الناصر لدين الله.. الخليفة الذي دمر جيش المسلمين في الأندلس!
بقلم وليد سالم
استكمالا لما تطرّقنا إليه في التّدوينة السّابقة، من عزم النّصارى بقيادة ألفونسو الثّامن ببدء تجميع حملة صليبيّة كبيرة بمساعدة بابا روما وملوك قشتالة وليون وأراجون بعد إزالة الخلافات التّي كانت بينهم؛ وذلك لغسل العار الذّي علِق بهم إثر هزيمة الأراك التّي ألحقها بهم الموحّدون.
ثمّ انتقلنا لبدء الخليفة الموحّدي النّاصر لدين اللَّه بتجهيز جيش المسلمين لمواجهة تلك الحملة الصّليبيّة الجديدة، وما تبعها بعد ذلك من جملة أخطاء النّاصر لدين اللَّه التّي ارتكبها خلال طريقه لموقع المعركة من حصار قلعة سلبطرة وما كان لها من أثر بالغ الضّرر على جيش المسلمين، وما اقترف من خطأ بقتل القائد الأندلسي الشّهير أبو الحجّاج يوسف بن قادس بعد أخذه بكلام الوزير الذّميم وبطانة السّوء أبا سعيد بن جامع.. وفي هذه التّدوينة، سنُكمل ما بدأناه، متحدّثين عن:
استعدّ الفريقان للصّدام المرعب وكان النّاصر الموحّدي مزهوًّا بنفسه واثقًا من النّصر لحدّ الغرور المهلك نظرًا لضخامة الجيوش الموحّديّة التّي قارب عددها النّصف مليون، وكانت ثنيّة العقاب عند سفح جبال الشّارات بالقرب من مدريد حاليًّا هي موضع القتال الذّي اندلع في 15 صفر سنة 609هـ.
وتكملة للأخطاء السّابقة، فقد وضع النّاصر لدين الله خطّة شاذَّة في ترتيب جيشه وتقسيمه، حيث لم يَسِر فيه على نهج السّابقين، ولم يقرأ التّاريخ كما قرأه المنصور الموحّدي ويوسف بن تاشفين، فقد قَسَّم جيشه إلى فرقة أماميّة وفرقة خلفيّة، لكنّه جعل الفرقة الأماميّة من المتطوِّعين، وعددهم مائة وستّون ألف متطوِّع، وضعهم في مقدّمة الجيش ومِنْ خلفهم الجيش النّظامي الموحّدي.
وإنْ كان هؤلاء المتطوّعة الذّين في المقدّمة متحمّسين للقتال بصورة كبيرة، فليست لهم الخبرة والدّراية بالقتال، كما هو الحال بالنّسبة لتلك الفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي النّصارى، والتّي هي في مقدّمة جيشهم.
فكان من المفترض أن يضع النّاصر لدين الله في مقدّمة الجيش أولئك القادرين على صدِّ الهجمة الأولى للنّصارى؛ وذلك حتّى يتملَّك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع بذلك من معنويّات المسلمين ويحطَّ من معنويات النّصارى، لكنّ العكس هو الذّي حدث؛ حيث وضع المتطوّعة في المقدّمة، وجعل الأندلسيّين في ميمنة الجيش، وما زال الألم والحرقة تكمن في قلوبهم جرَّاء قتل قائدهم الأندلسي المجاهد المغوار أبي الحجّاج يوسف بن قادس، فكان خطأ كبيرًا -أيضًا- أن جعلهم يتلقَّوْنَ الصّدمة الأولى من النّصارى.
ولتوالي الأخطاء، كان من الطّبيعيّ جدّا أن تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوّعون من المسلمين على مقدّمة النّصارى، لكنّهم ارتطموا ارتطامًا شديدًا بقلب القشتاليين المدرَّب على القتال، فصدُّوهم بكل قوَّة ومزَّقوا مقدِّمة المسلمين، وقتلوا منهم الآلاف في الضّربة الأولى لهم.
واستطاعت مُقَدِّمة النّصارى أن تخترق فرقة المتطوِّعة بكاملها، والبالغ عددهم -كما ذكرنا- مائة وستّون ألف مقاتل، وقد وصلوا إلى قلب الجيش الموحّدي النّظامي، الذّي استطاع أن يصدَّ تلك الهجمة، لكن كانت قد هبطت وبشدَّة معنويّات الجيش الإسلامي؛ نتيجة قتل الآلاف منهم، وارتفعت كثيرًا معنويّات جيش النّصارى للنتيجة نفسها.
وحين رأى ألفونسو الثّامن ذلك أطلق قوات المدد المدرَّبة لإنقاذ مقدّمة النّصارى، وبالفعل كان لها الأثر الكبير، وعادت من جديد الكرة للنّصارى. وفي هذه الأثناء وقع حادث خطير في جيش المسلمين، فحين رأى الأندلسيّون ما حدث في متطوّعة المسلمين، واستشهاد الآلاف منهم، إضافة إلى كونهم يُقاتلون مرغمين مع الموحّدين معتقدين في عددهم غير واثقين بالله، كلّ هذه الأمور اعتملت في قلوبهم، ففرُّوا من أرض القتال.
وحين فَرَّت ميمنة المسلمين من أرض الموقعة التفَّ النّصارى حول جيش المسلمين، وبدأت الهلكة فيهم، فقُتل الآلاف من المسلمين بسيوف النّصارى في ذلك اليوم، والذي سُمِّي بيوم العقاب أو معركة العقاب. هُزم المسلمون هزيمة قاسية، وفرَّ النّاصر لدين الله من أرض الموقعة، ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر، والمصاب في كل أجزاء جسده الكبير. وقد قال النّاصر لدين الله وهو يفرُّ: “صدق الرّحمن وكذب الشّيطان”. حيث دخل الموقعة وهو يعلم أنّه منصور بعدده، فعلم أنّ هذا من إلقاء الشّيطان وكذبه، فولَّى منهزمًا.
وممّا زاد من مرارة الهزيمة أنّه ارتكب خطأً آخر لا يقلُّ بحالٍ من الأحوال عن هزيمته المنكرة السّابقة وفراره من أرض المعركة، وهو أنّه لم يمكث بعد موقعة العقاب في المدينَة التّي تلي مباشرة مدينة العقاب، وهي مدينة بياسة، بل فرَّ وتركها، ثمّ ترك أبذة، ترك كلتيهما بلا حامية وانطلق إلى مدينة إشبيلية، وما زالت قوَّة النّصارى في عظمها، وما زالت في بأسها الشّديد.
مأساة بيّاسة:
انطلقت قوَّة النّصارى بعد عقاب المسلمين وهزيمتهم تلك في موقعة العقاب فاقتحمت بيّاسة، وكان أهلها قد هجروها خوفًا على أنفسهم، ولم يبقَ فيها إلاَّ الضّعفاء والمرضى، وكانوا قد اجتمعوا بالمسجد الجامع الكبير في المدينة للاحتماء به، فقام النّصارى بقتلهم جميعًا بالسّيف.. قال المراكشي في المعجب: “فأمّا بيّاسة فوجدها -أي ألفونسو- أو أكثرها خالية فحرق أدؤرها وخرب مسجدها الأعظم”.
مأساة أبذة:
قال صاحب الرّوض المعطار: “أبذة مدينة بالأندلس بينها وبين بيّاسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النّهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جدًّا، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النّصرانية بعد كائنة العقاب، وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها، كما فعل جيرانها أهل بَيَّاسَة، ولم ترفع تلك الجموع يدًا عن قتالها حتّى ملكتها بالسيف، وقُتل فيها كثير، وأسروا كثيرًا”.
وقال المراكشي في المعجب: “ونزل -أي ألفونسو- على أُبَّذة، وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كبير من المنهزمة وأهل بَيَّاسَة وأهل البلد نفسه، فأقام عليها ثلاثة عشر يومًا، ثمّ دخلها عنوة، فقتل وسبى وغنم، وفصل هو وأصحابه من السّبي من النّساء والصّبيان بما ملؤوا به بلاد الرّوم قاطبة، فكانت هذه أشدَّ على المسلمين من الهزيمة!”.
وقد تدهور حال المسلمين كثيرًا في كلّ بلاد المغرب والأندلس على السّواء، حتّى قطع المؤرّخون بأنّه بعد موقعة العقاب ما كنتَ لتجدَ شابًّا صالحًا للقتال في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس، فكانت موقعة واحدة قد بَدَّدت وأضاعت دولة في حجم وعِظَم دولة الموحّدين. ثمّ إنَّ النّاصر لدين الله قد انسحب أكثر ممّا كان عليه، فانسحب من إشبيلية إلى بلاد المغرب العربي، ثمّ اعتكف في قصره، واستخلف ابنه وليًّا للعهد من بعده، وهو لم يتجاوز بعد الخمسة عشر عامًا.
تُوُفِّيَ النّاصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد في سنة (610هـ-1214م) عن عمرٍ لم يتجاوز الرّابعة والثّلاثين، وتروي بعض المصادر أنّه مات وهو عازم على الجهاد في الأندلس “عزمًا لم يُعرف عن ملك قبله”. وتولَّى حكم البلاد من بعده وليُّ عهده وابنه المستنصر بالله، وعمره آنذاك ستّة عشر سنة فقط. وكما حدث في عهد ملوك الطّوائف، تضيع الأمانة من جديد، ويُوَسَّد الأمر لغير أهله، وتتوالى الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة من العلوّ والسّيادة والتّمكين لدولة الموحّدين.
نستطيع الآن حصر أخطاء النّاصر لدين الله وهو في طريقه نحو العقاب على النّحو التّالي:
أولًا: إطالة الحصار لقلعة سلبطرة حتى تمكَّن النّصارى من الاستعداد والتّجهّز.
ثانيًا: الاستعانة ببطانة السّوء، المتمثِّلة في وزير السّوء أبي سعيد بن جامع.
ثالثًا: قتل القائد الأندلسي المشهور أبي الحجّاج يوسف بن قادس.
رابعًا: تنظيم الجيش وتقسيمه الخاطئ في أرض الموقعة.
خامسًا: أمر في غاية الخطورة وهو الاعتقاد في قوَّة العدد والعُدَّة، فقد دخل النّاصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنّه منتصر لا محالة؛ فجيشه أضعاف الجيش المقابل، ومن هنا تتبدَّى في الأفق سحائب حنين جديدة، يخبر عنها بقوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة: 25).
وكانت هذه الهزيمة السّاحقة أوّل مسمار يُدَقُّ في نعش دولة الموحّدين الكبيرة، وإيذانًا بانهيار مملكتهم الواسعة وحوّل ميزان القوى بالأندلس لصالح الإسبان، وقد عمّ الابتهاج والفرح في أنحاء أوروبّا وأقيمت صلوات شكر مخصوصة قام بها إنوصان الثالث بنفسه.
(المصدر: مدونات الجزيرة)