النظام السياسي في الإسلام وعلاقته بالأنظمة الحاكمة اليوم
بقلم د. محمد كامل شبير
أسست الدولة الإسلامية بعد أن هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة، وحكمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم خلفه الخلفاء الراشدون، وجاء من بعدهم خلفاء آخرون تولوا رئاسة الدولة الإسلامية، ورئاسة الدولة في الشريعة تسمى: الخلافة، أو الإمامة العظمى، وكان رئيس الدولة الإسلامية يسمى: خليفة، أو إمامًا، كما كان يسمى: أمير المؤمنين.
يقول ابن الربيع:”الناس مضطرون إلى تدبير وسياسة وأمر ونهي.”، فقبل معرفة النظام السياسي في الإسلام؛ يجب التنبيه إلى أن استتباب أمور أي مجتمع بشري؛ لا بد من الرجوع إلى ما سماه ابن خلدون بالقوانين السياسية التي يسلم بها الناس، وينقادون لأحكامها؛ فلا تستقيم رعية في حالة كفر أو إيمان بلا عدل، أو ترتيب للأمور يشبه العدل.
فالإسلام جاء نظام متكامل لإدارة حياة الأفراد والناس؛ ليحقق هدف إدارة الحياة، للوصول لسعادة الدار الآخرة، لقول الله عز وجل:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة؛ حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين، ليكون الكل محوطًا بنظر الشارع.
السياسة الشرعية
فالسياسية شقين: الشق العقلي، والشق الشرعي؛ فالسياسة العقلية التي يضعها كبار القوم وحكماؤهم والشخصيات الوازنة، ولكن بشرط أنها لا تتجاوز السياسة الشرعية بخصائصها السياسية العادلة. فالخاصية الأولى للسياسة العقلية مرتبطة بالعقل والحسابات الشخصية والنفسية في الهيمنة والسلطة؛ فالمحرك الأول للسياسة العقلية: المصالح والأهواء.
كما أن هناك خاصية ثانية، وهي الغاية الشرعية من خلق الإنسان؛ ألا وهي: رضا الله والجنة، وهي الرابط بين الإنسان وربه، مما يجعل السياسة العقلية تخضع للخشية والخوف من الله، وتخضع لمبدأ المحاسبة من الله، والتي تحمل النفس على حمل الأمانة، وتحقيق تعبيد الناس كمقصد أساسي من وراء هذه السياسة العقلية.
كما أن هناك خاصية ثالثة وأخيرة؛ فطبيعة السياسة العقلية لا تأتي بالعدل المطلق؛ لأنها مبنية على وسائل دنيوية، وأهواء ومصالح لها خصوصيتها في رعاية مصالحها الفئوية أو الطبقية، التي تعطي من يخصها على باقي شرائح المجتمع والشعب، أو ترعى مصلحة جماعة على حساب جماعة أخرى أو في مواجهة جماعة ثانية.
لذلك فالسياسة الشرعية كمفهوم وممارسة ترتبط بين السياسة العقلية التي ترتبط بمقاصد الشريعة، والتي تحقق مآلات كل الرعية التي يسترعيها الإمام ليس على حساب فئة دون فئة، وهي القيام على الأمر بما يصلحه وبين الشرعية، وتنزيل الأحكام على الشارع الذي ورد فيها نص، ورعاية مطلق المصلحة فيما لا نص فيه، فلهذا:
فإنها سياسة عقلية باعتبار القائمين عليها يراعون الحكمة في المصلحة العامة، وهي شرعية باعتبار القائمين عليها يراعون أحكامها الشرعية.
فالسياسة سياسة حكيمة؛ لا تجيز للحاكم الفعل المطلق؛ إلا إذا تحقق فعل المصلحة نفعًا عامًا للأمة كلها أو الشعب بكل فئاته؛ وأن يكون هدفها الصلاح والرشد، وأن يكون غايتها تحقيق العدل والمساواة، وإن لم يرد دليل تفصيلي خاص في ذلك، فلن تكون المصلحة معتبرة إلا إذا كانت متفقة بالكلية مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وأدلتها العامة، وأحكام الدين.
فيما تقدم يتضح لنا أن النظام السياسي الإسلامي: هو جزء من السياسة الشرعية، والتي توضح النظام السياسي الإسلامي في معرفة: نظام الحكم، كيفية اختيار الحاكم؟ وحقوقه وواجباته، وحقوق وواجبات المحكوم، ما هي ًالعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟، ما هي العلاقة بين الدولة ودول الجوار في حالتي السلم والحرب.
فالسياسة بكل جوانبها منذ نشأتها مع آدم عليه السلام مرورًا بكل الأنبياء، ووصولًا لخاتم الرسالات محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم تكن خارج دائرة الشرائع وخاتمته الإسلام؛ الذي جاء لكل العالمين، فمنذ أن جاء الإسلام بحث عن مأوى سياسي يرعى به حقوق وواجبات المسلمين، إلا أن قيض الله للنبي ومن معه المدينة المنورة، لتكون منطلقًا لأول نظام سياسي إسلامي، غايته الشرعية نشر التوحيد، وهدفه السياسي تحقيق العدل، وإعطاء حقوق وواجبات كل المسلمين؛ وغير المسلمين الذين ينضوون تحت رعاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كل هذا واجب قيام الدولة التي تؤدي وظائفها على أكمل وجه، من تحقيق العبودية بين الناس، ونشر التوحيد ليتحقق الطمأنينة والاستقرار المنهجي، وتحقيق أمانة الدين؛ وهي صون الإسلام والمسلمين، وتحقيق الإسلام كمنهج حياة، وتحقيق سياسة شرعية على منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، لتكون الحامي من أي عدوان غاشم على الأمة، ولتذب عن حياض الأمة، وتحقيق الإيمان بين الشعوب، لترتقي في حضارة إيمانية؛ يسودها العدل والإحسان، والتمتع لكل الأمة بقدرات ومقدرات وثروات نظامها السياسي الإسلامي، والذي يحكم على أراضي المسلمين.
وهذا وعد الله عز وجل لعباده المؤمنين في قوله تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
فبالرجوع لتفسير الطبري، نجد في الآية الكريمة لطائف سياسية بليغة؛ وهي الآتي:
- أن النظام السياسي في الإسلام يحقق الدولة التي تحقق الأمن والطمأنينة.
- أن الجهاد في سبيل الله من أجل تحقيق الاستقرار السياسي للدولة بنظامه وخصائصه.
- النظام السياسي في الإسلام هو عهد الخلفاء الراشدين وما سوى ذلك فهي أنظمة ملوك؛ واحتجاجي بما رواه سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا. قال سفينة: أمسك عليك: خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرًا، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستًا؛ أي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا، وأن الاستخلاف قائم على أمانة الدين والأمانة في سياسة الناس، والذب عن حوزة الدين والمسلمين.
- النظام السياسي في الإسلام هو الذي يحافظ على بيضة المسلمين، والذي يسعى لملك الإنسان لنفسه باختياره، حتى يتحول الإنسان من مقهور لقاهر؛ ومن مطلوب لطالب، وهذا كله على العدو ليتحقق الأمن والعز لكافة الناس.
- كما سيبقى وعد الله قائم في كل شخص بقدره وعلى حاله؛ حتى في الحكام والأئمة والمفتين والقضاة وكل من استرعى رعية، فما دام السلف يتبع منهج الخلفاء في أمانة الدين؛ وتعبيد الناس لرب العالمين؛ وأن يقوموا بالقسط، ويجتهدوا في إقامة العدل والإحسان، سيكونون على نهج النبوة في سياسة الدنيا بالدين ويتحقق النظام السياسي الإسلامي منهجًا وممارسة، وحكمًا وتطبيقًا.
- لن يكون الاستخلاف لسياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون إلا أن حققنا العناصر السابقة في إدارة الحكم، وعلى رأس السياسة للنظام الإسلامي المصلحة العامة، وتغليبها على المصلحة الشخصية؛ والعدل والإحسان الذي يحقق الطمأنينة؛ والمساواة بين الناس في حقوقهم في الدولة والصلاح والرشد بين كافة المسلمين وغير المسلمين.
الحق بيِّن مهما زعموا
جاءت مقالاتي ودراستي لتقول أن الإسلام دين ودولة، وجاءت للذب عن الإسلام؛ وعلى من يزعم أن الإسلام عقيدة روحية ففصلوا الدين عن الدولة، وهناك من قال أن الإسلام لا صلة له بإدارة الدنيا، ولا بالسياسة، ولا بالاجتماع، وأن الإسلام دعوة ورسالة دينية بحتة لله تبارك وتعالى، فلا يجوز إدخال الدين بالسياسة، وأن الإسلام لا يتدخل بالمصلحة المدنية؛ وإدارة شؤون الناس، لأنه رسالة سماوية لا تعني بسياسة الناس -على حد زعمهم وقولهم-.
وهناك من زعم أن رسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- انتهت بموته وانقضت بزعامته، فليس لأحد يخلفه في رسالته أو قيادته وزعامته للناس، لهذا كلّه لم تكن السياسة وموضوعاتها في أيِّ وقتٍ من الأوقات خارج دائرة التشريع الإسلامي، أو حتى بمعزلٍ عن منظومتها الشاملة لكافّة شئون الحياة ونواحيها ولا بمنأى عن تأصيل مسائلها وطرح قضاياها؛ فمنذ قدوم الإسلام وبروز فجره في الجزيرة العربية تجلّت ضرورة قيام الدولة، وأن الإسلام دين ودولة، إذ لا يُتصوّر أن يكون الإسلام -الرسالة الخالدة للإنسانية، والشريعة الكاملة التي ارتضاها الله للبشرية- دون دولة تتجلى فيها أحكام هذه الرسالة وتقام فيها الحقوق والواجبات.
ومن هنا كان علي واجب شرعي وأمانة عظيمة ومهمة كبيرة؛ أن أبرز الصفة السياسية لنظام الحكم الإسلامي، وأن أدحض دعاوي الحاقدين على حكم الإسلام، وأن أبين أن النظام السياسي الإسلامي هو جزء من السياسة الشرعية سلفًا عن خلف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن الأوئل قدموا للأمة جمعاء خير سياسة يقودها الإسلام العظيم والذي تخللها العدالة والحرية والمساواة.
“اختلف الباحثون والمغرضون والحاقدون حول طبيعة وخصائص نظام الحكم الإسلامي؛ فهناك من قال انه حكم ثيوقراطي، وفريق ثانٍ قال ديمقراطي، وفريق ثالث قال أرستقراطي، ووصفه فريق رابع بالاستبدادي، وقال فريق خامس بأنه نظام السلطان الفردي العادل؛ فهو نظام حكم مطلق يشبه نظام الحكم الروماني أيام الملوك والقياصرة، أو يشبه نظام الملكية بالانتخاب، ووصفه فريق سادس بالعروبة والإسلام جميعًا، أو بالإسلام فحسب”.
الإسلام دين الله الذي وصف بالعالمية؛ وهو الدين الذي ارتضاه ربنا -تبارك وتعالى- لكل أجناس الأرض، بكل ألوانهم وألسنتهم وهياكلهم، فسبيل النظام السياسي الإسلامي واضح؛ وهو سبيل الصلاح والرشد وليس سبيل للغي والفساد. ويقول تبارك ربنا وتعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).
فالنظام السياسي الإسلامي يقر أن الإسلام دين الله؛ ختمه الله ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، فالإسلام صراط الله المستقيم لقوله تبارك وتعالى:(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ويقصد ب”ولا تتبعوا السبل”؛ أي لا تسلكوا طريقًا سواه, ولا تركبوا منهجًا غيره، ولا تبغوا دينًا خلافه.
