مقالاتمقالات مختارة

“النازية الهندية” في عهد مودي (1/2) – 200 مليون مسلم تتخذهم الحكومة الهندوسية أعداءً

“النازية الهندية” في عهد مودي (1/2) – 200 مليون مسلم تتخذهم الحكومة الهندوسية أعداءً

كتبه: دِكستر فِلكِنز[1] – ترجمه لمجلة كلمة حق: أسامة خالد

في الحادي عشر من أغسطس وبعد أسبوعين من إرسال رئيس الوزراء ناريندرا مودي جنوداً ليعيدوا الهدوء إلى كشمير، ظهرت مراسِلةٌ في مدينة سريناغار على القناة الإخبارية “Republic TV” لتأكِّد للمشاهدين أن الوضع كان هادئاً جداً أيَّاً كان ما يسمعونه. قالت: “الوضع يعود إلى طبيعته، والأهالي مستعدون ليعيشوا حياتهم بشكل طبيعي من جديد”، إلا أنها لم تجرِ أية مقابلات؛ لم يكن هناك أحد في الشوارع لتتحدث معه.

تغطيةٌ أخرى لقناة “Republic TV” أظهرت الناس يرقصون بسعادة بالغة وإلى جانبهم عبارة: “هنودٌ مبتهجون يحتفلون بالخطوة الحكيمة لمودي في كشمير”. قبل ذلك بأسبوع أعلنت حكومة مودي أنها ستوقف العمل بالمادة 370 من الدستور، التي تمنح كشمير الحق بحكم ذاتي، وهي المدينة الوحيدة التي فيها أغلبية مسلمة في الهند. نصُّ المادة – الذي كُتب للمساعدة في الحفاظ على الهوية الدينية والعرقية للولاية – يمنع الأغلبية الهندوسية في الهند من الإقامة هناك. وقال مودي إن القرار سيساعد الكشميريين من خلال النهوض بالتنمية وإعاقة تمرد العصابات القائم منذ زمن طويل. ولكي يضمن استقبالاً سلساً لهذا القرار، ملأ مودي كشمير بالقوَّات، واعتقل مئات المسلمين البارزين، وهي خطوة وصفتها قناة “Republic TV” بقولها إن “القادة الذين كانوا سيُحدِثون مشاكل” قد وُضِعوا في “بيوت ضيافة حكومية”.

لقد قلب التغيير الحاصل في كشمير الوضع القائم لأكثر من نصف قرن اتُّبِعت خلاله سياسة حذرة، لكن الصحافة الهندية ردَّت على هذا التغيير بقبولٍ شبه مُجمع عليه. منذ أن انتُخِب مودي لأول مرة كرئيس للوزراء في عام 2014، صار يعيد صياغة قصة الهند، من الديمقراطية العلمانية التي تستوعب تنوعاً سكانياً على نحوٍ فريد، إلى بلد هندوسي يهيمن على الأقليات.. خاصة المسلمين البالغ عددهم في البلاد مائتي مليون.. قام مودي وحلفاؤه بالضغط على الصحف وتخويفها وخنقها لتأييد ما يسمونه “الهند الجديدة”.

استقبل الكشميريون قرار مودي بالاحتجاجات، بدعوى أن هدفه الحقيقي كان إغراق كشمير بالمستوطنين الهندوس. لكن بعد أن خفَّت حدة الاضطرابات المبدئية، بدأت صحيفة التايمز الهندية “Times of India” وغيرها من الصحف الكبرى تدَّعي أن غالبية الكشميريين يدعمون مودي بصمت – لقد كانوا خائفين للغاية من أن يعلنوا دعمهم له.. خائفين من المسلحين [الكشميريين]. أمَّا مراسلو التلفزيون القادمون حديثاً من دلهي، فقد نصبوا كاميراتهم على الشاطئ الخلاب لبحيرة دال وردَّدوا مقولة الحكومة بما يقتضيه واجبهم.

مع تداول التقارير في الأخبار، أخبرتني الصحفية رنا أيوب عبر الهاتف أنها ستذهب إلى كشمير. رنا أيوب هي أحد أبرز مراسلي التحقيقات في الهند، وتشتهر بملاحقتها لمودي ومساعديه بلا هوادة. وكونها مسلمة من مومباي، عاشت الانقسام الطائفي في البلاد طوال حياتها. وقد شكَّت في أن مقولة الحكومة التي روتها عن كشمير كانت دعايةً تخدم مصالحها. وقالت “أظن أن القمع أسوأ مما كان عليه في أي وقت مضى”. لم تكن تعرف ما قد تجده، لكنها أخبرتني “أريد التحدث إلى تلك الأصوات غير المسموعة”.

دعتني عبر الهاتف لمقابلتها في مومباي ومحاولة الوصول إلى كشمير، على الرغم من الحظر المفروض على المراسلين الأجانب هناك خلال الحملة. عندما وصلتُ، أعطتني وشاحين وطلبت مني أن أشتري “كورتة” وهي رداء هندي تقليدي. وقالت: “أنا متأكدة بنسبة تسعة وتسعين في المائة من أنك سيُقبَض عليك، لكن يجب أن تأتي على أي حال.. فقط لا تفتح فمك”.

هبطت طائرتنا في مطار سريناغار بعد أسبوعين من إصدار مودي للمرسوم. كان في الصالة طاولة مكتوب عليها “تسجيل الأجانب”. أسرعَتْ رنا أيوب بي من أمامها مع حرصها على بقاء رأسي منخفضاً. كان الحشد مليئاً بالشرطة والجنود، لكننا وصلنا إلى الرصيف دون أن نُشاهَد، وركبنا سيارة أجرة وانطلقنا إلى سريناغار.

