب الأمم‘؛ إذْ يقول إن إبراهيم هذا عفا عنه الخليفة العباسي السفاح بل وجعله أحد ندمائه، “فقال له يوما: حدثْني عما مرَّ بك في اختفائك؟ قال: كنتُ -يا أمير المؤمنين- مختفياً بالحِيرة [جنوبي العراق]..، فبينا أنا على ظهر بيتٍ إذْ نظرت إلى أعلامٍ سودٍ قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في رُوعي (= نفسي) أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكّراً حتى أتيت الكوفة، ولا أعرف بها أحداً أختفي عنده، فبقيت متلدِّداً (= متحيّرا) فإذا ببابٍ كبيرٍ ورحبةٍ واسعةٍ فدخلت فيها”.

والغريب أن مالك البيت الذي لجأ إليه صاحبنا الأموي كان عباسيا قتل هو والدَه أيام حكم بني عمه الأمويين؛ فقد سأله مرة صاحبنا المختفي قائلا: “أراك تُدْمِن الرُّكوب، فَفِيمَ ذلك؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني أنه مختفٍ وأنا أطلبه لأدرك منه ثأري! فكثُر والله تعجّبني، إذ ساقني القدَرُ إلى حتفي في منزل من طلب دمي! وكرهت الحياة”!!

ولشدة ما لقيه الأموي من إكرام في مقامه عند هذا العباسي؛ لم يسعه إلا أن يكاشف مضيفه بحقيقة أمره: “قلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتِلُ أبيك، فخذ بثأرك! فقال: إني أحسبك رجلاً قد مضَّه (= آلمه) الاختفاءُ، فأحبَّ الموتَ! فقلت: بل الحقُّ ما قلت لك، أنا قتلته يوم كذا وكذا بسبب كذا وكذا! فلما عرف صدقي ارْبدَّ (= تغيّر) وجهُه واحمرَّت عيناه، وأطرق مليًّا، ثم قال: أما أنت فستَلقَى أبي فيأخذ بثأره منك، وأما أنا فغيرُ مُخْفِرٍ (= ناقض) ذمَّتي، فاخرج عني، فلستُ آمن نفسي عليك! وأعطاني ألف دينارٍ (= اليوم 167 ألف دولار أميركي تقريبا) فأخذتها وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجلٍ رأيتُه بعد أمير المؤمنين”!!

ومن قادة الدولة الأموية الذين نالهم كرب عظيم من مطاردة العباسيين: مَعْنُ بن زائدة الشيباني (ت 151هـ/769م) الذي “كان جوادا شجاعا..، كان من أمراء الدولة الأموية فأخلص لها يوم محنتها، ثم اختفى إلى أن ظهر في عهد الخليفة العباسي المنصور يوم ثار الخراسانيون عليه في الهاشمية، فدافع عن الخليفة وأبلى بلاء حسنا [في الدفاع عنه]، فأمَّنه المنصور وأكرمه” بعد أن عرّفه بنفسه ولم يكن المنصور يعلم أن من يدافع عنه هو طريدته التي يبحث عنها!! بل إنه “تولى إمارة بعض الولايات حتى قتله الخوارج غيلة”؛ طبقا لابن المستوفِي (ت 637هـ/1239م) في ‘تاريخ إربل‘.
حروب وكروب
استكمل العباسيون ملاحقتهم للأمويين حتى حيدوا خطرهم عن ملكهم الجديد؛ فتحولت جهودهم الأمنية -وخاصة في أيام خليفتهم الثاني المنصور- إلى مطاردة بني عمهم العلويين شركائهم في الثورة بالأمس، والمنافسين الأقوياء لهم على الخلافة لما كانوا يعتقدونه لأنفسهم من “حق” حصري فيها باعتبارهم أبناء عليّ وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد واصل النفس الزكية طموحه في نيل الخلافة معلنا الثورة على المنصور انطلاقا من المدينة المنورة سنة 145هـ/763م، وأعانه في ذلك أخوه إبراهيم بن عبد الله الذي قاد جناح الثورة بجنوبي العراق، وأيدهما في ثورتهما عدد من كبار العلماء كالإمامين أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) ومالك بن أنس (ت 179هـ/796م).

لكن قوة المطاردة والرصد الأمني الحثيث -الذي أداره المنصور بكثافة وكفاءة- لم يتركا للنفس الزكية فرصة تنظيم صفوف أتباعه، فعاش هو وكبار داعميه في حالة اختفاء دائم، واعتمد على شبكة مخبرين كان من بينهم الإمام عبد الله بن جعفر بن المسوّر الزهري (ت 170هـ/787م) الذي “كان عالما بالمغازي والفتوى، وكان عبد الله بن جعفر من ثقات محمد بن عبد الله بن حسن (= النفس الزكية)، وكان يعلم علمه..، فلما خرج محمد بن عبد الله خرج معه عبد الله بن جعفر”؛ وفقا لابن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘.

ويقول ابن سعد إن النفس الزكية كان “إذا دخل المدينة مستخفيا جاء حتى ينزل في منزل عبد الله بن جعفر، ويغدو عبد الله فيجلس إلى الأمراء ويسمع كلامهم والأخبار عندهم وما يخوضون فيه من ذكر محمد بن عبد الله وتوجيه من توجّه في طلبه [للقبض عليه]، فينصرف عبد الله فيخبر محمدا ذلك كلَّه..؛ فلما قُتِل محمد بن عبد الله اختفى [عبد الله بن جعفر] فلم يزل مستخفيا حتى استُؤمن له فأُمِّن”.

أما إبراهيم -أخو النفس الزكية- فقد واصل الثورة إثر مقتل أخيه النفس الزكية، ولكنه اضطر -تحت الضغط الأمني المتواصل- أن يعمل في الخفاء، كما نفهمه من رواية أوردها جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ/1248م) -في ‘إنْباه الرُّواة‘- عن إمام اللغة والأدب المفضَّل الضبي (ت بعد 171هـ/788م).