فالإيمان بالإسلام يقتضي الخضوع والانقياد لكل الأحكام الشرعية، سواء ما كان منها في مجال العبادات، أم في مجال العلاقات والنظم، أم في مجال السلوك الفردي الشخصي، فالمسلم يجب أن يكون منقادًا في الظاهر والباطن لدين محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو الدين الذي جاء للبشرية جمعاء وختم جميع الشرائع والرسالات.
فالسياسة في النظام الإسلامي مرتبطة أيضًا بالإيمان بالله، ومن ثم ممارسة صحيحة للإيمان والدين؛ لتكون نتائج الممارسة عمل صالح يرضى الله عنه ويُرضِي الناس عليه، وذلك لقول الله تبارك وتعالى:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).
فهنا يبين ربنا -تبارك وتعالى- علاقة صلاح الأحوال والبال بالإيمان؛ ليس فقط وإنما العمل مرتبط بالإيمان ليكون صالحًا، نعم هذا هو النظام السياسي الإسلامي يربط مفاهيم النظام بممارسة العمل السياسي، وذلك بهدف الصلاح والطمأنينة لإدارة الحياة وفق منهج الإسلام.
اقرأ أيضًا: النظام السياسي في الاسلام نصًا وليس تاريخًا
الأدلة الشرعية على الحكم والنظام السياسي الإسلامي
جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في حكمة الله في بعث الرسل والأنبياء والصالحين والأئمة والعلماء لحقيقة كونية؛ وهي هداية البشر إلى صراط الله؛ وهو الإسلام، وإدارة شؤونهم الحياتية؛ وهي سياستهم بما أنزل ربنا -تبارك وتعالى- من كتب وشرائع لإنقاذهم من مفاسد الطغيان والأهواء.
لقوله تبارك وتعالى:(كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
كما أن حكمة الله -تبارك وتعالى- اقتضت أن يرسل الرسل ليكونوا خلفائه في الأرض ليقودوا الناس لعبادته، وكذلك ليحكموا بين الناس بالحق والعدل الذي من أجله ربنا -تبارك وتعالى- أرسلهم له، فقال تعالى:(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
وهذا ليس لداوود فقط ولكن سائر الرسل وهي وظيفة كل الأنبياء والرسل وكل من يخلفهم من المسلمين في رعاية الناس، ودليل ذلك قوله -تبارك وتعالى-:(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
كما أن الله أنزل الكتاب على خاتم الأنبياء والرسل؛ ليكون الحكم بالكتاب الحق والصدق، وليس بالكذب والضلالة، وهذه وصية الله لخاتم الرسالات والرسل والنبوات محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولجميع من يخلف رسول الله، وكأن الله في قرآنه يوضح خصائص النظام السياسي في الإسلام، وكيف يسوس الدين الناس للحق والعدل، ومخالفة الأهواء الشخصية والفئوية ممن يريدون الزيغ عن حكمة النظام السياسي الإسلامي، وذلك لقول الله -تعالى-:
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
كما أن الأحاديث جاءت لتدلل أن النظام السياسي الإسلامي جزء من السياسة الشرعية ومنها:
- عن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنهما- قال: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول:” كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ وكلكم راع ومسؤول عن رعيته” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
- عن أبي يعلى معقل بن يسار -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- قال: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول:” ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللَّه عليه الجنة” مُتَّفَقٌ عَلَيه، وفي رواية:” فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة”، وفي رواية لمسلم:” ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل الجنة”.
- عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنها- قالت: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا:” اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به” رَوَاهُ مُسلِمٌ.
- عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ- عَنهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:” كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، سيكون بعدي خلفاء فيكثرون” قالوا: يا رسول اللَّه فما تأمرنا قال:” أوفوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا اللَّه الذي لكم فإن اللَّه سائلهم عما استرعاهم” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
- عن عائذ بن عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- أنه دخل على عبيد اللَّه بن زياد فقال: أي بني إني سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:” إن شر الرعاء الحطمة” فإياك أن تكون منهم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
- عن أبي مريم الأزدي -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- أنه قال لمعاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول:” من ولاه اللَّه شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب اللَّه دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة” فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس. رواه أبو داود والترمذي.
فالأحاديث السابقة توضح الحقيقة الغائبة لحكام اليوم وولاة الأمور وحثهم على العناية بالرَّعية، والنُّصح لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وقضاء حوائجهم، والرفق بهم، ورحمة أحوالهم، وعدم الاحتجاب عن حاجتهم وفقيرهم، وحثّ الرعية على السمع والطاعة لهم في المعروف، وأداء حقوقهم، والوفاء بالبيعة لهم، وتقديم مصلحة الرعية عن مصالحهم الشخصية أو القبلية أو الجهوية أو الفئوية أو الحزبية أو الحركية.
وكأن الأحاديث جاءت لتقول للحكام أن صلاحيتكم من صلاحية تمسككم بالخصائص التي أقرها الإسلام في القرآن والسنة، ومن يتجاوز عن هذه الخصائص فلسان النظام السياسي الإسلامي لا شرعية له في رعاية الناس، وكأن النظام السياسي في الإسلام جاء يحفظ حقوق الرعية قبل أن يحفظ حق الحاكم أو الراعي، فشرعية أي حاكم من شرعية الالتزام بالسياسة الشرعية التي جاءت تحيط بالنظام السياسي الإسلامي.
لِم الخلافة؟
إن المتأمل في تعريف الخلافة؛ يجدها جاءت من أجل وظيفتين اثنتين، وهما:
- الوظيفة الأولى: خلافة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حراسة الدين من التحريف والتغيير والتبديل فيه، فدور الحاكم أو من يسوس المسلمين الذب عن حياض الدين والشريعة والعقيدة، ويذود عن المسلمين، ويدافع عن الديار الإسلامية.
فلو تأملنا هذه الوظيفة في واقعنا المعاش، وهي الخاصية الأولى للنظام السياسي الإسلامي، لوجدنا أكثر الحكام غير متلبسين بهذه الخاصية وبذلك ينفوا عن نفسهم الإمامة والحكم والرئاسة؛ لأن أكثر الحكام اليوم يعيش في نظام سياسي فصل الدين عن الدولة، وأن أراضي المسلمين مستباحة في ظل حكمه.
بل أن المسلمين يُقَتلوا ويُشردوا ويُسحلوا في بلاد الكفر دون نصير، كما أنهم ذهبوا لأكثر من ذلك بالتواطؤ مع المحتل المركزي؛ وهو عدو الأمة الصهيوأمريكيي ليأخذوا الشرعية منه ونسوا أن شرعيتهم من الاحتكام لدين الله والحفاظ على رعيتهم.
- الوظيفة الثانية وهي: خلافة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رعاية كل شئون الحياة، وهذه الوظيفة تشمل جميع المصالح الدنيوية، فيجب على الخليفة أن يسعى لتحقيق كل أمر دنيوي تحتاج إليه الرعية سواء استجد أم سيجد.
وأضيف على ذلك أن يلتزم الخليفة بخصائص الإسلام وليس بخصائص طبائع الناس، فان التزم بخصائص الإسلام كانت الرياسة ديانة وشرع، وإن انقاد لطبائع البشر فهي سياسة عادية -أو سمها ما شئت- ليس لها علاقة بالنظام السياسي الإسلامي.
ويدلل هذا التعريف على أن الإمامة ليست حقًا شخصيًا أو امتيازًا لفرد أو لفئة ولكنها وظيفة تؤدى، فالعبرة فيها بأداء تلك الوظيفة التي نصت عليها الشريعة، لا بوجود شخص أو أشخاص، فالشريعة لا تقود للحكم أو الملك الطبعي، وهو:”حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والمقصود بالطبيعة: الغريزة، أو ما جبل عليه الفرد من ميول وأهواء غريزية؛ كحب الذات، والرغبة في الاستعلاء أو الاستبداد، أو السعي إلى تحقيق المطامع الفردية المبنية على أثره.
فالنظام السياسي الإسلامي كما تم التعرف عليه من الآيات والأحاديث وعلى خصائصه، ذم النوع الأول وهو: الملك الطبعي والذي يقود إلى القهر والاستبداد، والقائم على حالة التغلب، وفرض أغراضه وشهواته وحب التسلط، ونزع حقوق الرعية بالقوة، وبسط الضرائب والإتاوات والأتوات بما لا يطيقه الناس، مما يجعل حالة العصيان والتمرد عليه ويشقون عصا الطاعة له.
وذلك مما يحذو به لأن يجعل هناك قوانين سياسية تعمل لحفظ كيانه السياسي القائم على اغتصاب السلطة والحكم، ويستعين بنظامه العسكري والأمني ورجالات حزبه؛ حتى يحقق الاستتباب والأمن المزعوم، فعليه يكون أعطى الشرعية للرعية بالخروج عليه ليستردوا حقوقهم، ويقوموا بتولية من يرونه أنه يحقق لهم مصلحتهم ويعدل بينهم.
كما أن النظام السياسي الإسلامي ذم النوع الثاني وهو: الملك السياسي الذي يضعه أكابر الدولة وبصراؤها، والذين يجبرون الرعية الالتزام بهذه القوانين إجبارًا وليس اختيارًا، حتى يستتب أمر الدولة، ويستقيم شأنها، تسمى سياسة عقلية، ويسمى هذا النوع من الحكم بالملك السياسي والذي يعرف بأنه:” هو حمل الكافة على مقتضى النظر في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار”.
إن النظام السياسي الإسلامي تبنى النوع الثالث من أنواع الحكم والذي عرف بأنه:” هو حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها”.
اقرأ أيضًا: التصور السياسي الشرعي والنظام الدولي الجديد
خصائص نظام الحكم الإسلامي
الخاصية الأولى: أن الخليفة أو الرئيس أو الإمام يختص حسب منصبه باختصاصات شرعية واختصاصات سياسية.
الخاصية الثانية: أن الخليفة أو الرئيس أو الإمام يخلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينوب عنه في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
الخاصية الثالثة: أن الحكومة الإسلامية سلطة عامة على كافة المسلمين؛ ولذلك يجب أن تعمل على تحقيق وحدة الإسلام والمسلمين.
الخلاصة
- نجد مما تقدم أن النظام السياسي الإسلامي مقيد بخصائص ملزمة ليحقق شرعية الحاكم أو الإمام أو الرئيس، وهي: أن يقوم أو يشرف على أن يكون الحكم حكمًا يهدف لتحقيق الشريعة، وأن يحقق سياسة تفي برعاية الرعية.
- أن يقوم الخليفة أو الرئيس أو الإمام بحمل الأمانة المتصلة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وهي حراسة الدين، وإدارة شئون الناس بالعدل والإحسان.
- يجب أن يكون الحكم في الدولة الإسلامية -وهي رأس النظام السياسي الإسلامي-؛ بالسلطة العامة على كافة المسلمين ولمن يرغب من المشركين؛ ولذلك عليها واجب تحقيق وحدة الإسلام والمسلمين، ضمن معرفة الواقع الإقليمي والدولي، والعمل الجاد للانفكاك من نظام العدو الصهيوأمريكي المسمى النظام الدولي الجديد.
نلاحظ أيضًا مما سبق أن الوظيفة الثانية جاءت في اتساق مع الوظيفة الأولى في تحقيق الخلافة، وأن جميع حكام اليوم يسوسون بعيدًا عن هاتين الوظيفتين، كما لو تأملنا في الوظيفة الثانية، والمقصود منها تحقيق مصالح العباد الحالي والقادم، فهل حكام اليوم يسعون لمصالح الرعية ويؤثرونها على آل بيته وملكه، ومن منهم يفعل ذلك؟!
إن النظام السياسي الإسلامي جاء يحافظ على مقاصد الشريعة، وهي لمن التزم بعبادة الله في توحيد صادق؛ ومقاصد الشريعة في النظام السياسي الإسلامي هو استقامة الحاكم على طريق الإسلام، ويراد بها التزام الحاكم بالحكَم الإسلامي الذي من مقاصده الشرعية هو أن الإسلام جاء لتعبيد الناس لله، وتحقيق وإبراز التوحيد الذي خَلَقَ الله تعالى الخَلْق من أجله، وبعث الرسل، وأنزل الشرائع وكلّف العُقلاء بالعمل أو التَرْك، كما يُراد بها: وهي مصالحُ المكلّفين العاجلة والآجلة الّتي شُرعت الأحكام مِن أجلِ تحقيقها.
فأهم مقاصد الشارع أو مقاصد الشريعة والذي يجب على الحاكم أو الإمام القيام بها والسعي لها وهي: نفي الضرر ورفعهِ وقطعهِ عن عموم المسلمين، وتحقيق الكليات الشرعية الخمس عند المسلمين ومن يسوسهم وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، كما من واجب الحاكم مطلق المصلحة سواء أكانت هذه المصلحة جلبًا لمنفعة أم درء لمفسد، مع الالتزام الكامل بأحكام الشريعة، فأقول لن تكون هناك مصلحة وفيها إفساد للدين.
ومن واجبات الحاكم تنزيل الأحكام الشرعية التي ورد فيها نص والانقياد لها، ورعاية مطلق المصلحة فيما لا نص فيه، لهذا فالسياسة العقلية يجب أن تبنى من أجل تحقيق المصلحة الشرعية وليس العكس؛ لأن السياسة الشرعية هي الأحوط في حماية الناس والرعية، وبهذا يكون الحاكم عمل بالنظام السياسي الإسلامي.
وفي الختام أفهم الحديث الذي رواه حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”.
ومن لطائف الحديث أنه يصف بدقة متناهية النظام السياسي الإسلامي، وهو متمثل بحقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده الخلفاء الراشدون، وهو النظام النبوي، وبعد ذلك إلا من رحم الله ممن تولى حكم المسلمين يكون حكمًا ملكيًا إسلاميًا، يكون الإسلام حاكمًا، ويحافظ على الأمة الإسلامية؛ ويدافع عمن يغزوها مع ضياع بعض من العدل وعدم تحقيق مصالح عامة المسلمين، ويكون الحاكم ضيع حقوق وواجبات الرعية وتجبر عليهم بظلمهم.
ثم حكم جبري فيها يضيع حكم الإسلام ويستند الحاكم لقوانين وضعية تؤدي للاستبداد والقهر والعنف والتكفير السياسي، وجلب قوانين غربية لا علاقة للإسلام بها مما يسود فئة على أخرى، ويحاول الحكام أن يتلبسوا بالسياسة العقلية؛ لكن الملك الجبري يأبى إلا أن ينحرف نحو الملك السياسي الطبعي، وفيه تتغلب طبيعة الأهواء وحب السلطة والجاه والمال، ومن ثم يَعُمد لقمع كل من يريد أن يصل للحكم.
وتبقى حالة القهر والاستبداد مستمرة في مثل هذا الحكم الجبري، إلا أن يشاء الله، وترجع الأمة للنظام السياسي الإسلامي؛ الذي يحقق منهج النبوة، وعلى درب السائرين من الخلفاء الراشدين عليه، فالنظام السياسي الإسلامي نظام يحكم من أجل حراسة الدين وسياسة الناس من خلال أحكام ومبادئ وقواعد ومقاصد الإسلام، لذا يجب على الحاكم أن يعرف اختصاصاته الشرعية والسياسية، وأن يعمل هو وحكومته على سلطة عامة يحقق بها وحدة الإسلام والمسلمين.
(المصدر: موقع تبيان)