حتى ونحن ننظر من سيارة متحركة، كان من الواضح أن الواقع في كشمير مختلف على نحو صارخ عن الصورة في الصحافة الهندية السائدة. كان الجنود يقفون في كل زاوية في الشوارع. منصاتٌ فيها بنادق رشاشة تحرس التقاطعات، والمتاجر مغلقة في كل الأبنية. وبصرف النظر عن الوجود العسكري، كانت الشوارع خالية من الحياة. في المسجد الرائع الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر في خانكاه إي مولا، مُنِعت صلاة الجمعة، وأغلقت المدارس، وأوقفت خدمة الهاتف الخلوي والإنترنت.

عملاء المخابرات الهندية يراقبون لوائح الفنادق المحلية، وهذا أمر معلوم إلى حد كبير. لذا رتبنا أنا ورنا أيوب مع مصورة هندية تدعى “أفاني راي”، للإقامة مع أحد الأصدقاء. عندما وصلنا إلى هناك، أخبرنا طبيب كشميري كان في زيارة للمنزل بأن نتفحص المستشفى الرئيسي، حيث كان الشباب يعالَجون بعد أن أطلقت قوات الأمن النار عليهم. كان رجال الشرطة والجنود يستخدمون بنادق صغيرة الحجم – يطلق عليها السكان المحليون بنادق بيليه – وقد أصيب بعض الضحايا بالعمى. قال الطبيب: “اذهب إلى جناح طب العيون”.

في المستشفى، وجدنا مشهداً من الفوضى المسيطَر عليها بصعوبة، حيث يقوم رجال الأمن بالحراسة، وتختلط الأُسَر بالمرضى في الممرات. بينما كنت واقفاً في زاوية، محاولاً ألَّا أظهر نفسي. ركضت رنا أيوب إلى الطابق الرابع لتتحدث إلى طبيبٍ للعيون. عادت بعد بضع دقائق وأومأت إليَّ وإلى راي للحاق بها. قالت: “الجناح ثمانية”. كان هناك ثلاثون من ضحايا أعيرة نارية في الداخل.

عند اقتراب ثلاثتنا، اعترضَنا رجل ذو لحية قصيرة ويرتدي زياً أنيقاً ووضع يده على كتف رنا أيوب وقال لها: “ماذا تفعلين هنا؟” نظرت أفاني راي إليّ وقالت بهدوء: “اهرب” فاستدرت وانطلقت مسرعاً بين جموع الناس. أخذ الرجل الملتحي رنا أيوب وأفاني راي من ذراعيهما وقادهما بعيداً.

كان الوئام بين الهندوس والمسلمين عاملاً محورياً في الرؤية التي تبنَّاها مؤسسو الهند موهانداس غاندي وجواهر لال نهرو اللذَين أسَّسا الدولة العلمانية. وإن الهند موطن لجميع الديانات الرئيسية في العالم. يشكل المسلمون حوالي أربعة عشر في المائة من السكان. ومع استعداد الإمبراطورية البريطانية للانسحاب في عام 1947، كان المسلمون يخشون الهيمنة الهندوسية لدرجة أنهم طالبوا بدولة منفصلة، أصبحت لاحقاً باكستان. تسبب تقسيم شبه القارة الهندية بأكبر هجرة في التاريخ، حيث عبر عشرات الملايين من الهندوس والمسلمين الحدود الجديدة. وفي أعمال العنف المصاحبة للهجرة، مات حوالي مليوني شخص. وبعد ذلك، كان كل من الباكستانيين والهنود يضمرون شعوراً دائماً بالضيم فيما يتعلق بعمليات القتل وفقدان أراضي الأجداد. أصبحت كشمير – الواقعة على الحدود – موقعاً لحرب طويلة بالوكالة.

قام المسلمون الباقون في الهند بحماية أنفسهم من خلال إقامة تحالف مع حزب الكونغرس الوطني– مجموعة غاندي ونهرو التي احتكرت السياسة الوطنية لمدة خمسين عاماً. إلا أنَّ تصور المؤسسين للدولة العلمانية لم يكن متبادلاً لدى الجميع. في عام 1925، أسس كيشاف باليرام هيدْغيفار – وهو طبيب من وسط الهند – منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” R.S.S، وهي منظمة مكرسة لفكرة أن الهند كانت دولة هندوسية، وأن أتباع الهندوسية لهم الحق بحكم الأقليات. يعتقد أعضاء R.S.S أن الكثير من المسلمين ينحدرون من هندوس كانوا قد بدّلوا دينهم بالقوة، وبالتالي فقد كان إيمانهم مشكوك في صحته. (نفس التفكير ينطبق على المسيحيين الذين يشكلون حوالي اثنين في المائة من سكان الهند. واعتُبِرت الديانات الكبرى الأخرى – من ضمنها البوذية والسيخية – منتمية إلى الهند بشكل أكثر أصالة).
كان هيدْغيفار مقتنعاً بأن الرجال الهندوس قد أضعفتهم الهيمنة الاستعمارية، وأوصى بتدريبٍ شبه عسكري كترياق. ولإعجابه بالفاشيين الأوروبيين، أخذ عنهم ميلهم للزي الرسمي ذو اللون الخاكي، والأهم منه قناعتَهم بأن مجموعة من الرجال ممن لديهم انضباط شديد يمكنهم إحداث تحول في الأمة. وكان يظن أن غاندي ونهرو، اللذَين بذلا جهوداً لحماية الأقلية المسلمة، كانا من دُعاة سياسة التهدئة الخطرين؛ أما منظمة R.S.S فقد اختارت عدم الخوض في النضال من أجل الحرية.

