مقالاتمقالات مختارة

الميزان الحساس في الحكم على الناس

الميزان الحساس في الحكم على الناس

بقلم د. محمد سعيد بكر

شهيد الأمة وبطل الإسلام وناصر الدين وحامي العروبة والمجاهد من الطراز الأول، كلها كلمات مدح وثناء قيلت في رجل ساد ثم باد، أو حكم ثم انعدم، وفي الوقت ذاته نسمع كلمات طعن وقدح في الرجل ذاته!!.

– ‏مدح وقدح، رفع وخفض؛ هذه وتلك شهادات نحكم بها على الناس بناء على ما عرفنا أو سمعنا أو جربنا منهم، شهادات نوزعها دون أن نلقي لها بالاً في الدنيا، وإن لها عند الله شأناً عظيماً.

– ‏الحكم على الناس بمدح أو ذم أمر خطير جِد خطير، روى البخاري عن أنس بن مالك قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر رضي الله عنه : ما وجبت يا رسول الله؟، فقال صلى الله عليه وسلم : هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).

– ‏الحكم على الآخرين خطير خطير، لأنه يترتب عليه ولاء وبراء، حب وبغض، وقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء مع من أحب) يعني: يوم القيامة.

– ‏الحكم على الناس خطير لأنه قد يوقعك في كبيرة البهتان وأنت لا تدري، فصفحة الناس مُغمَّاة مُعمَّاة يحرص الواحد على إظهار محاسنه وإخفاء مساويه، فتأتي أنت وتزكيه، أو يأتي الإعلام فيطوي صفحة الخير ويبرز صفحة السوء فيه، فيجرك جرَّاً إلى الطعن والوقوع فيه، والله تعالى يقول: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (الأعراف: 85).

– ‏وفي حديث مسلم الذي حذَّر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة والبهتان يقول: (فإن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه).

– ‏الحكم على الآخرين خطير لأنه قد ينسيك الحكم على نفسك وهو ما تحتاجه ويلزمك، روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا).

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً

إن عبت منهم أموراً أنت تأتيهــــا

وأعظم الإثم بعــد الشـرك نعلمه

في كل نفس عماها عن مساويها

– إن جَرح الناس أو تعديلهم أمر خطير، روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).

– ‏إنك تحكم على الآخرين بقولك وإشارتك، والله تعالى يحذرك (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152).

– ‏وعكس العدل الجور والظلم؛ (ومَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (الحج: 71).

– ‏أما وقد علمنا وإياك خطورة الحكم على الآخرين حكَّاماً كانوا أو محكومين، وما زلت مصرَّاً على الخوض في هذه البحيرة العميقة، إليك بعض أدوات النجاة حتى لا تغرق وأنت تحسب نفسك من الناجين:

– ‏العلم والعدل شرطان أساسيان فيمن يريد الحكم على الآخرين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

– ‏يقول ابن تيمية رحمه الله: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع).

– ‏إن حكم الظالم على الإنسان بموت أو سجن وغيرها لا يساوي شيئاً أمام حكم الأمة أو حكم الله عز وجل على البشر، وما كان يضير ابن حنبل يوم عُذِّب ولا ابن تيمية يوم سُجن ولا سيد قطب يوم أعدم شيئاً، إذ الأمة تشهد وتحكم، والله تعالى يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

– ‏ومن العدل في الحكم على الناس أن نعطي الوصف الدقيق فنبين ما للرجال وما عليهم، إذ لا يوجد خيرٌ محض، ولا شر محض في عالم بني آدم، وقد روى أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ابن آدم خطَّاء؛ وخير الخطَّائين التوابون).

– ‏وهذا الإمام الذهبي يقول في الحَكَم بن هشام: (كان الحكم من جبابرة الملوك وفسَّاقهم ومتمرديهم، وكان فارساً شجاعاً وذو دهاء وعقل).

– ‏وقال الذهبي أيضا في المأمون الخليفة الذي امتحن العلماء بفتنة القول بخلق القرآن، وعذب الإمام أحمد تعذيباً شديداً، قال عنه الإمام الذهبي بعد أن بيَّن عيوبه ومساويه: (وكان المأمون من رجال بني العباس حزماً وعزماً ورأياً وعقلاً وهيبة وحلماً، ومحاسنه كثيرة في الحكم).

– ‏فالعبرة بكثرة محاسن الرجال والعفو مطلوب عن مساويهم حتى لو وصلت إلى درجة الكبائر دون الشرك والكفر بالله تعالى، فقد روى البخاري (أن الصحابة جاءوا بصحابي اسمه عبد الله ليُجلد بشرب الخمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال : لا تلعنوه، فو الله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله).

– ‏قدِّم حسن الظن في حكمك على المسلمين الموحدين، يقول تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (النور:12).

– ‏واحرص على أن تتبين حال من تحكم عليه بخبر موثوق أكيد، لأنه كما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع )، وروى أبو داود بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بئس مطية الرجل: زعموا)، وزعموا كلمة نقولها دون تحرٍّ ولا تحقيق فنقع في ظلم دون أن ندري، والله سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).

– ‏اسأل نفسك قبل أن تقحمها في الحكم عل الناس بجَرح أو قدح وذم، ما غايتي وما مقصدي؟.

فالذم ليس بغيبة في ســـــتة

متظلم ومــعرِّف ومحـــــــذر

ولمُظهرٍ فسقاً ومستــفتٍ ومَـــن

طلب الإعانة في إزالة منكــــر

– اسأل نفسك عن هدفك من الجرح والتعديل خصوصاً إن كان مَن ستخوض في أمره قد مات وأفضى إلى ربه بما عمل، فإن كان القصد إتباع الهوى وملء المجالس، أو التعالُم على الناس أو الانتصار للباطل فبئس مقصدك وخبثت طويتك، وإن كان المقصد الشهادة لله تعالى والنصيحة للمسلمين فَنِعِمَّ ما تقول، وجعل الله تعالى قولك سديداً ورأيك رشيداً.

– ‏يقول الإمام الترمذي وهو يبين علَّة وسبب نشوء علم الجرح والتعديل، وهو العلم الذي يكشف أحوال الرواة للحديث من حيث قبول رواياتهم أو ردها قال: (إنما حمل العلماء على علم الجرح والتعديل: النصيحة للمسلمين).

– ‏كان فيما مضى للحكم على الناس علم خاص اسمه: علم الجَرحِ والتعديل، وإني لأخشى أن يكون العلم قد نُسي وانهدم وبقي الجرح والتعديل بجهل وضلالة، والله المستعان.

– ‏لا يجوز لك أن تحكم على الناس قبل أن تُحقِّقَ في أمور صنعوها؛ ظاهرها فيه الفساد، يقول عمر رضي الله عنه : (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً)، وروى البخاري (أنه لما جيء بحاطب بن أبي بلتعة بتهمة الخيانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سأله النبي قبل أن يحكم عليه قائلاً: ما حملك على ما صنعت؟)، إنه عين التحقيق قبل الحكم.

– ‏وإياكم وتقديسٌ يرفع الإنسان فوق قيمته البشرية كما اليهود الذين: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه) (التوبة).

– ‏وإياكم وذمٌ ينزل بمن تحكمون فيه الى مرتبة الشياطين، ومن هنا يقول الإمام الذهبي: (الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة، تام الورع).

– ‏وقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله منهج أهل السنة في الحكم على الناس والموضوعية الكريمة فيه فقال: (ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يُرحم من وجه ويُعذب ويبغض من وجه آخر، ولا بد أن يُعلم أن الرجل الواحد قد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم ويثاب ويعاقب، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم).

– ‏إن من تصدَّر للحكم على الآخرين فطنٌ حذر ينظر بنور الله، فلا تغره المظاهر الجوفاء ولا الشكليات الخادعة، فالمنافقون في زماننا كُثر ولهم طرق كثيرة في خديعة أهل الإسلام، حتى إذا تعلَّق الناس بهم نشروا الفساد وأضلوا العباد (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَة) (المنافقون: 4).

– ‏فالكافر لا يخدعنا حتى لو رأيناه يتعلق بأستار الكعبة، وإن في الحكم على الناس بُعد خفي نجهله، فقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة).

– ‏ومهما كان حرصك على التثبت وأنت تحكم على الآخرين، اترك شأن دخولهم النار أو الجنة لله رب العالمين .. يقول ابن تيمية رحمه الله: (العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية).

– ‏ولو جاز لنا أن نحكم على الإنسان بمرحلة من عمره دون أخرى ما جاز لنا أن نترضى على خالد بن الوليد صاحب هزيمة المسلمين يوم أحد، ولا على أبي سفيان زعيم المشركين يوم الأحزاب، ولا على وحشيٍّ قاتل حمزة، ولكنهم حسَّنوا خواتيمهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل الجنة مأوانا ومأواهم.

– ‏ألا وكل أمر يهون عن أمر العقيدة فإن توحيد الله تعالى إن صفا وخلُص للعبد صار في ذمة الرحمن، شاء من شاء وأبى من أبى، فإذا ما ثبتت حسن خاتمة الرجل دخل في زمرة المؤمنين، ولزم من ذلك ما روى البخاري في أمثاله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، وروى أبو داود بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه).

– ‏وإن ثبت للرجل سوء خاتمة بما كان عليه من جرم وظلم وطيش واستكبار فإلى جهنم وبئس المصير؛ (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:29).

وختاماً:

– ‏إن الحكم على الناس دَين ودِين، فقلْ خيراً وعدلاً أو اصمت عن جور وظلم تسلم.

– ‏ولا تكن إمعة في حمل أحكام الآخرين.

– ‏واحذر من الإعلام المضلل فقد رفع المستبدين والسفهاء وخفض المصلحين والمجاهدين والعلماء.

– ‏وإياك وعاطفة زائدة تقتلك وتردك إلى أسفل سافلين.

– ‏ولا تجزم قاطعاً بصدق أحد أو كذبه ولا بنفاق الناس وإيمانهم، لأن هذا من شغل الخالق سبحانه وتعالى: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَافِرِينَ) (العنكبوت: 3) (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) (العنكبوت:11).

– ‏واذكر دعاء الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي رواه النسائي بسند صحيح عنه أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك كلمة الحق، والعدل في الغضب والرضا).

(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى