«الميليتاريزم».. أو إن الحكم إلا للعسكر
بقلم عبد القادر جلاجل
لظروف موضوعية كان للجيوش دور أساسي في اللحظة التأسيسية لغالبية الدول، خاصة العظمى منها، في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا أو الصين أو روسيا، أو ألمانيا حتى وإيطاليا، كانت القوة العسكرية العمود الفقري الذي تشكلت حوله بقية المؤسسات بما فيها مؤسسة الشعب، فالشعب في أمريكا إذا شئنا اعتباره مؤسسة تشكل كلحمة وطنية عقب نهاية الحرب الأهلية وانتصار الشمال الاتحادي الذي قاتلت جيوشه تحت لواء الولايات المتحدة الامريكية الحديثة.
وبالمثل فإن الانكسارات و الهزائم العسكرية أعادت رسم الخارطة الجيوسياسية بالكامل، فاختفاء وانحسار إمبراطوريات بابل وفارس واليونان والرومان والمغول والمسلمين، كلها كان تاليًا لضعفها العسكري الذي كان طبعًا نتيجة طبيعية لضعف وانحطاط حضاري متعدد الأبعاد، وكانت الهزيمة العسكرية هي القاصمة، مثلما كان الانتصار العسكري في الحرب العالمية الثانية هو التتويج للتفوق الحضاري الشامل الأمريكي، والعسكري السوفياتي آنذاك.
هذا الانقلاب العالمي في موازين القوى عقب الحرب العالمية الثانية، دفع لانحسار فترة تاريخية عمرت لقرنين على الأقل، هي فترة الاستعمار، أزهى العصور الأوروبية قاطبة، ودفع التاريخ نحو شكل جديد للهيمنة، قوامه الاقتصاد العابر للحدود، والأيديولوجيا الشاملة، ضمن هذا الأفق كانت لحظة التأسيس لدول الجزء الجنوبي من العالم، فكان أن اندفعت غالبية تلك الدولة نحو اليسار (المعسكر)، أو ذي الطابع العسكري، الممثل لنزعة التحرر والتغيير والانعتاق من الماضي الاستعماري، ولطبيعة المعركة التحررية ذاتها، والتي كانت معركة عسكرية بالاساس، مسرحها الأرياف والمناطق المنبوذة والمهمشة للسكان الأصليين، بعيدًا عن المدن التي مثلت اليمين المحافظ ومظهر التراكم المدني لعقود الاستعمار الطويلة.
بسبب تلك العوامل الموضوعية كان تأسيس الجيوش في بلدان الجنوب سابقًا على لحظة تأسيس الدول، وشاهدًا عليها، وكان الجيش بالتالي المؤسسة الأقوى تنظيمًا، والأكثر قدرة على حسم الصراعات والخلافات لصالحه، وهو ما تحتم عليه بروز جمهوريات يحكمها العسكر، كنسق طبيعي ومتوقع للعوامل التي نشأت فيها الدول المستقلة حديثًا.
حرارة الاحتفال بالانتصار وتحقيق الاستقلال، لفلفت سريعًا الجدل المتوقع حول أسئلة: من يحكم؟ وكيف يحكم؟ وهل هو أهل للحكم؟ فأي شرعية أخرى غير الشرعية الثورية لحظتها، كانت قرينًا للخيانة، لا سيما وأن حمى الوطنية هرت سواها من المعايير الموضوعية غير الانفعالية وغير القابلة للمزايدة، لفرز الجيد والمرفوض والعدو والحليف والمجدي وغير المجدي، من المواقف والسياسات والاختيارات الايديولوجية، وكانت تلك الحمى الوطنية مسنودة بالفعل من الجيش كقوة قاهرة، هزمت المحتل، وقادرة على قمع «أذنابه وعملائه ومواليه»، وضمن هؤلاء كان من اليسير إدراج كل مخالف لتوجه الجيش طبعا.
وكأي هيجان عاطفي له لحظة ذروة ولحظات انكفاء، لم تستمر حمى الوطنية طويلا في التغطية على عجز النخب العسكرية عن تحقيق التنمية المنشودة، وحماية الاستقلال الهش وفق الرهانات الجديدة للصراع العالمي وأشكال الهيمنة الحديثة، وبالتدريج فقدت تلك القيادات العسكرية الشابة، أسهمها في بورصة الشعب، بتوالي هزائمها العسكرية وإخفاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والتمادي في استعمال القمع والإرهاب لإخماد أصوات الجوعى والمهمشين والمعارضين السياسيين، ولكن مع إعلان أمريكا لحربها على الإرهاب بعد 11 سبتمبر، أعادت الأنظمة العسكرية لا سيما في بلداننا العربية التقاط أنفاسها وتجديد مدونة خطابها السياسي على محوري التصدي للإرهاب والتصدي للنفوذ والتدخل الخارجي، ممثلا في أمريكا والناتو، وقد وجد هذا الخطاب أرضية طيعة مهدتها عقود الاستبداد والقهر والتصحير السياسي، إذ كانت الشعوب قد فقدت المعالم النخبوية والتحصينات الثقافية والاجتماعية التي تعزلها بعض الشيء عن التأثر بالخطاب الإعلامي المركز والمكثف للأنظمة، خاصة وأن هذا التبدل واكب ما يعرف بإعلام الفضاء المفتوح.
ضمن هذا الوضع الملتبس، المحفوف أولاً بشبه انعدام للبدائل السياسية داخليًا، والتهديدات المتعددة خارجيًا، برز العسكر كمنقذين، ومثل الجيش طوق نجاة وبديلًا وحيدًا لفشل السياسيين وفسادهم، وعجز المعارضة وتخبطها واهتزازها، وغاب عن العقل العربي في خضم تسارع الأحداث، أن هذا الفشل وهذا الفساد وهذا التخبط وهذا العجز، هي كلها نتائج للعقود التي لم يحكم فيها غير العسكر، بل هي في أحيان كثيرة كانت سياسات منتهجة من طرف قادة الجيوش لتقوية نفوذهم وإضعاف غيرهم من المؤسسات بما فيها مؤسسة المجتمع الذي يعتبرون تطوره خطرًا على سلطتهم.
وحتى وإن كان هناك من ينبه لهذه الحقيقة، فالظرف المشحون كتم صوت العقل، وأطلق عنان مشاعر الخوف واليأس، التي هيأت الأرض الصلبة لنمو فكرة أن الجيش هو الأحق بالحكم والسلطة والأصلح لهما، لم يعد هناك فقط يمين ليبرالي أو يسار اشتراكي، ولا قومي وإسلامي، ولا بعثي وقطري، هناك الآن أيديولوجيا جديدة تعتنقها والشعوب والنخب العربية، هي عقيدة العسكرية «the militarism».
هذا الولاء للجيش والإيمان بأحقيته في الحكم، ليس ولاء لشخص أو قيادة، إنه اعتقاد في مؤسسة ومنظومة، أثبتت في قناعة معتنقها، أنها منظمة وكفؤة ومخلصة ولديها الحلول لمشاكل الدولة والمجتمع، «الجيش هو الحل»، مثل «الإسلام هو الحل»، هو شعار المرحلة المعاصرة للعقل السياسي العربي، وهذه الأيديولوجيا ليست كلاما يردده البسطاء أو الأقل حظًا من الثقافة والتعليم، ولا أفراد الأسلاك العسكرية والأمنية فقط، بل هي نظرة تتشارك فيها عديد النخب، فلن تعدم أبدا اليوم منظرين لعقيدة الميليتاريزم بين الكتاب والأدباء والإعلاميين وأساتذة الجامعة والحقوقيين ورجال الأعمال، وطبعًا من السياسيين أيضًا الذين يفترض أنهم موجودون لممارسة السياسة والوصول للسلطة، إن هذا الدفاع عن الجيش كعقيدة، كان في مرحلة سابقة يمكن اعتباره تزلفًا ووصولية، لأن الجيش كان أداة بطش وسلطة قرار، أما اليوم فهذا الموقف يأخذ صورته الأيديولوجية التنظيرية، حين ينادي بالجيش كنظرية للتنمية والتحديث، وليس فقط كحافظ للأمن والاستقرار.
إن الكثير من المرافعات اليوم في مصر وسوريا والجزائر، تجاوزت اعتبار الجيش مؤسسة عسكرية، فهي ترفعه إلى كيان مواز ومقابل أو متعال للدولة ولكل مكوناتها، فهو مؤسسة فوق المؤسسات وفوق القوانين، وفوق السجالات الأيديولوجية والفكرية، إنه البديل لكل ذلك والمعلم الثابت الذي تقاس إليه جميع المفردات الأخرى للدولة، إذ يمكن تبديل الدستور مثلا بما يوافق الجيش، أما العكس فغير ممكن إطلاقا، فليس واردًا حاليًا ولا في الأفق القريب، أي احتمال لمناقشة العقيدة العسكرية والسياسية لأي جيش عربي في إطار دستوري أو مؤسسي.
استقراء للتاريخ، العمر الافتراضي لحكم العسكر قد انتهى عمليًا، ورغم ذلك سيستمر هذا الحكم عقدًا آخر على الأقل ضمن الظروف العالمية الحالية، ولكن توفر الظروف الجديدة لزوال هذا النظام المتمرد على تقدم التاريخ، ستكون أسرع، لأن تعقيدات الحياة المعاصرة، وصراعات النفوذ والمصالح بين الدول، وتطور المجتمعات، كل ذلك يسير بوتيرة أسرع من قدرة استيعاب العسكر وكفاءتهم لمجاراتها، غير أن الثمن حين توفر تلك الظروف قد
يكون باهظًا جدًا، ويمكن أن يغير خريطة هذا العالم العربي برمتها.
(المصدر: ساسة بوست)