في يناير 1948، بعد الاستقلال بفترة وجيزة، اغتيل غاندي على يد ناتهورام غودسي، وهو عضو سابق في منظمة R.S.S ونعرته القومية الهندوسية كانت مُعلَنة. حُظرت منظمة R.S.S مؤقتاً وتحولت إلى هامش الحياة العامة، إلا أن الجماعة كوَّنت نفسها من جديد تدريجياً. وفي عام 1975، وسط اضطرابات مدنية وركود اقتصادي، علقت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي عمل البرلمان وفرضت قانون الطوارئ. عارضتها منظمة R.S.S بشدة هي وحلفاءها من حزب الكونغرس. أُلقي القبض على الكثير من أعضاء المنظمة مما ساعد على إضفاء الشرعية على الجماعة عند دخولها من جديد إلى التيار السياسي السائد.

كان الأساس الأول لمنظمة R.S.S هو رجال من الطبقة العليا، ولكن من أجل أن تنمو الجماعة كان عليها توسيع باب العضوية. كان من بين المجندين من الطبقة الدنيا ولدٌ يبلغ من العمر ثماني سنوات يدعى “ناريندرا مودي” من فادناغار، وهي بلدة في ولاية غوجارات. كان مودي ينتمي إلى طبقة مجتمعية سفلى تدعى غانشي، وكان الناس من هذه الطبقة يبيعون الزيوت النباتية. كان والد مودي يدير مقهى شاي صغيراً بالقرب من محطة القطار، حيث ساعده ابنه الصغير. عندما كان مودي في الثالثة عشر من عمره، رتب والداه أمر زواجه من فتاة من سكان المنطقة، لكنهما تعايشا لفترة وجيزة فقط، ولم يعترف مودي علناً بالعلاقة لسنوات عديدة. سرعان ما ترك مودي الزواج بالكامل وكرس نفسه لمنظمة R.S.S. بدأ مودي بتنظيف أماكن معيشة كبار الأعضاء، لكن مكانته ارتفعت بسرعة. في عام 1987، انتقل إلى الفرع السياسي في منظمة R.S.S: حزب بهاراتيا جاناتا، أو B.J.P.

عندما انضم مودي، كان للحزب مقعدان فقط في البرلمان. احتاج الحزب إلى قضية ما لجذب المتعاطفين، ووجد واحدة في نزاع ديني غامض. في مدينة أيوديا الشمالية كان هناك مسجد، كان اسمه “مسجد بابري”، بناه الإمبراطور المغولي بابور عام 1528. وبعد الاستقلال وضع السكان المحليون أصناماً هندوسية داخل المسجد وأصبحوا مقتنعين بأنه قد بُني مكان معبد هندوسي سابق.

في سبتمبر، 1990، أحد كبار B.J.P واسمه “لال كريشنا أدفاني” بدأ يدعو إلى هدم مسجد بابري وبناء معبد هندوسي مكانه. وليحصل على دعم لهذه الفكرة، قام بحجٍّ اسمه “رام راث ياترا” لمدة شهرين في قلب الهند. كان يسافر في سيارة أُعيد تصميمها لتبدو كعربة وكان يلقي أحياناً عدة خطب يومياً محاولاً إثارة جموع الناس بشأن ما عده: “تفضيل الحكومة للمسلمين”. تبع ذلك أعمال شغب طائفية، مخلِّفة مئات القتلى. اعتُقِل لال كريشنا أدفاني قبل وصوله إلى أيوديا، إلا أن أعضاء آخرين من حزب B.J.P تابعوا الأمر وجمعوا مؤيدين وتبرعات على طول الطريق. وفي السادس من ديسمبر 1992، اندفع حشدٌ يقوده أنصار منظمة R.S.S إلى مسجد بابري وبدأوا بهدمه بالفؤوس والمطارق. وبحلول الليل كان قد دُمر بالكامل. أثار تدمير المسجد أعمال شغب بين الهندوس والمسلمين في جميع أنحاء البلاد، وكان أكبرها وأكثرها دموية في مومباي.

في البداية، شعرت عائلة رنا أيوب بالأمان؛ كانوا محاطين بالأصدقاء. ولكن بعد عدة أيام من الفوضى، جاءهم صديق من السيخ اسمه “العم باغَّا”، لإبلاغ والد رنا أيوب بأن ثلَّة من رجال الحي كانوا قادمين يريدون بناته. رنا، التي كان عمرها في ذلك الوقت تسع سنوات، هربت هي وشقيقتها الكبرى “عِفَّتْ” مع العم باغَّا. مكثوا مع بعض أقاربه لمدة ثلاثة أشهر، قبل أن يجتمعوا مع الأسرة في “ديونار” وهو حي للمسلمين يبعد بضعة أميال. قالت لي رنا: “شعرتُ بالعجز.. لقد كنا مثل الألعاب، ينقلنا أحدهم من مكان إلى آخر”.

ديونار حيٌّ فقير، المجاري فيه منتنة وأكواخه من الصفيح. قالت رنا: “كنا نعيش في مكان صغير للغاية، قذر للغاية، في شارع مزدحم وقذر جداً”. حدث تحول في مومباي أيضاً. عندما التحقت رنا بمدرسة قريبة أغلبُها هندوس، كان زملاؤها ينادونها: “landya”، وهو سُبابٌ يُرمَى به المسلمون. وقالت: “كانت تلك المرة الأولى التي أفكر فيها حقاً في هويتي.. كان الحي الذي نعيش فيه – أصدقاؤنا – سيقتلوننا”.

بالنسبة لمنظمة R.S.S، فإن المبادرة في أيوديا أثمرت بشكل مذهل. ارتفعت نِسَب العضوية وبحلول عام 1996 أصبح حزب B.J.P أكبر حزب في البرلمان. أثناء النزاع بشأن مسجد بابري بدأ “آشيس ناندي” – وهو مفكر هندي بارز – بسلسلة من المقابلات مع أفراد منظمة R.S.S. ولكونِه طبيباً نفسياً ذا خبرة، أراد أن يدرس عقلية القوميين الهندوس الصاعدين. أحد هؤلاء الذين قابَلَهم كان ناريندرا مودي، الذي كان آنذاك موظفاً في حزب B.J.P ولا يعرفه الكثيرون. أجرى آشيس ناندي مقابلة مع مودي لعدة ساعات، ثم خرج مضطرباً.