قال القِفْطي: “قال العباس بن بكّار الضبّيّ (ت 222هـ/837م): قلت للمفضل الضبيّ: ما أحسن اختيارَك للأشعار! فلو زدتنا من اختيارك! فقال: والله ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد الله بن حسن استتر عندي، فكنت أطوف وأعود إليه بالأخبار، فيأمرني ويحدثني..، فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها.. [فـ]ـعلّم على هذه الأشعار..، فجمعتُه وأخرجته، فقال الناس: اختيار المفضَّل”!!
ثورة متواصلة
ثم جرت بين إبراهيم والمنصور وقعةٌ فاصلة -بمنطقة “باخَمْرَى” قرب الكوفة جنوبي العراق- انتهت بهزيمة إبراهيم ومقتله، فلاحق المنصور فلول قواته وكبار رجاله، مثل قائد ميمنة جيشه عيسى بن زيد بن علي الهاشمي (ت 168هـ/784م) الذي يخبرنا مؤرخ ثورات الطالبيين أبو الفرَج الأصبهاني (ت 356هـ/967م) -في كتابه ‘مَقاتل الطالبيين‘- بأنه اختفى “فتوارى في دُور [الحسن] ابن صالح بن حي (ت 168هـ/774م)، وطلبه المنصور طلبا ليس بالحثيث، وطلبه [خلَفُه] المهدي وجدّ في طلبه حينا فلم يقدر عليه، فنادى بأمانه ليبلغه ذلك فيظهر، فبلغه فلم يظهر”!

ويروي الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -في ‘جمهرة أنساب العرب‘- أن عيسى بن زيد “اختفى ثمانيا وعشرين سنة” متواريًا عن بني العباس، ولما مات قال الحسن بن حي لأصحابه وفقا لرواية الأصبهاني: “لا يعلم بموته أحد فيبلغ السلطانَ فيسرّه ذلك، ولكن دعوه بخوفه ووَجَلِه منه وأسفه عليه حتى يموت، ولا تَسُرّوه بوفاته فيأمن مكروهه”!! وبالطبع كان الإمام الحسن بن حي نفسه مطلوبا للسلطة العباسية “فاختفى سبع سنين حتى مات.. مستخفيا بالكوفة”؛ طبقا لابن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘.

وبعد موت عيسى بن زيد العلوي؛ حمل مشعلَ التمرد على العباسيين ابنُه الثائر أحمد بن عيسى (ت 247هـ/861م) الذي يصفه الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “سيد العلوية وشيخهم”، ويضيف أنه “حبسه الرشيد (ت 193هـ/809م).. فهرب وتنقل واختفى دهرا طويلا”، وذلك بعد أن “ظهر.. بناحية البصرة وبويع، ثم عجز وهرب، وطال اختفاؤه أزيد من ستين عاما”؛ كما في ‘سير أعلام النبلاء‘ للذهبي.

ويبدو أنه كانت لأحمد العلوي هذا صلات بتيار المعتزلة لما كان لها من علاقة بالزيدية عموما؛ فقد أورد الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه سنة 186هـ/802م “سجن الرشيد ثُمامة بن أشرس (ت 213هـ/828م) المتكلم، لأنه وقف منه على شيء من إعانة أحمد بن عيسى بن زيد”.

ولعل تلك الصلات هي التي ساعدته على الاختفاء ستة عقود، حتى حطم بذلك الرقم القياسي في طول مدة التواري عن ملاحقة السلطة العباسية؛ إذْ يقول صلاح الدين ابن أيْبَك الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- إنه “لا يُعرَف من استتر وخفي أمره هذه المدة كلها غير [أحمد العلوي] هذا”!!

ومن رجال ثورة النفس الزكية الذين قضوا مدة في الاختفاء ثم صار لهم شأن في إدارة الدولة العباسية يعقوب بن داود الفارسي (ت 187هـ/803م) الذي تولى الوزارة للخليفة العباسي المهدي بعد أن انحاز هو وأخوه “علي بن داود (ت بعد 157هـ/775م) لإبراهيم بن عبد الله بن حسن وقت ظهوره، فلما قُتل إبراهيم اختفوا مدة ثم ظفر المنصور بهذين الأخوين فحبسهما حتى مات، ثم مَنَّ عليهما المهدي [بالعفو]..، فلم يزل أمره (= يعقوب) يرتفع لديه حتى استوزره وفوَّض إليه الأمور وتمكَّن”؛ حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
منعطف حاسم
إثر وفاة الخليفة هارون الرشيد؛ شهدت الدولة العباسية أولى قلاقلها السياسية التي أورثتها ضعفا لم تسلم كليا من تبعاته حتى زوالها بعد أربعة قرون، وتمثل ذلك في الحرب الأهلية الطاحنة (193-198هـ/809-814م) بين الخليفة الأمين (ت 198هـ/814م) وأخيه وولي عهده المأمون (ت 218هـ/833م).

ورغم انتصار المأمون الذي أحرزه من معقله في خراسان؛ فإنه ظل هناك طوال ست سنوات كانت فرصة لتجدد الأطماع في الخلافة داخل البيت العباسي، خاصة بعد أن اتخذ المأمون ولي عهد من العلويين هو علي بن موسى الرضا (ت 203هـ/818م)، وهي خطوة أثارت حفيظة العباسيين في بغداد خشية على مستقبل دولتهم.

قرر العباسيون إعلان مبايعة إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) بالخلافة سنة 202هـ/817م، وهو ما واجهه المأمون وقادته بحزم عسكري شديد “فانكسر إبراهيم مرة بعد أخرى، ولما وصل المأمون إلى بغداد.. اختفى إبراهيم ولم يزل مختفيا سبع سنين، و[وقعت] له في اختفائه حكايات عجيبة” وابتلاءات غريبة ومواقف طريفة، حكاها لاحقا في مجالس الخليفة المأمون بعد أن عفا عنه وجعله من ندمائه، وقد خلّد لنا طرفا منها المؤرخ اليمني الطيب بامخرمة الهجراني (ت 947هـ/1541م) في كتابه ‘قلائد النحر‘.

ومثل رجال السياسة وطلاب المُلك؛ لم يكن أثرياء التجار المحسوبين على سلطة ما ليكونوا بمنجاة عن الملاحقة والمصادرة حينما يطاح بتلك السلطة، ويسعون لمساعدة رجالها في الاختفاء عن بطش الحكام الجدد.

فالصفدي يخبرنا -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن التاجر البغدادي الحسين ابن الجصّاص الجوهري (ت 315هـ/928م) “كان من أعيان التجار ذوي الثروة الواسعة واليسار، ولما بويع لعبد الله بن المعتز (ت 296هـ/909م) بالخلافة وانحلّ أمرُه وتفرق جمعُه وطلبه [الخليفة بعده] المقتدر (ت 320هـ/922م) اختفى عند ابن الجصاص هذا، فوشى به خادم صغير لابن الجصاص وصادره المقتدر على ستة آلاف ألف دينار (= اليوم مليار دولار أميركي تقريبا)”.

قبل ألف سنة بالضبط من الآن؛ ألغى أمير تونس المعز بن باديس الصنهاجي (ت 454هـ/1065م) سنة 443هـ/1052م تبعية بلاده للدولة الفاطمية “وسيَّر رسولا إلى بغداد ليقيم الدعوة [للخلافة] العباسية” الغريمة السياسية والدينية للفاطميين؛ حسب المقريزي -في كتابه ‘اتعاظ الحُنفا‘.

أنماط متعددة
وقد استدعى هذا التحول الخطير ردة فعل غاضبة من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/1094م) الذي أطلق العنان للقبائل العربية البدوية في صعيد مصر وغربيها للانقضاض على أراضي أميره الصنهاجي المتمرد على طاعته، فعاثت فيها فسادا حتى أجبرته على مغادرة عاصمته متخفيا ومتنكرا في ثياب النساء!

فقد توجهت حشود تلك القبائل “إلى ديار ابن باديس وملكوها..، وضيقوا خناقه حتى لم يتمكن من قتالهم إلا مستندا إلى حيطان إفريقية (= مدينة تونس)..؛ فلم يجد سبيلا غير إعمال الحيلة في خلاصه، فخرج متخفيا في زي امرأة حتى انتهى إلى المهدية، فاستولت العربان على حرمه وداره..، وانتهبوا ما كان في دُوره وقصوره؛ وعاثوا في البلد ينهبون ويأسرون ويقتلون، فخربت القيروان”!!

وبعد ذلك بثلاثة قرون؛ اندلعت ثورة شعبية في تونس على مَنْ كان فيها من رجال دولة السلطان أبي الحسن علي بن عثمان المريني (ت 749هـ/1348م)، ويحدثنا المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في كتاب رحلته وهو معاصر لتلك الأحداث- أن عبد المهيمن بن محمد الحضرمي (ت 749هـ/م) كان “رئيس الكتاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات”، وأنه “يوم ثورة أهل تونس.. خرج من بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي.. وأقام مختفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان.. وخرج عبد المهيمن من الاختفاء وأعاده السلطان إلى ما كان عليه” من المكانة والنفوذ!!

وكثيرا ما أدى اجتياح القوات الغازية لمدينة ما إلى فرار جماعي لسكانها طلبا للسلامة من النهب والقتل على أيدي جنود السلطة الجديدة؛ ومن ذلك ما يرويه لنا القاضي التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- من أنه حين اقتحمت القوات البويهية بغداد سنة 334هـ/945م “خاف الناس السيف [فـ]ـهربوا على وجوههم، وكانت.. الأطفال والعجائز وسائر الناس.. يتعادون يريدون الصحراء -وكان ذلك اليوم حارا- فلا يطيقون المشي”! وينقل عن شاهد عيان للحادثة قوله: “فرأيتُ ما لا أحصي من أهل بغداد قد تلفوا بالحر والعطش، ونحن نركض هاربين، فما شبَّهتُه إلا بيوم القيامة”!!

وتكرر الأمر ببغداد أيضا عندما احتلها التتار سنة 656هـ/1258م؛ فقد كان من أول ما فعلوه هو تصفية الخليفة العباسي المستعصم (ت 656هـ/1258م) ثم “قتلوا أمراءه عن آخرهم، ثم مدوا الجسر وبذلوا السيف ببغداد واستمر القتل ببغداد بضعا وثلاثين يوما، ولم ينج إلا من اختفى [من أهلها]..، ثم نودي بعد ذلك بالأمان فخرج من كان مختبئا، وقد مات الكثير منهم تحت الأرض بأنواع من البلايا”؛ حسبما يرويه تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) في ‘طبقات الشافعية الكبرى‘.

وفي الغرب الإسلامي؛ بسط زعيم حركة الموَّحِّدين عبد المؤمن بن علي الكُومي (ت 558هـ/1162م) سيطرته على عاصمة خصومه المرابطين مدينة مراكش سنة 541هـ/1147م، فـ”استوطنها واستقر ملكه بها، وقَتل من أهلها فأكثر واختفى كثير منهم، فلما كان بعد أسبوع أمر فنودى بالأمان، فخرج من اختفى من أهلها”؛ طبقا للنويري في ‘نهاية الأرب‘.

علماء ثوار
وإن كانت السلطة تلاحقُ معارضيها في بوادر المعارضة الأولى ممثلة في “الكلمة” المجردة، فلا عجب أن تلاحقهم حين يثورون عليها حاملين مختلف أنواع السلاح، وأن تواصل المطاردة حتى بعد الهزيمة، عقابًا لمن خالفها أولًا، وحسمًا لمادة الثورة وقطعًا لآمال الثوار ثانيًا، وجعل مخالفيها عبرةً لمن بعدهم ثالثًا!

فعقب كل هزيمةٍ سياسية أو عسكرية، تجتهد السلطة في تعقب المهزومين وملاحقة فلولهم، وخشية من اجتماعهم من جديد، وحينها كثيرًا ما تجدُ من نجا من القتل في المعركة يقضي حياته مختفيًا خائفًا يترقّب أو منفيًّا بعيدًا من أهله وبلده، كما جرى -في صدر الإسلام- لكثير من العلماء الثوار على والي العراق الأموي الحجّاج الثقفي بعد فشل ثوراتهم ضدّه.

فكان ممن طاردهم الحجّاج عدد من أجلاء علماء التابعين، مثل سعيد بن جُبير (ت 95هـ/715م) الذي يذكر الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “خرج (= ثار) مع القائد العسكري عبد الرحمن بن الأشعث (ت 95هـ/715م) على الحجّاج، ثم إنه اختفى وتنقل في النواحي اثنتي عشرة سنة، ثم وقعوا به فأحضروه إلى الحجاج” فقتله في الحادثة الشهيرة. وروى الحافظ الأزدي -في ‘كتاب المتوارين‘ -الذي سبق ذكره- أن بن جبير قال: “والله لقد فررتُ حتى استحييتُ من الله عزّ وجل”!!

وممن اختفى من بطش الحجاج لمشاركته في “ثورة الفقهاء” مع ابن الأشعث: الإمامُ عامر الشَّعْبي (ت 106هـ/725م) الذي يقول عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: “كان الشَّعبي فيمن خرج مع القُرّاء (= العلماء) على الحجاج، ثم اختفى زمانا، وكان يكتب إلى يزيد بن أبي مسلم (الثقفي ت 102هـ/721م) أن يكلم فيه الحجاج” ليعفو عنه. وكان يزيد بن أبي مسلم هذا وزير مالية الحجّاج ومستشاره الخاص الذي لا يخرج عن رأيه.

وكذلك التابعيّ الجليل الحسن البصريّ (ت 110هـ/م) الذي يروي لنا معاناته في الاختفاء عن أجهزة مخابرات الحجاج أبو العرب التميمي (ت 333هـ/945م) في كتابه ‘المحن‘؛ فيقول: “عن الحسن [البصري] قال: كنت مختفيا من الحجاج، وكنت أدعو بدعاء.. فحبسه الله عني، ولقد دخلوا علي ست مرات فدعوت الله عز وجل فأخذ بأبصارهم”! وحكى الإمام ابن عساكر “أن الحجاج بن يوسف أراد قتل الحسن.. مرارا فعصمه الله منه مرتين، وكان اختفى مرة في بيت.. سنتيْن، ومرة في طاحنة في بيت”!!

وإذا كان الحجاج قد ظفر بابن جبير وغيره من الأئمة الذين ثاروا عليه، فقتل بعضهم وعفا عن بعض؛ فقد أضمرت الأرضُ كثيرًا من أعيان المسلمين، ولم يعدم هؤلاء من يحذرهم تربّص السلطة بهم كما صنع الرجل الصالح بموسى عليه السلام، إذ جاءه ﴿رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾؛ (سورة القصص/ الآية: 20).

وكان من هؤلاء الذين وصل إليهم التحذير الثمين قبل ظفر السلطة بهم الحسن البصريّ؛ فقد جاء في ‘تجارب الأمم‘ لمسكويه أن “يزيد بن أبي مسلم (مستشار الحجّاج الثقفي) هو الذي نبّه الحسن البصري على الاستتار حتّى سلم من الحجّاج، وذلك أنّه لقيه خارجا من عنده فقال له: توارَ يا أبا سعيد، فإنّي لست آمن أن تتبعك نفسه، فتوارى عنه وسلم منه. وقيل: إنّه استتر تسع سنين”! ويروي ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أن “الحسن لما بُشِّر بموت الحجاج سجد شكرا لله تعالى، وكان مختفيا فظهر”!!

ملاحقة مستمرة
مع مقدم الدولة العباسية تواصلت ملاحقة السلطة الجديدة للعلماء الذين لا تطمئن إلى مواقفهم، ولذلك تجددت تجارب العلماء مع محن التخفي والتواري سعيا للأمان؛ خاصة أن العباسيين -ممثلين بواليهم على الشام عبد الله بن علي (ت 147هـ/765م)- بالغوا في استئصال كل أعيان المجتمع الشامي ممن كانت لهم صلات بالدولة الأموية.

وكان من هؤلاء إمام أهل الشام الأوزاعي (ت 157هـ/769م) فتوارى عن الأنظار فرارا بنفسه من القتل فلجأ إلى بيت شيخه واصل بن أبي جميل السلاماني (ت بعد 132هـ/751م)، الذي يعترف بذلك قائلا: “لما هرب الأوزاعي من عبد الله بن علي كان مختبئا عندي”! ويؤكد الأوزاعي ذلك بقوله: “ما تهنَّيتُ قَطُّ بضيافة أحد ما تهنّيتُ بضيافتي عنده! كان خبّأني في هُرْيِ (= مخزن) العدسِ..، فكان لا يتكلف لي فتهنيت بضيافته”؛ وفقا للإمام جمال الدين المزي (ت 742هـ/1341م) في ‘تهذيب الكمال‘.

ومن العلماء الذين أزعجوا السلطة العباسية بصدعهم بكلمة الحق الإمام سفيان الثوري (ت 161هـ/779م) فعرّضه ذلك للمطاردة الأمنية الحثيثة، ففرّ من العراق إلى مكة المكرمة ثم عاد سرًّا إلى العراق حيث توارى حتى “مات بالبصرة مختفيا من المهدي، لأنه كان قوالا بالحق، شديد الإنكار على الظلمة، لا تأخذه في الله لومة لائم”؛ وفقا لحاجي خليفة (ت 1067هـ/1657م) في ‘سلم الوصول‘.

ولم تقتصر الملاحقات الأمنية السلطوية على رجال السياسة وأئمة العلم، بل شملت أيضا كبار المثقفين من الشعراء والأدباء، ممن كانوا ناقدين للسلطة أو محسوبين على سلطة سابقة حتى ولو كانت ضمن دولة واحدة.

ومن القصص الواردة في ذلك ما حكاه الصفدي -في ‘الوافي بالوفيات‘- من أن علّامة الأدب حماد بن أبي ليلى الكوفي (ت 169هـ/786م) المعروف بـ”حماد الرواية” كان أحد أدباء البلاط الأموي في دمشق، لكونه “خبيرا بأيام العرب ووقائعها وشعرها، وكانت بنو أمية تقدّمه وتؤْثِره وتحب مجالسته…، وكان انقطاع حماد إلى يزيد بن عبد الملك (ت 105هـ/724م)، وكان [ولي عهده] هشام (بن عبد الملك ت 125هـ/744م) يجفوه، فلما ولي الأمرَ اختفى حماد وبقي سنة في بيته لا يخرج”!

وجاء في ‘مجمع الآداب‘ لابن الفُوَطي الشيباني (ت 723هـ/1323م) أنه “لما طلب [الخليفة العباسي] المأمون دِعْبل (الخزاعي الشاعر ت 246هـ/860م) بخراسان استتر عند [أميرها] عبد الله بن طاهر (ت 230هـ/845م) وقال:
جئتك مستشفعا بلا سبب ** إليك إلاّ بحرمة الأدب
فاقضِ ذمامي فإنّني رجل ** غير مُلِحّ عليك في الطلب
فأجاره وأجازه (= كافأه) بما مقداره ستون ألف درهم (= اليوم 75 ألف دولار أميركي تقريبا)”!!
محاكمات فكرية
وإذا كانت ملاحقة السلطة لمعارضيها السياسيين -سواء استخدموا القوة الضاربة أو اكتفوا بالكلمة الغاضبة- مفهومة وواردة في العموم؛ فإنه يبقى من المستهجن مطاردتها الأمنية لأصحاب الآراء العلمية لدواع فكرية أو اختيارات مذهبية، أو تضييقها على الرافضين لتولي مناصبها الوظيفية زهدا فيها وتعففا عنها، أو اعتراضا مهذّبا على نمط الحكم نفسه والخلفية الفكرية لأصحابه.

فالإمام المحدّث ابن حِبّان (ت 345هـ959) يفيدنا -في كتابه ‘الثقات‘- بأن الإمام التابعي إبراهيم بن يزيد النَّخَعي (ت 96هـ/715م) “مات وهو متوارٍ من الحجاج فدُفن ليلا”، دون أن يذكر لنا ابن حِبّان سبب ذلك التواري!

لكننا نجد تعليلا طريفا لذلك أبعد ما يكون عن السياسة وغوائلها، وقد ساقه أبو العرب التميمي -في كتابه ‘المحن‘- بقوله: “كان الحجاج يقتل من قرأ [القرآنَ] قراءةَ عبد الله (بن مسعود الصحابي ت 32هـ/654م)، فكانوا يكتتمون بها، ومات إبراهيم النخعي مختفيا منه، وكان يقرأ قراءة عبد الله”!! ولذا “قال حماد بن أبي سليمان (ت 120هـ/739م): لما أخبرتُ إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من الفرح”!! حسب ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.

ومن ذلك أيضا أن معمر بن عباد البصري (ت 215هـ/830م) كان في المعتزلة “أحدَ كبارهم ومتبوعيهم”؛ كما في ‘تاريخ الإسلام‘ للذهبي الذي يضيف أن معمرا هذا كانت له آراء كلامية غريبة لا يرضى عنها حتى أبناء فرقته “وعلى هذا طلبته المعتزلة بالبصرة عند السلطان، ففرّ إلى بغداد وبها مات مختفيا..، وكان بينه وبين [إبراهيم] النظّام (إمام المعتزلة ت 229هـ/844م) مناظراتٌ ومنازعات في مسائل”.

وحين اندلعت المحاكمات السلطوية في “محنة القول بخلق القرآن” خلال الفترة 218-232هـ/833-847م؛ نال أذاها عددا وافرا من أئمة العلم في العراق والشام ومصر سجنا أو اختفاء أو هما معا، وكان ممن توارى فيها عن عيون السلطة إمامُ المالكية بمصر أصْبغ بن الفرَج الأموي (ت 225هـ/840م) الذي “توفّي مختفيا من المحنة” أيام الخليفة المعتصم العباسي (ت 227هـ/842م)؛ وفقا لابن عبد العليم الخزرجي (ت بعد 923هـ/1529م) في ‘خلاصة تهذيب الكمال‘.

ومثْل أصبغ في محنة الاختفاء الإمامُ المقرئ خلف بن هشام البغدادي (ت 229هـ/844م) الذي يفيدنا علاء الدين مُغُلْطاي (ت 762هـ/1361م) -في ‘إكمال تهذيب الكمال‘- أنه “مات ببغداد.. وكان مختفيا أيام الجهمية”، وهم تيار فكري من المتكلمين في العقائد يشملون المعتزلة وآخرين، وكانوا متهمين بأنهم وراء تبني السلطات العباسية لمقولة “خلق القرآن” وما تمخض عنها من محاكمات فكرية شائنة.

ازدواجية مؤلمة
وربما اجتمعت على أحدهم كربة التخفي ومحنة مؤسسة السجن كما جرى للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)؛ فقد روى ابن أبي يعلى الحنبلي (ت 526هـ/1133م) -في ‘طبقات الحنابلة‘- أن إبراهيم بن هانئ النيسابوري (ت 265هـ/879م) كان تلميذا للإمام أحمد، وأنه قال: “اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال ثم قال: اطلب لي موضعا حتى أدور (= أنتقل)، قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله! فقال لي: النبي -صلى الله عليه وسلم- اختفى في الغار ثلاثة أيام ثم دار، وليس ينبغي أن نتبع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرخاء ونتركها في الشدة”!!

وممن نالته محنة خلق القرآن فاجتمع له التخفي والسجن: عباس بن موسى بن مسكويْه الهمذاني (ت نحو 270هـ/883م)، الذي كان كما يصفه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- “أحد الأئمّة الحفّاظ… جليل القدْر سُنّيًا..، وكان امتُحِنَ أيّام [الخليفة العباسي] الواثق (ت 232هـ/847م) ودخل بغداد وتوارى بها، ونزل على أبي بَكْر الأعْيَن، فأُخِذَ من داره، وجرى عليه أمرٌ عظيم” من تلك المحنة!!

وفي مصر الفاطمية عُرف “محدِّث الديار المصرية” عبد الغني بن سعيد الأَزْدي (ت 409هـ/1019م) بـ”اتصاله بالدولة العُبَيدية (= الفاطمية).. [حتى إنه] وَلِيَ وظيفة لهم” رغم مباينته لنظامهم مذهبيا؛ حسب الذهبي الذي يعلل ذلك -في ‘السِّيَر‘- بأنه كان “مداراةً لهم، وإلا فلو جمح عليهم لاستأصله الحاكم خليفة مصر” الفاطمي (ت 411هـ/1021م).

لكن الحافظ الأزدي انتابه الفزع إثر قتل الخليفة الفاطمي صديقيْن له عالميْن كانت بينه وبينهما “مودة أكيدة واجتماع في دار الكتب ومذاكرات”، فما كان منه إلا أن “استتر.. بسبب ذلك خوفا أن يُلحق بهما، وأقام مدة مختفيا حتى ظهر له الأمن”؛ وفقا للصفدي في ‘الوافي بالوفيات‘. ولقد كانت في محنته تلك منحة عظيمة إذْ جعل منها فرصة لتأليف مصنَّفه الطريف “كتاب المُتوارين”، الذي عالج فيه هذه الظاهرة الإنسانية المثيرة التي نتناولها اليوم في هذا المقال بعد ألف سنة من كتابته هو عنها!!

وقبل تحويل الفاطميين عاصمة ملكهم من تونس إلى مصر؛ نالت علماءَ المالكية في بلاد المغرب منهم كروبٌ عظيمة ومحنٌ شداد ألجأت عددا منهم إلى التواري خوفا على حياته، ومنهم العالم الزاهد عمر بن عبد الله بن يزيد المعروف بابن الإمام الصوفي (ت 350هـ/961م) الذي يخبرنا القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) -في ‘ترتيب المدارك‘- أنّه لما دخل الفاطميون تونس طُورد وطُلب، فكان “يلبس ثياباً حِساناً ويتزيّا بزِيّ التجار ويتعمم ويمشي بين الناس، ويُخفي بذلك نفسَه فلا يعرفه أحد بذلك الزي” لاشتهاره عندهم بلبس الصوفية!!

ومن عظائم المحن الفكرية في تاريخنا القديم تلك التي عُرفت بـ”فتنة الكُنْدَري” لكونها ثارت بتأجيجٍ من الوزير السلجوقي أبو نصر الكُنْدَري (ت 456هـ/1065م)، وكان هذا الوزير “معتزليا… يؤذي الشافعية ويبالغ في الانتصار لمذهب أبي حنيفة”؛ حسب الذهبي في ‘السِّيَر‘.

فرار جماعي
وقد أدت هذه الفتنة -التي استمرت أكثر من عشر سنوات 444-455هـ/1053-1064م- إلى لجوء جماعي لمئات من كبار الفقهاء والمحدّثين والصوفية والقضاة من بلدانهم بمناطق نيسابور ومرو في خراسان، فبلغ عددهم في سنة واحدة “أربعمئة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية”؛ طبقا للسبكي في ‘طبقات الشافعية الكبرى‘.

فكان من هؤلاء الفارين من بلادهم جراء عسف السلطة المحدّثُ الحافظ أبو بكر البيهقي (ت 458هـ/1067م)، وإمامُ التصوف أبو القاسم القشيري (ت 465هـ/1073م)، والفقيه الأصولي المتكلم إمامُ الحرمين أبو المعالى الجويني (ت 478هـ/1085م)، فتفرقوا في البلاد “فمنهم من جاء إلى العراق ومنهم من جاء إلى الحجاز.. وتشتت فكرهم..، فمِن عازم على المجاورة [بالحرمين]، ومِن متحير في أمره لا يدري أين يذهب”!!

أما أطرف وأعجب قصص فرار العلماء حين يجدون أنفسهم يُحكَمون من خصومهم الفكريين والمذهبيين؛ فربما كانت حكاية الإمام الأندلسي أبي الوليد محمد بن عبد الله ابن خيرة القرطبي المالكي (ت 551هـ/1156م)، الذي غادر بلده قرطبة بعد أن سقطت سنة 543هـ/1148م في أيدي الموحِّدين بقيادة عبد المؤمن بن علي، وكانوا مناهضين للفقهاء المالكية الذين اعتمدت عليهم دولة المرابطين الذين قوّض الموحدون بنيانها.

ويحدثنا المقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- عن واقعة فرار هذا الإمام الأندلسي التي تواصلت أحداثها ثماني سنوات، وغطت مساحة تسعة آلاف كيلومتر امتدت من الأندلس إلى الهند؛ فيقول إنه: “خرج من قرطبة.. بعدما درّس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله، وأقام بالإسكندرية خوفا من بني عبد المؤمن بن علي (= الموحدين)، ثم قال: كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية!

ثم سافر إلى مصر (= القاهرة).. وأقام بها مدة، ثم قال: والله ما مصرُ والإسكندرية بمتباعدتين! ثم سافر إلى الصعيد.. ثم قال: والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد؟! فمضى إلى مكة وأقام بها، ثم قال: وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج؟ ما أنا (كذا؟ ولعلها: ما أراني) إلا هربتُ منه إليه! ثم دخل اليمن، فلما رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن! فتوجه إلى الهند فأدركته وفاته بها”!!

احتجاج مبطَّن
ومن أغرب أسباب الفرار من السلطان والاختفاء عن رصد عيونه الإعراضُ عن تولي المناصب الرسمية؛ فربما فرّ بعض العلماء من تولي القضاء خوفًا من أن يُجْبره الحاكم على محاباة طرفٍ أو الحكم بغير ما يمليه عليه علمه ودينه وضميره.

ومن أمثلة ذلك ما وقع للقاضي المشهور بالفقه والذكاء إياس بن معاوية المُزَني (ت 122هـ/741م)، فقد تهرّب من القضاء أولًا، ثم أُلزِم به، فعُيّن قاضيًا لوالي عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) على البصرة عَدِيّ بن أرْطَأة (ت 102هـ/721م)، فتولى القضاء سنةً ثمّ هرب “فتوارى ثم خرج إِلَى واسط” بعد أن خاف بطش الوالي لحكمه في قضية بما يخالف رغبته؛ في قصة طويلة رواها الحافظ المزي في ‘تهذيب الكمال‘.

وغالبا ما كان العلماء يفرّون من تولي القضاء تورعًا وخشية من خطأ الحكم في دماء الناس وأموالهم، حتى إن بعضهم كان يتسبب في حبس نفسه فرارا من إكراهه على تولي القضاء، كما فعل الإمام القاضي شَرِيك بن عبد الله النَّخَعي (ت 177هـ/793م)، وحين نجح أحد ولاة العراق في إكراهه على منصب القضاء التزم الصمت في مجلس القضاء احتجاجا “فجعل لا يتكلم حتى قام فهرب واختفى”؛ طبقا لرواية وكيع بن حيّان الضبي (ت 306هـ/918م) في كتابه ‘أخبار القضاة‘.

ولم يكن التخفي فرارا من تولي القضاء مقتصرا على علماء مذهب فقهي معين، بل تعددت قصصه ونماذجه في جميع المذاهب والأمصار والأعصار؛ ففي مصر العباسية نلاقي الإمام المالكي عبد الله بن وهب الفهري (ت 197هـ/813م) الذي “طُلب للقضاء فتوارى” مدة طويلة في بيت أحد تلامذته؛ حسب الإمام ابن عدي الجُرْجَاني (ت 365هـ/976م) في كتابه ‘الكامل في الضعفاء‘.

وفي مصر أيضا نجد الإمام الحنفي محمد بن عبد بن حرب البصري (ت 313هـ/925م) الذي “ولي قضاء مصر.. ست سنين وسبعة أشهر إلى أن استتر وبقي مستترا عشر سنين”؛ وفقا لابن أبي الوفاء لقرشي (ت 775هـ/1373م) في ‘الجواهر المُضِيّة في طبقات الحنفية‘.

أما “شيخ الشافعية” بالعراق الحسين بن صالح ابن خيران البغدادي (ت 320هـ/932م) فيحدثنا الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه “عُرض [عليه].. القضاء فلم يتقلده” وفرّ من بيته حتى لا يُكرَه على توليه، لكن السلطة العباسية ببغداد أيام الخليفة المقتدر أغلقت باب داره بالمسامير، وفرضت عليها الشرطة حراسة مشددة لتجبره على الاستجابة لتعيينه قاضيا، “وخوطب الوزير في ذلك فقال: إنما قصدنا التوكيل بداره ليقال: كان في زماننا مَنْ وُكِّلَ [الشرطة] بداره ليتقلد القضاء فلم يفعل”!!

وقد وجد ابن خيران مؤازرة استثنائية من الرأي العام المسلم ببلده دعما لموقفه هذا؛ فهذا الإمام أبو بكر بن الحداد الشافعي (ت 345هـ/956م) يقول إنه “شاهد.. ببغداد سنة عشر وثلاثمئة (310هـ/922م) باب أبي علي بن خيران مسمورا لامتناعه من القضاء، وقد استتر! قال: فكان الناس يأتون بأولادهم الصغار [إلى داره]، فيقولون لهم: انظروا حتى تحدثوا بهذا” الأجيال القادمة!!

وتواصلت ظاهرة تواري العلماء فرارا من تولي القضاء إلى قرون متأخرة نسبيا؛ فقد ذكر ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) -في شذرات الذهب‘- أن برهان الدّين إبراهيم بن موسى الأبناسي الشافعي القاهري (ت 802هـ/1399م) “كان متقشفا عابدا طارحا للتكلف، وعُيّن للقضاء فتوارى [رافضا له]، وتفاءل بالمصحف [فـ]ـخرج له [حين فتحه قولُه تعالى]: ﴿قال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾”؛ (سورة يوسف/ الآية: 33).

حيَلٌ طريفة
في مواجهة سلطة مطلقة التصرف وذات يد طولى لا ترحم؛ لا بد للمطارَد الخائف من وسائل هرب وأساليب تنكّر يؤمن بها النجاة لنفسه، والأوْلى أن تكون وسيلة استثنائية إما في طبيعتها العملية أو في فكرتها الإبداعية، وقد كان للمطارَدين في تاريخنا طرقهم المتنوعة للإفلات من قبضة ملاحقيهم ورقابتهم، وتراوحت نتائج استخدامها بين الظَّفَر والإخفاق.

ومن ذلك أن الفارّين من الملاحقة الأمنية كثيرا ما راودتهم فكرة اللجوء إلى مرتفعات الأماكن لما تحققه من شعور بالأمان فيها، وإن لم يكن ذلك في جبلٍ شاهق ففي مبنى عالٍ يقوم مقامه، وحبذا لو كان مما لا يخطر على البال استخدامه للتواري عن الأنظار.

ومن قصص الاختباء الظريفة في ذلك الاختباءُ في المئذنة لارتفاعها وبُعدها عن توقعات المراقِبين؛ فقد لجأ إليها الأمير المملوكي حسام الدين لاجين (ت 698هـ/1299م) الذي ذكر الصفدي -في ‘أعيان العصر‘- أنه شارك في قتل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ/1294م) بمصر، ثم اختفى مع أميرٍ آخر فـ”جاءا إلى جامع ابن طولون واختبآ في المئذنة، وبقيا فيها أكثر من يومين، ونذر لاجين -إن سَلِمَ- أنه يعمر الجامع المذكور، ووفى بنذره” بعد نجاته، ثم إنه تولى السلطنة المملوكية فـ”كان من خيار الملوك في الإسلام”.

ومن سعة الجبال ورفعة المآذن إلى ضيق الأفران وظلمتها؛ فقد ورد الاختباء في التنّور في كثير من قصص الفارّين من السلطة، غير أن أكثرها كان ينتهي نهاية مأساوية بالظفر بالهارب والقبض عليه! ففي سنة 321هـ/933م انقلب الخليفة العباسي القاهر بالله (ت 339هـ/950م) على القائد العسكري القوي الأمير مؤنس الخادم التركي (ت 321هـ/933م) الذي أوصله إليه سدة الخلافة فقتله.

ثم شن القاهر بالله حملة ملاحقة وتصفية لرجال مؤنس ودولته العميقة التي وطدها طوال ستين سنة، فكان من الملاحَقين مساعده علي بن بُليق (ت 321هـ/933م) الذي نجح أولا في الفرار والاختفاء، ثم “جاء بعض الفرسان إلى القاهر ودلّه على موضعه، فبعث الرجالةَ في طلبه إلى الدار التي كان فيها فكُبِست (= اقتُحمت)، وفتشوا عليه فلم يجدوه، واختبأ في تنور فاستخرجوه وجيء به” فقُتل!! وسبق ذكر أن الإمام التابعي الحسن البصري اختفى مرة في “طاحنة في بيت”!!

ومن الحيل الذكية للفرار من سجن الأعداء ما فعله والي العراق الأموي عمر بن هبيرة الفزاريّ (ت نحو 110هـ/729م) حين عزله هشام بن عبد الملك وولَّى بدلا منه خالد بن عبد الله القَسْري (ت 126هـ/745م)، وحصلت بينهما مشاحنة “فقيّده خالد القسري وألبسه مدرعة من صوف وحبسه؛ ثم إن غلمان ابن هبيرة اكتروا داراً إلى جانب السجن فنقبوا سرداباً إلى السجن وأخرجوه منه، فهرب إلى الشام”؛ طبقا للمؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/1469م) في ‘النجوم الزاهرة‘.

قد يكون من المألوف استخدام صناديق الأمتعة العادية لتهريب الخائفين المطارَدين، أما أن تكون تلك الصناديق مما هو مُعدٌّ لخزن مواعين مطابخ الأمراء فذلك أمر جدير بوصفه بأنه “تفكير من خارج الصندوق”! وهو ما لجأ إليه فعلا الوزير الأيوبي بدمشق ضياء الدين ابن الأثير (ت 637هـ/1239م) سنة 592هـ/1198م حين “اختلفت الأحوال به وكثُر شاكوه وقَلَّ شاكروه”، فقرر الفرار من الأخطار المحدقة به “وخرج من دمشق في صناديق المطبخ مختبئا”!!

ومن طرائف حيل التخلص من السجن ذات الصلة بعالم المطابخ ما صنعه الأمير الفارس يزيد بن المهلب (ت 102هـ/721م) من تنكُّر في زيّ الطباخين؛ فقد ذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أن الحجاج الثقفيّ سخط على يزيد بن المهلب واثنين من إخوته فـ”أودعهم السجن، ثم خرج الحجاج إلى بعض المحال ليُنْفذ جيشا.. واستصحبهم معه، فخندق حولهم ووكّل بهم الحرس، فلما كان في بعض الليالي أمر يزيد ابن المهلب بطعام كثير فصُنع للحرس، ثم تنكر في هيئة بعض الطباخين وجعل لحيته لحية بيضاء وخرج..، ثم لحقه أخواه فركبوا السفن وساروا نحو الشام”!!

جوائز مغرية
مثلما تفعل حكومات دول العالم اليوم؛ كان الخلفاء والأمراء يرصدون مكافآت مالية لمن يقدم معلومات تقود إلى اعتقال من يطاردونهم من الشخصيات المسخوط عليها، كما فعل مثلا الخليفة العباسي المهدي الذي “نذر (= أهدَر).. دمَ رجلٍ من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته، وجعل لمن دلَّ عليه أو جاء به مئة ألف درهم (= اليوم 125 ألف دولار أميركي تقريبا)، فأقام الرجل حينا متواريا ثم إنه ظهر” في بغداد؛ طبقا للتنوخي في ‘المُستجاد من فعلات الأجواد‘.

ويحدثنا الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- أن الثائر العلوي محمد بن القاسم بن علي الحسيني (ت بعد 219هـ/834م) استغل فرصة انشغال سجّانيه بـأفراح عيد الفطر سنة 219هـ/834م فـ”هرب من الحبس بالليل..، دُلِّي إليه حبلٌ من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء”، وما أن علم الخليفة المعتصم بخبر فراره حتى “جعل لمن دلّ عليه مئة ألف درهم، وصاح بذلك الصائح [في الناس]، فلم يُعرَف له خبر” بعد اختفائه!!

ومع تلك الجوائز المالية المُغرية بالدلالة عليهم؛ كان من أشدّ ما يواجه المُطارَدين في الأزمان السالفة تقارب سحنات البشر، ومعرفتهم بعضهم بعضًا، وظهور الغريب بينهم بلا عناء، فتُثار حوله الأسئلة ويسارع السُّعاة في الوشاية تزلّفًا إلى السلطة ورغبةً في مكافآتها المرصودة، فينكشف المطارَد وينتهي أمره، لذلك احتاج الملاحَقون أمنيا إلى التنكّر في صورةٍ تجيب عن أسئلة الفضوليين أو تُبعدها.

ولعلّ أيسر الصور وأكثرها شيوعًا هي الفرار بالتخفي في زيّ النساء، لطبيعة ثيابهنّ الساترة وبعدهنّ غالبا عن إثارة الريبة، وكراهية الناس إطالة النظر إليهنّ والفحص عن أمرهنّ لحرمتهن في المجتمع. ورغم ما في الاختباء بزيّ النساء من “نقصٍ” في المخيال الثقافيّ لكثير من الشعوب؛ فإن قصص استخدامه متظاهرة في كتب تاريخنا الإسلامي، ولم يكن اللجوء إليه بعيدًا عن كثيرٍ من المذكورين بالشجاعة والبطولة، ناهيك عن كبراء الوزراء ومشاهير الشعراء.

ومن أطرف القصص في ذلك ما حكاه الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في كتابه ‘الحيوان‘- من أن الشاعر الكميت بن زيد الأسدي (ت 126هـ/745م) أغضب والي العراق الأموي خالد بن عبد الله القَسْري المعروف بقسوته، فأمر بسجنه “وكانت امرأته تختلف إليه في ثياب وهيئة حتى عرفها البوابون، فلبس يوما ثيابها وخرج” من السجن!! ومن ذلك ما سبق ذكره عن أمير تونس المعز بن باديس الصنهاجي حين اجتاحت القبائل العربية البدوية القيروان “فخرج متخفيا في زيّ امرأة حتى انتهى إلى المهدية”!!

نمط شائع
ووصف لنا الصُّولي الكاتب (ت 335هـ/946م) -فيما حكاه عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘- النهايةَ المأساوية للوزير العباسي أبي الحسن ابن الفرات (ت 312هـ/924م) وابنه المحسن (ت 312هـ/924م)؛ فقال: “قبض [الخليفة] المقتدر على ابن الفرات وهرب ابنه، فاشتد السلطان وجميع الأولياء في طلبه إلى أن وُجِد، وقد حلق لحيته وتشبه بامرأة في خُفٍّ وإزار..، ثم قتلهما نازُوك (الخادم قائد شرطة بغداد المتوفى 317هـ/929م)، وبعث برأسيهما إلى المقتدر”!!

ومن الأعيان الشجعان الذين احتالوا بالفرار في زي النساء تهربا من مطاردة الأعداء الشيخ علوان بن عبد الله المذحجيّ (ت 660هـ/1262م) الذي يصفه المؤرخ اليمني بهاء الدين الجندي (ت 732هـ/1332م) -في ‘السلوك في طبقات العلماء والملوك‘- بأنه كان “واحدا من أعيان مشايخ الزمن رئيسا شجاعا كريما.. ملك ناحية كبيرة في مشرق اليمن”، ثم إنه حاصرته جيوش السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م) في حصنه “فَنزل متنكرا فِي جملَة حَرِيم لم يشْعر بِهِ أحد”!!

وكثيرًا ما تنكّر المطارَدون أمنيا في أزياء ذوي التعبّد كالصوفية والحجاج والرهبان، لبعدهم عن التهمة واعتقاد الناس الخير فيهم وكراهية أذيتهم، ولذا وردت قصص التنكّر في هيئتهم كثيرًا في كتب التاريخ. ومن ذلك ما جاء في كتاب ‘مَقاتل الطالبيين‘ للأصبهاني من أنه في أيام ثورة زيد بن علي الهاشمي على الأمويين “خرج نفر من أصحابـ[ـه].. متنكِّرين مع الحاج (= الحجاج)، عليهم جِبابُ الصوف وعمائم الصوف، يسوقون الجِمال في زي الجمّالين، حتى أمِنُوا فعدلوا [عن الحجاج] إلى إبراهيم [أخيه بالبصرة]، وكانوا معه حتى قُتل”.

وذكر الذهبي -في ‘السِّيَر‘- أن الطبيب أبا علي ابن سينا (ت 428هـ/1038م) عمل وزيرا لبعض أمراء خراسان “ثم مات الأمير فاختفى أبو علي عند شخص..، ثم أُخِذَ وسُجن أربعة أشهر، ثم تسحّب (= انسحب) إلى أصبهان متنكِّرا في زي الصوفية هو وأخوه وخادمه وغلامان، وقاسوا شدائد” في رحلة فرارهم تلك.

وعلى ما يبدو فإن الاختباء في زيّ أهل العبادة كان فاشيًا في الأمم؛ فقد أورد ابن تَغْرِي بَرْدِي -في ‘النجوم الزاهرة‘- ضمن أحداث سنة 658هـ/1260م أن جنود والي المماليك بالشام اعتقلوا “ملك الكَرَج” التي تُعرف اليوم بدولة جورجيا، وقد كان ملكا مسيحيا “خرج من بلاده قاصدا زيارة القدس الشريف متنكّرا في زيّ الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصّه”، فاكتشفوا أمره “وهو على [مدينة] يافا فبعثـ[ـوا] إليه من قبض عليه”!!

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى