الموزاييك الدمشقي .. حِرفة عريقة تحتضر تحت أنظارنا
بقلم د. طالب عبد الجبار الدغيم (خاص بالمنتدى)
الموزاييك مصطلح لاتيني، يُطلق على فنّ تطعيم الخشب، والحفر عليه، وإنه فنٌّ يدوي شامي أصيل، ارتبطت به كثير من أنماط العمارة الشامية من قصور وحمامات ومساجد ومكتبات عامة، وبيوت خاصة، ويُقال إنه «عميد» جميع الفنون اليدوية، التي تعتمد على زخرفة الخشب؛ لإنتاج أعمال متنوعة للعرض والزينة.
الموزاييك الدمشقي: تاريخ وعراقة
فنّ الموزاييك اليدوي من أقدم الحرف السورية، والدمشقية بصورة خاصة. وعرف الدمشقيون صناعة الموازييك منذ مطلع القرن التاسع عشر عبر التنوع الكبير في المنتوجات الخشبية مزخرفة، والمطعمة بالفضة والصدف والعظم، وبات الموزاييك سفيراً لسورية في دولة العالم، لكنها اليوم تشهد تراجعاً حاداً بسبب هجرة الحرفيين بعد الحرب، وارتفاع تكاليف صناعتها، وصعوبة تصديرها أو تأسيس مشاغلها خارج سورية.
الموزاييك ابتكار دمشقي انتشر قبل 500 سنة من خلال عدد من أسر دمشق، والتي عملت في مجال الحرف اليدوية، ومنها آل النعسان. ولكن حسب المصادر التاريخية الحديثة، فإن الفنان جرجي بيطار، هو مؤسس فن الموزاييك الدمشقي في شكله الحديث، وقد ولد جرجي بيطار عام 1840 في الحارة الجوانية في منطقة باب توما في دمشق، وينتمي إلى عائلة امتهنت البيطرة حرفة لها، إذ حاول والده جبرائيل أن يعلّمه مهنة الأجداد، لكنه كان ميّالاً إلى النجارة، حيث كان يتردّد إلى سوق النجارين، ويبتاع عدّتها لإصلاح الأبواب والشبابيك. ولما تحقّق والده من نجاحه الباهر في تلك الصناعة، افتتح له حانوتاً صغيراً في الحارة الجوانية.
وفي عام 1869م، صنع البيطار أول قطعة “موزاييك”، وذلك بجمع قضبان من الخشب الملون طبيعيًا ذات مقطع مثلث أو مربع، ثم قصها على شكل رقائق، ولصقها على المصنوعات الخشبية بالغراء الطبيعي. وأسّس مركزاً لفنّ التطعيم بالخشب «منجور الموزاييك» الذي ابتكره. وراح يصنع أصناف الأثاث البديع الفاخر والقطع الفنّية الجميلة التي تمثّل الإبداع الإنساني والعراقة السورية والفنّ الدمشقيّ الخالص. وقد نشأت الفكرة عام 1860 لما رأى شجرة ليمون يابسة في باحة دير الآباء الفرنسيسكان، فنشرها قطعاً، وفصّلها، وحفر لوحاً من الجوز الغامق، ونزّل فيه عروقاً وزهوراً مختلفة بأشكال هندسية دقيقة.
عمل جرجي بيطار، حتى نهاية حياته، في أصالة الفنّ وإتقانه، فتعلّم منه عدد كبير من العمّال، وتخرّج في مدرسته تلامذة مشهورون درَّبوا بدَورهم عشرات الحِرفيين الدمشقيين، حتى بلغ عدد العاملين في صناعة الموزاييك بين عامي 1920 و1940 أكثر من 1000 شخص. وهؤلاء فتحوا حوانيت، وورشاً، وعلّموا ودرّبوا عشرات الحِرفيين في هذه الصناعة الدمشقية، ونذكر منهم: اِلياس اسطفان، وأنطون بييت، وجرجي شنيارة، ويوسف حوش، وأنطون فرنسا، وجرجي تباز، وفرنسيس أشقر، وميشال طعمة الذي نقل ورشته إلى بيروت عام 1860.
وشارك جرجي بيطار عام 1891 في معرض فيينا لتمثيل الصناعة الدمشقية، وشغفه بالموزاييك جعله يُخرج هذه الحِرفة الشامية من حارته في «باب توما»، لتصل أعماله إلى غالبية دول العالم، حتى دخلت مقر الأمم المتحدة. وفي عام 1908م، توجه بيطار بعدئذٍ إلى روما، حاملاً معه الخزانة المهداة إلى البابا بيوس العاشر لتكون أجمل هدية في الفاتيكان، وكما أهدى طاولة من الخشب المطعّم بالصَّدف والموزاييك لمقر الأمم المتحدة.
في عام 1895م، استدعاه والي دمشق العثماني سعيد باشا، لإرسال هدية نفيسة إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لمناسبة المعرض الصناعي في إستانبول. فصنع 50 قطعة فنّية من خزائن ومكاتب وكراسٍ، وأشرف بنفسه على إيصالها إلى إستانبول، فوصلت إليها، وقد نالت إعجاب السلطان، فنقده مبلغاً وافراً من أجل مشاريعه الخيرية، وقلده وسام المجيدي الخامس، وميدالية الافتخار الفضّية، وهي بمنزلة براءة اختراع اليوم.
وانتشر الموزاييك بفضل جمهرة من حرفيي دمشق العاملين في مجال الزخرفة والنجارة والحفر على الخشب، وتخصص بعضهم بفن الموزاييك فقط، مثل أسرتي ألماظ وقنيني، وتركزت ورش هؤلاء في حارات دمشق القديمة؛ كالعمارة ومئذنة الشحم والقيمرية، وكما انتشرت الورش في بيروت والقدس وحلب.
صنعة الموزاييك الدمشقي
يعتمد صنع قطع “الموزاييك” على الأخشاب الملونة التي تُطعم لاحقًا بالصدف، سواء طبيعي أو صناعي، وللإبداع في هذه الحرفة دور مهم، كونها تتخذ طابعًا هندسيًا في أشكالها، فالموزاييك مجال واسع جدًا، ومن الطبيعي أن يصبح مع الممارسة مثل أيّ حرفة عادية، لكن يبقى حب العمل والإبداع فيه هو العامل الأساسي، على حد تعبيره. وتدخل في صناعة قطعة “الموزاييك” أنواع عدة من الأخشاب، وهي أخشاب متوفرة في بلاد الشام، ولا تحتاج إلى استيراد، مثل خشب الجوز والليمون والزيتون والكينا. وتتنوع ألوانه بين اللون الأسود في القطع، وهو من خشب الجوز، والأحمر هو قريب للكينا، والخمري فهو لون الورد، واللون الأبيض الذي يتخللها هو لون الصدفيات. وهذه القطع تُصنع بأشكال هندسية وبدقة عالية. وإن تصميم أي قطعة يحتاج أياماً بيد الصانع، وهو يحلم بها ويتخيل أبعادها، وإن المتعة التي يشعر بها لدى الانتهاء من إنجاز أي قطعة كبيرة جداً، وكل قطعة ينهيها يشعر وكأنها القطعة الأولى.
الموزاييك صنعة شامية أصيلة
كثير من منازل وبيوت دمشق القديمة ومدن سورية والشام لا تخلو من الموزاييك الدمشقي، وهي تحاكي التراث والتاريخ العريق من خلال قطع فنية مميزة ذات قيمة عالية. ويمكن لزائري المدينة القديمة رؤية نماذج جميلة من قطع الموزاييك الخشبي الدمشقي في كل من بيت نظام وبيت السباعي، ومكتب عنبر، ومنزل خالد العظم. فالموزاييك الدمشقي حرفة لها تاريخ وعراقة لا يمكن أن تنتهي لأنها تحمل اسم دمشق بتاريخها العظيم، ولكنها تحتاج إلى اهتمام؛ لأن توريث هذه الحرفة للأولاد والأحفاد بالوقت الحالي بات صعباً كون مردودها أصبح قليلاً جداً، ويحتاج إنجاز القطعة الواحدة إلى نحو 5 أشهر أو أكثر حسب نوعها، وهذا الجيل يبحث عن المكسب السريع.
بلغ عدد العاملين بالحرفة قبل الحرب نحو 28 ألف حرفي، وبعد الحرب، غادر الحرفيون سورية، واستقروا في بلاد أخرى، وتعاني نحو مئة ورشة من دمشق من سوء المكان الذي تعمل فيه كونه غير مخصص للأعمال الحرفية وضمن أحياء سكنية، بالإضافة إلى وجود قرابة 300 ورشة أخرى في ريف دمشق معظمها في جرمانا وجوبر وجسرين. وقد ارتفع ثمن كيلو الصدف حاليًا ما يقارب مئتي ألف ليرة سورية (55 دولارًا أمريكيًا)، وهو مرتفع مقارنة بما قبل عام 2011، فقد كان ثمن الكيلو 1300 ليرة (26 دولاراً تقريبًا) في عام 2011. ويعاني الناس من أوضاع معيشية صعبة قللت من القوة الشرائية واليد العاملة، فتراجعت الحرفة. ومع ذلك، يظل الموزاييك الخشبي الدمشقي حرفة فنية، تجمع بين الجمال والتاريخ والثقافة، والإبداع الشامي الإنساني والحضاري.