أخبرني آشيس ناندي أن مودي أظهر جميع سمات الشخصية الاستبدادية: الصلابة المتزمتة، والحياة العاطفية الضيقة، والخوف من عواطفه، وغرورٌ هائل يستر وراءه شعوراً مزعجاً بانعدام الأمن. خلال المقابلة، أسهب مودي في الكلام عن نظرية خيالية.. كيف أن الهند كانت هدفاً لمؤامرة عالمية، وأن من المرجح أن كل مسلم في البلاد مشترك فيها. قال آشيس ناندي: “كان مودي فاشياً بكل معنى الكلمة.. لا أقصد بالمصطلح الإساءة. إنه صنف تشخيصي”.

في 27 فبراير 2002، توقف قطار للركاب في غودرا، وهي مدينة في ولاية غوجارات. كانت قادمة من أيوديا، حيث ذهب الكثير من الركاب لزيارة الموقع الذي دُمِّر فيه مسجد بابري قبل عشر سنوات، ولتأييد بناء معبد هناك. كان ينتمي معظمهم إلى الجناح الديني في منظمة R.S.S الذي كان يسمَّى V.H.P
بينما كان القطار في المحطة، بدأ المسافرون الهندوس والمسلمون على المنصة بسلسلة من الأسئلة المزعجة والمقاطعات، ومع ابتعاد القطار توقفت، ثم ازدادت وتيرة السخرية. في لحظة ما، ألقى أحدهم النار على إحدى السيارات، قد يكون بائعاً مسلماً لديه موقِد، انتشر اللهب، وكان الركاب محاصرين في الداخل. عندما فُتِح الباب أخيراً، أشعَلَ اندفاع الأكسجين كرة نارية. اختنق حوالي ثمانية وخمسين شخصاً أو احترقوا حتى الموت. عندما انتشر خبر الكارثة، سمحت حكومة الولاية لأعضاء حزب V.H.P بتسيير موكب للجثث المحترقة في أحمد أباد أكبر مدن الولاية. بدأ الهندوس الذين أغضبهم ما رأوه في الموكب بمهاجمة المسلمين في جميع أنحاء الولاية.

تجولت حشود من الهندوس في الشوارع وكانوا يرددون فيها: “انتقموا واذبحوا المسلمين!”. وأفاد شهود عيان أن مثيري الشغب بقروا بطون نساء حوامل وقتلوا أطفالهن، واغتصب آخرون نساءً وفتيات بشكل جماعي. وفي حالة واحدة على الأقل، أُجبر صبي مسلم على شرب الكيروسين وابتلاع عود ثقاب مشتعل. عُرِض إحسان جعفري – وهو سياسي كبير في حزب الكونغرس – عارياً ثم قُطِّع جسده وحُرِق.

كان الجانب الأكثر شرَّاً من أعمال الشغب هو أن التخطيط لها وتوجيهها كان يبدو إلى حد كبير أن منظمة R.S.S هي التي قامت به. وانتشرت فرق من الرجال – مسلحين بالهراوات والبنادق والسيوف – عبر الجيوب المسلمة في الولاية، وغالباً ما كانوا يحملون قوائم للناخبين وغيرها من الوثائق الرسمية التي قادتهم إلى منازل المسلمين ومحلاتهم.

رئيس وزراء حكومة غوجارات كان وقتها ناريندرا مودي، الذي عُيِّن في هذا المنصب قبل ذلك بخمسة أشهر. مع ازدياد وتيرة أعمال الشغب تخفَّى مودي.. استدعى الجيشَ الهندي لكنه أبقى على الجنود في ثكناتهم بينما خرج العنف عن السيطرة. وحسبما ذكرت العديد من مجموعات حقوق الإنسان أن الكثير من مناطق غوجارات، لم تقف الشرطة فيها موقف المتفرج فحسب، بل شاركت في العنف.
عندما بدأت أعمال الشغب كان “راهول شارما” كبير ضباط الشرطة المسؤول عن بافناغار، وهي منطقة يبلغ عدد سكانها المسلمين أكثر من سبعين ألفاً. قال راهول شارما في شهادة أقسم عليها في وقت لاحق أنه لم يتلقَ أي توجيه من رؤسائه بشأن كيفية السيطرة على أعمال الشغب. وفي اليوم الرابع تجمع حشد من الآلاف حول مدرسة أكوادا، وهي مدرسة إسلامية كان فيها حوالي أربعمائة طفل بداخلها. وكان المهاجمون يلوحون بالسيوف والمشاعل. قال راهول شارما: “لقد كانوا يتصرفون بطريقة منظمة.. لقد كانوا سيقتلون الأطفال”. أمر راهول شارما رجاله باستخدام القوة المميتة لمنع وقوع أي هجوم؛ وعندما لم يكن لطلقات التحذير أي أثر، أطلقوا النار فقتلوا رجلين وأصابوا العديد من الآخرين. تفرَّق الحشد وصحب راهول شارما الأطفال إلى بر الأمان.

مع ذلك، استمر العنف دون رادع في كل منطقةٍ أخرى تقريباً. أما راهول شارما.. بدلاً من الاحتفال به كبطل، نُقِلَ إلى خارج الحي إلى وظيفة مكتبية لإشغاله. أما لال كريشنا أدفاني – المؤيد لهدم المسجد في أيوديا، والذي ارتقى إلى منصب وزير الداخلية في الهند – اتصل براهول شارما وأشار له أنه ترك الكثير من الهندوس يموتون.

استمرت أعمال الشغب لمدة ثلاثة أشهر تقريباً وعندما انتهت، مات ما يقرب من ألفي شخص وهُجِّر قرابة المائة وخمسين ألفاً من الناس من منازلهم. غُيِّرت طبيعة الجغرافيا العرقية في ولاية غوجارات بحشر معظم المسلمين إلى الأحياء الفقيرة. أنشئ أحد الأحياء الفقيرة داخل مكَبّ أحمد آباد، وهو مشهد شاسع من مياه المجاري والقمامة التي ارتفعت لمئات الأقدام في الهواء. (هذا الحي الفقير الذي يطلق عليه سكانه اسم “قرية المواطنين” ما يزال موطنا لآلاف الأشخاص الذين يعيشون في أكواخ ويتنفسون الهواء الضار، وعندما تأتي الرياح الموسمية، فإن القذارة من القمامة تغمر الشوارع والأكواخ).

عندما اندلعت أعمال الشغب، قررت رنا أيوب المساعدة وكانت في ذلك الوقت في التاسعة عشرة. وبعد أن أخبرت والدتها أنها ستذهب في رحلة مع صديقة لها في جبال الهيمالايا، ركبت في قطارٍ إلى مدينة فادودارا في غوجارات. نظراً لأن الاضطرابات كانت ما تزال مشتعلة، فقد تنكَّرت بزيٍّ هندوسي: بندي أحمر قاني ونقطة حمراء تضعها نساء الهندوس على جباههن.

أمضت رنا ثلاثة أسابيع في المخيمات الإغاثية، حيث ساعدت ضحايا الاغتصاب في تقديم بلاغات للشرطة. كانت المخيمات محاطة بمراحيض مفتوحة، وكانت رائحة المجاري قوية جداً. والأطفال يستلقون والذباب عليهم. في بعض الأحيان، كانت عصابات مسلحة بالسيوف وزجاجات المولوتوف تبحث عن المسلمين. وخلال عملية هجوم واحدة، اختبأت رنا أيوب في أحد المنازل وأمعنت النظر إلى حشد فيه نحو ستين رجلاً مندفعين إلى الخارج. قالت: “كان قلبي يخفق بشدة.. غوجارات جعلتني أدرك أن ما حدث في مومباي لم يكن حالة استثنائية”.

بعد أعمال الشغب، لم تفعل حكومة مودي شيئاً تقريباً لتوفير احتياجات عشرات الآلاف من المسلمين الذين أُجبروا على ترك منازلهم؛ المساعدات كلها تقريباً كانت تأتي من المتطوعين. وردَّاً على سؤالٍ بهذا الشأن، قال مودي: “المخيمات الإغاثية هي في الواقع مصانع لإنتاج الأطفال. يجب أن يُلقَّن أولئك الذين يستمرون بالتكاثر درساً”. وعلى الرغم من أن بعض مثيري الشغب من الهندوس قد اعتُقِلوا، فقد أُدين بضع عشرات فقط في النهاية. “مايا كودناني” – وزيرة تنمي لحزب B.J.P – كانت المسؤولة الوحيدة التي قُرِّر أن تعاقب بشكل كبير.. أُدينت بالقتل والشروع بالقتل والتآمر. وعندما وصلت حكومة مودي في وقت لاحق إلى السلطة في دلهي، بُرِّأت مايا كودناني من جميع التهم.

في الأشهر التالية، كانت هناك مؤشرات على تورط كبير للحكومة في الذي حدث. وفقاً لتحقيقات مستقلة، تحركت عصابات الهندوس بحزم متَّبعة قادةً كان يظهر أنهم تلقوا تعليمات واضحة. خَلُصَ التحقيق غير الحكومي الذي شارك فيه قضاةٌ سابقون في المحكمة العليا ومسؤولٌ كبير في الشرطة إلى أن “الحكومة نشرت هذه التعليمات بشكل سافر، وفي معظم الحالات – ما عدا بعض الاستثناءات القليلة جداً – أنفذتها الشرطة والخدمة الإدارية الهندية بشكل منظَّم..”.

خلال أعمال العنف، سافر مسؤول فيدرالي كبير يدعى هارش ماندر إلى ولاية غوجارات وأصيب بالذهول من الإهمال الحكومي. وعندما لاحظ أن العديد من زملائه كانوا متواطئين في حمَّام الدم، ترك العمل في وظيفته مبكراً واتجه للعمل في المخيمات المؤقتة التي كان يتجمَّع فيها اللاجئون المسلمون. وكرس الكثير مما تبقى من حياته لتذكير عامة الناس بما حدث ومن كان المسؤول. قال لي هارش ماندر: “لا يحدث أي شغب طائفي في الهند ما لم ترغب الحكومة في ذلك.. لقد كانت هذه مجزرة برعاية الدولة”.

ادعى بعض المسؤولين أن قرار تشجيع أعمال الشغب جاء من مودي نفسه. هارين بانديا – أحد منافسي مودي ووزير في مجلس الوزراء – أدلى بشهادة تحت القَسَم بشأن أعمال الشغب، وتحدث أيضاً إلى المجلة الأسبوعية آوتلوك “Outlook”. وقال إنه حضر اجتماعاً في بيت مودي في الليلة التي بدأت فيها الاضطرابات، وفي الاجتماع أمَرَ مودي كبار مسؤولي الشرطة بـ “السماح للناس بالتنفيس عن إحباطهم وعدم اعتراض ردود أفعال الهندوس”. وذَكَرَ مسؤولٌ في الشرطة يدعى “سانجيف بهات” أن مودي – في اجتماع آخر في تلك الليلة – قال إنه يأمل أن “يتعلم المسلمون درساً لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث”.

ولكن لم تكن هناك إرادة سياسية كبيرة لمتابعة الأدلة ضد مودي، ولم يستمر حضور متَّهِميه أمام أنظار العامَّة لفترة طويلة. فبعد أن وجَّه “سانجيف بهات” اتهامه، اتُّهِم بقتل أحد المشتبه بهم في مخفر الشرطة – وهي قضية ظلت خامدة لأكثر من عقدين – وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي عام 2003، عُثِر على الوزير هارين بانديا ميتاً في سيارته في أحمد آباد. لم تترك زوجته مجالاً كبيراً للشك فيمن اعتقدت أنه وراء ذلك. قالت: “لقد كان اغتيال زوجي جريمة قتلٍ سياسية”.

أما مودي، فقد كان لأعمال الشغب تأثيرٌ ملحوظ عليه. مُنِع من السفر إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لما يقرب من عقد من الزمان، وتجنَّبه كبار قادة حزبه. (في عام 2004، جرى التصويت على عزل رئيس الوزراء “آتال بيهاري فاجبايي” المنتمي لحزب B.J.P. فأَلقى باللوم على مودي في تلك الخسارة).

بالرغم من ذلك، عَلَت مكانته في ولاية غوجارات. وبدلاً من السعي لتسوية الخلاف، قاد مودي مسيرة جريئة عبر الولاية اعتزازاً بالهندوسية، والتي قوبلت بتأييد كبير. غالباً ما تحدث مودي بلغة لا تكاد تكون مشفرة أشارت إلى أتباعه بأنه يشاطرهم تعصبهم. في أحد الخطابات خلال المسيرة، ألمح أن مسلمي الدولة كانوا عائقاً يجب التغلب عليه فقال: “إذا رفعنا من احترام الذات والروح المعنوية لخمسين مليون من الغوجاراتيين، فإن مخططات من يُدعون بعلي وجمال [يقصد المسلمين] لن تكون قادرة على إلحاق الأذى بنا” فهتف الحشدُ لذلك. في شهر ديسمبر في ذلك العام، بعد حملة ألقى فيها عدة خطب تحريضية ضد المسلمين، قاد حزب B.J.P إلى فوز انتخابي ضخم في ولاية غوجارات.

وفي المناطق الأخرى في الهند كانت حظوظ حزب B.J.P تسوء، ونتيجةًّ لذلك تمكنت عصبة مودي المتزمتة من الاستيلاء على قيادة الحزب. كما بدأ مودي ببناء سمعة وطنية كزعيم مؤيد للأعمال التجارية، ترأَّس عملية تنمية اقتصادية سريعة. قالت لي رنا أيوب: “كان حزب B.J.P يحتضر وكانت الفرصة الوحيدة التي أتيحت له للوصول إلى السلطة هي مودي، لأنه كان لديه كل أولئك الأتباع – كل كبار رجال الأعمال – وهكذا نُسِيت جميع أعمال الشغب”.

في النهاية، أعلن فريق تحقيق تابع للمحكمة العليا أنه لا يوجد دليل كافٍ لتوجيه الاتهام إلى مودي فيما يتعلق بأعمال الشغب، وهي نتيجة رفضتها جماعات حقوق الإنسان باعتبارها تخضع لدوافع سياسية. حاول عدد قليل من مؤيدي القضية إبقاءها حية. ففي عام 2007، عندما ظهر مودي على شبكة CNN–IBN الهندية، سأله الصحفي كاران ثابار: “لماذا لا تستطيع أن تقول إنك نادم على عمليات القتل؟”

أجاب مودي وقد تصلبت تقاسيم وجهه: “ما يجب عليَّ قوله كنت قد قلته آنذاك”. وعندما أصرَّ الصحفي كاران ثابار باستمرار.. انفعل مودي وقال: “عليَّ أن أستريح.. أحتاج بعض الماء”. ثم انتزع الميكروفون ومضى مبتعداً.
وفي عام 2013، عندما سأله مراسل آخر إن كان يشعر بالأسى لوفاة الكثير من المسلمين.. قال إنه كان متفرجاً عاجزاً وقال: “إن كان شخص ما يقود سيارة ونحن نجلس في الخلف، حتى في ذلك الحين، إن أتى جرو تحت العجلة، فهل سيكون ذلك مؤلماً؟ بالطبع سيكون كذلك”.

يرى العديد من المراقبين أن نجاح مودي يعود لرغبته في اللعب على وتر مشاعر الاستياء العميقة، التي كان يُعدُّ الحديث عنها في الأوساط الراقية لعقود بمثابة إهانة. على الرغم من أن مسلمي الهند كانوا عادة أكثر فقراً من المواطنين الآخرين، إلا أن الكثير من الهندوس شعروا بأن الحكومة المركزية كانت تظلمهم بتفضيلها لأولئك المسلمين عليهم. كان الهندوس ينتقدون بشكل غير مُعلن إنجاب المسلمين للكثير من الأطفال ودعمهم للإرهاب. جعلت تجربة غاندي ونهرو المسلمين يشعرون بالأمان بشكل غير عادي في الهند خارج كشمير.. نتج عن ذلك بشكل جزئي أن كان هناك تطرف قليل جداً؛ ومع ذلك، كان يرى الكثير من الهندوس أنهم يشكلون تهديداً دائماً.

وقد أخبرني “نيرجاري سينها”، وهو عالم في غوجارات كان يبحث في قضية أعمال الشغب: “لقد أصبح مودي بطلاً بنظر جميع الهندوس في الهند.. هذا ما يقوله لي الناس في الحفلات وفي دعوات العشاء. الناس يشعرون بالفعل أن المسلمين إرهابيون، وأن الفضل يعود لمودي في جعل المسلمين أخيراً تحت السيطرة”.

بعد أن تخرجت رنا أيوب في كلية صوفيا في مومباي قسم الأدب الإنجليزي، تنقَّلت بين مواقع الإنترنت والقنوات التلفزيونية قبل أن تستقر في مجلة تسمى “تيهيلكا” Tehelka. ولأن هذه المجلة تنشر باللغة الإنجليزية، كان تداولها قليلاً ولكن سمعتها كانت عظيمة فيما يتعلق بالتحقيقات الصعبة. باشرت رنا أيوب العمل، وكتبت عن عمليات القتل التي ارتكبتها الشرطة وعن تجارة المهرَّبات التي أدارها مسؤولون في مومباي.

في عام 2010، في سلسلة من المقالات الرئيسية لمجلة تيهيلكا، ربطت رنا أيوب أقرب مستشاري مودي واسمه “آمِت شاه” بجريمة مثيرة. كانت عائلة آمِت شاه من الطبقة العليا، وكان قد درس الكيمياء الحيوية لكنه امتاز بخبرته في التكتيكات السياسية. ولمنصبه كرئيس لرابطة غوجارات للشطرنج في وقت ما، ساعد مودي مرتين في التخطيط لانتخابه كأفضل مسؤول في غوجارات. وبعد ذلك أصبح وزيراً للشؤون الداخلية.

كانت رنا أيوب تبحث في قضية كانت قد بدأت قبل ذلك بخمس سنوات، عندما أعلنت الشرطة في غوجارات أنها قتلت رمياً بالرصاص إرهابياً مشتبهاً به أرسلته باكستان لاغتيال مودي. لكن الإعلان أثار الشك لدى الأوساط السياسية والصحفية. كانت هناك شائعات تنتشر بأن الشرطة قتلت مجرمين، ثم تظاهروا أنهم قتلوا رجال اغتيالات مسلمين أحبِط مسعاهم بشكل بطولي قبل وصولهم إلى مودي. الهنود المدركون لحقيقة الأمر سخروا من مزاعم الشرطة لكونها “مواجهات وهمية [مع رجال عصابات أو إرهابيين]”، لكنهم – من ضمن الغوجاراتيين الذين شعروا بالقلق من أعمال الشغب – ساعدوا في تحسين سمعة مودي كمدافع عن الهندوس.
اتضح أن القاتل المزعوم، يدعى “شوراب الدين شيخ”، لم يكن له تاريخ في النضال الإسلامي. قبل مضي الكثير من الوقت أثبت المحققون الفيدراليون أنه قد قُتِل على أيدي الشرطة. كان هناك شهود، بمن فيهم زوجة شوراب الدين شيخ وشريكه في الإجرام. لكن بعد يومين من قتله قُتلت زوجته وحُرقت جثتها؛ وقُتِل شريكه في مخفر الشرطة بعدها بعام.

لم تظن رنا أيوب أن المسؤول الأكبر عن ذلك هم الشرطة. قالت لي: “لم أنظر أبداً إلى الاعتقالات التي حصلت، ولا إلى الأشخاص الذين أطلقوا النار.. إنما بحثت عن الرؤوس الكبار في الجريمة”. ذَكَرَ أحد المصادر – وهو ضابط شرطة – أن آمِت شاه كان متورطاً. التقت رنا أيوب بالضابط في المرة الأولى في منزل منعزل في الريف. قالت لي: “لاحَظَ الضابط أن يديَّ كانتا ترتجفان فقال: إن كنت ماضية في هذا الأمر فعليكِ التوقف عن الارتجاف”. وفي المرة التالية التي التقيا فيها – وكانت في مقبرة في الساعة الثالثة صباحاً، كانت رنا أيوب مرتدية برقعاً – أعطاها قرصاً مضغوطاً مخفياً في باقة زهور. حوى القرص تسجيلات لمكالمات آمِت شاه الهاتفية لست سنوات، بما في ذلك أوقات مكالماته ومواقعها.

أوضحت رنا أيوب عن طريق السجلات أن آمِت شاه والضباط الثلاثة المشتبه بهم في قتل شريك شوراب الدين شيخ كانت اتصالاتهم مكثفة، قبل وبعد القتل. كما قَدَّمت في تقاريرها شرحاً لدوافع آمِت شاه: أخبرها مسؤول في الشرطة أن المجرمين المقتولين “كانوا يعرفون شيئاً كان يمكن أن يدين الوزير”.

لم تكن رنا أيوب أول صحفية تفضح التجاوزات الحكومية في القضية، لكن الأدلة حول آمِت شاه كانت متفجرة. طلب منها عملاء فيدراليون نسخة من سجلات مكالمات آمِت شاه الهاتفية فرفضت إعطاءهم إياها. وفي غضون أسابيع، اعتُقِل آمِت شاه بتهمة القتل والابتزاز. اتهم بتورطه في نفس الأعمال غير المشروعة التي مارسها شوراب الدين شيخ. (أنكر متحدثٌ باسم آمِت شاه تواطؤه قائلاً، “إن آمِت شاه أُلبِس الجريمة المذكورة لاعتبارات سياسية”). وفي النهاية، اتَّهمت الشرطة الفيدرالية ثمانية وثلاثين شخصاً آخرين، بمن فيهم كبير مسؤولي الشرطة في غوجارات، وزير الداخلية السابق لولاية راجاستان، وأكثر من عشرين ضابطاً يشتبه في تورطهم في جرائم القتل.

في الصباح الذي أُلقي القبض فيه على آمِت شاه، استيقظت رنا أيوب لتجد أن تقريرها تصدَّر عناوين الأخبار. قرأت مذيعة تلفزيونية مشهورة إحدى فقرات التقرير كاملة على الهواء فقالت: “كنت مجرد فتاة مسلمة في السادسة والعشرين من عمري. شعرت أن الناس سيرَون أخيراً ما يمكنني القيام به.” مقالاتها مع مقالات أخرى تسببت في إجراء سلسلة من التحقيقات الرسمية بشأن شرطة غوجارات، الذين اشتُبِه بقتلهم لأكثر من عشرين شخصاً في “مواجهات مزيفة [مع مسلحين أو عصابات]”. ولكن حتى آمِت شاه لم يكن الرأس الكبير باعتقاد رنا أيوب. أخبرها مصدر معلوماتها أن الشرطة كانت تحت ضغط شديد لإيقاف التحقيق وإخفاء السجلات عن أنظار المحققين الفيدراليين – ملمحاً أن شخصاً قوياً كان يحاول إخماد القضية. كان عنوان إحدى مقالاتها: “لماذا إذن ناريندرا مودي يحمي آمِت شاه؟”

على الرغم من الأدلة التي تراكمت بشأن مودي، إلا أنه أصبح أقوى. ذُكِر على نحو متزايد كمرشح للمكتب الوطني. في عام 2007، أثناء ترشحه للانتخابات كرئيس للوزراء، سخر مودي من أعضاء حزب الكونغرس لملاحقتهم إياه. وقال أمام جمع من المؤيدين: “يقول أعضاء حزب الكونغرس إن مودي يتورط في “مواجهات”، قائلين إن مودي قتل شوراب الدين. أخبروني.. ماذا عليَّ أن أفعل بشوراب الدين؟”

هتف جمع المؤيدين: “اقتله! اقتله!”

بعد أسابيع قليلة من اعتقال آمِت شاه، خطرت لرنا أيوب فكرة لمقال جديد: “إن كان بمقدوري ملاحقة آمِت شاه، لم لا أستطيع ملاحقة مودي؟” وأخبرت محرريها في تيهيلكا أنها تشتبه في ارتكاب مودي لجرائم أخطر مما ورد ضدَّه في السابق. رأت أنها إن ذهبت سراً يمكنها أن تتسلل إلى دائرته الضيقة ومعرفة الحقيقة.

في الولايات المتحدة، من القواعد الأساسية للصحافة ألا يكذب الصحفيون بشأن هويتهم.. فالعمليات السرية مقيَّدة بقواعد المهنة. غير أن هذه الممارسة أكثر شيوعاً في الهند، إن كانت مَثارَاً للخلاف في الأصل. في عام 2000، أرسلت مجلة تيهيلكا لاعباً سابقاً في لعبة الكريكيت، كان يحمل كاميرا مخفية، لفضح التلاعب في نتائج المباريات والرشوة الشائعَين في هذه الرياضة. في وقت لاحق من ذلك العام، صحفيان كانا يتظاهران أنهما مندوبا شركة وهمية لبيع كاميرات الأشعة تحت الحمراء لوزارة الدفاع. وافق 36 من المسؤولين على تلقي الرشاوى.. واستقال وزير الدفاع.

أخبرني تارون تيجبال – محرر تيهيلكا – أنه لم يأذن بالتحايل إلا عندما ظهر ألَّا سبيل آخر للحصول على الخبر. وقال: في هذه الحالة “مودي وآمِت شاه لا يمكن مسُّهما. ولن تظهر الحقيقة أبداً.” وقال لرنا أيوب أن تمضي في مسيرها.
عندما بدأت رنا بإعداد التقارير ابتكرت تمويهاً متقناً صُمِّم ليروق لتفاهة المؤسسة السياسية في غوجارات. وقالت: “الهنود يعانون من ضعف تجاه الاعتراف بهم في أمريكا”. “فكرة أن يكونوا مشهورين في الولايات المتحدة – كانت عندهم لا تقاوَم”. غيرت اسمها إلى “مايتيلي تياغي”، طالبة أمريكية هندية في المعهد السينمائي الأمريكي في لوس أنجلوس، تزور الهند لتصوير فيلم وثائقي. اختلقت قصةً عن أسرتها قائلة إن والدها كان بروفيسوراً في اللغة السنسكريتية ومحباً للأفكار القومية الهندوسية. تدربت رنا على لهجة أمريكية، ولكي تبدو قصتها حقيقية أكثر استعانت بمساعد فرنسي، سمَّته مايك. والداها فقط كانا يعرفان ما كانت تفعله وبقيت على اتصال معهما على هاتف منفصل.

في خريف عام 2010، استأجرت رنا غرفة صغيرة في أحمد آباد. ولمدة ثمانية أشهر، كانت تشق طريقها إلى النخبة من سكان المنطقة، مدَّعية أن فيلمها سيركز على الذين ازدهروا في غوجارات في عهد مودي. قالت لي “أكبر دعم لمودي يأتي من الغوجاراتيين الأمريكيين. قلت لهم: ‘أريد أن ألتقي بأكثر الناس نفوذاً ممن يمكنهم أن يرووا لي قصة السر وراء ما فعله السيد مودي في السنوات الخمس عشرة الماضية’ “.

في البداية، لم تظهر رنا أيوب ومايك إلا في المناسبات الاجتماعية غير السياسية لكي يتعود السكان على رؤيتهم في المنطقة. عندما اقتربت أكثر بدأت تضع كاميرات وميكروفونات خفية – في ساعتها وفي لباسها وفي هاتفها. كانت رنا أيوب موضع ترحيب في كل مكان تقريباً. وقالت إنها استطاعت أن تلتقط تسجيلات فاضحة لكبار المسؤولين الغوجاراتيين، اتَّهَم بعضُهم مودي وآمِت شاه بشكل مباشر بارتكاب مخالفات. حتى مودي وافق على رؤيتها والحديث معها لوقت قصير في مكتبه، حيث أعطاها الموظفون نسخاً فيها سيرته لتقرأها. أراها مودي نسخاً من كتب باراك أوباما. ذكرت رنا ما قاله لها مودي: “قال لي: ‘يا مايتيلي، انظري إلى هذا.. أريد أن أكون مثله يوماً ما’ “. لقد صُعقَتْ من مكره. قالت: “اعتقدتُ أن مودي إما سيكون رئيساً للوزراء أو أنه سوف يُسجَن”.

[المترجِم: يُتبَع إن شاء الله في العدد القادم من مجلة كلمة حق]

________________________________________
[1] مترجم عن تقرير صحيفة النيو يوركر، 9 ديسمبر 2019، رابط إلكتروني.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى