مقالاتمقالات مختارة

المنهج الحركى من خلال تجربتي النبي عيسى بن مريم والنبي يحيى بن زكريا عليهما السلام

بقلم د. محمد مورو

لاشك أن سيرة الأنبياء والرسل تمثل ذخيرة حية ونابضة ومفعمة بالتجارب لكل حركة دعوة أو إصلاح أو تغيير منشود ، وهكذا لم يكن حرص القرآن الكريم على إثبات وتحليل هذه التجارب وغيرها الا دعوة للتأمل فى تلك التجارب بهدف الاستفادة منها ، والتأمل كذلك فى الأمراض والأعراض التى تلحق بالأمم والجماعات فتقودها الى طريق الهلاك حتى نتجنبها.

ولاشك أيضاً أن المساحة الواسعة فى القرآن الكريم التى تناولت بنى إسرائيل – من حيث فسادهم الدينى والأخلاقى – ومن حيث تجارب الأنبياء معهم ، وبهم مع غيرهم من الأمم ، لم تكن عبثاً ، ذلك انها مقصودة بالطبع لأن من الممكن ان تلحق بنا كأمة إسلامية ورثت الكتاب والنبوة والرسالة ، وورثت دور الشاهد على الناس الى يوم القيامة ، يمكن أن تلحق بنا هذه الأمراض ، وبالتالى فيجب معرفتها لتجنبها وكذا بالنسبة لطليعة الأمة ” علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل ” أن يفهموا مسيرة الأنبياء للاستفادة منها فى مجال الدعوة والإصلاح والتغيير.

ولاشك كذلك ، فى أن للتجارب خصوصيتها زماناً ومكاناً ، وأنه من غير الصحيح التقليد الهندسى للتجارب السابقة ، ولكن الاستفادة منها كمنهج متكامل تتغير طريقة تركيبه على الواقع فى كل مرحلة ومهما كانت درجة التشابه بين حالة نمر بها وبين تجربة سابقة لأمة أو نبى فإن من الضرورى إدراك استحالة الانطباق الهندسى بين حالتين مهما بلغت درجة التشابه وهذا لا يمنع بالطبع من الاستفادة من تلك التجارب ، بل يؤكد على ضرورة هذه الاستفادة مع إدراك أهمية الإبداع والتجديد فى الفهم والممارسة ومواجهة المستجدات.

وتمثل حياة الأنبياء وأحوال الأمم التى ظهروا فيها – كل – أنواع وأشكال طرق الاصلاح الدينى والاجتماعى والأخلاقى والسياسى والاقتصادى، وكذا تمثل أوضاع الأمم التى ظهروا فيها مختلف أنواع الفساد والأعراف والزيغ والأمراض الاجتماعية والدينية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية.

فهناك من الأنبياء من بدأ مع مجتمع مسلم ، أى كان المطلوب فقط المحافظة على حالته الصحيحة ثم حدث انحراف فى فرد أو أفراد مثل آدم وأولاده الأوائل، وهناك من واجه مجتمعاً كافراً أخذ يدعوه دون جدوى – اللهم الا القليل الذى آمن معه مثل نوح وغيره ، ومنهم من واجه الى جانب الكفر انحراف أخلاقى مثل لوط ، ومنهم من بدأ تأسيس أمة – تكون شاهدة على الناس – مثل ابراهيم ، ومنهم من واجه الى جانب الكفر الظلم الاقتصادى مثل شعيب ، ومنهم من واجه أمة لديها الدين الصحيح والرسالة والكتاب ولكنهم انحرفوا قليلاً أو كثيراً مثل أنبياء بنى إسرائيل أو واجهت عدوا يريد البطش بها مثل أنبياء بنى إسرائيل أيضاً – داودد مثلاً، ومنهم من وجد نفسه فى مجتمعنا لا ينتسب اليه ، وكان مطلوباً منه أن يعايشه ويصلحه من داخله فاستخدم أساليب شىء ووصل الى وظائف عليا فى ذلك المجتمع دون أن يتخلى عن رسالته مثل يوسف ، الذى تصلح تجربته نموذجاً للمسلم الذى يعيش فى إحدى الدول الأوروبية مثلاً فى هذا العصر – مع الفوارق طبعاً ، من الرسل من انتصر ومنهم من انهزم ، من مات ومن قتل ، وهكذا يتشكل لنا فى النهاية أوسع تجربة نستفيد بها فى كل حالة وأى حالة.

ومن الرسل من كان مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذى أكمل الله به الدين ونقل إليه والى أمته من بعده – بعد أن فقدت بنى اسرائيل مقومات استمرارها بسبب فسادها وعنادها – نقل اليه والى أمنه من بعده واجب الرسالة الى الناس جميعاً ، ” لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيداً عليكم ” وبالطبع فإن العقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح والاسلام الكامل شريعة وعقيدة وممارسة تم على يد محمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الرسل ، والاستفادة من تجربة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واجب بالطبع ، خاصة أنها تجربة ممتدة من دعوة للكافرين ، إلى إقامة مجتمع للمسلمين فى المدينة مع وجود أقليات تعايش معها فى البداية مثل المشركين واليهود فى المدينة ، الى الصراعات بين دولة الرسول والقوى المشركة فى الجزيرة العربية ، انها تجربة تجمع بين تجارب دعوة الكافرين الى تجارب اقامة مجتمع للمسلمين ، الى تجارب مواجهة المنافقين ، الى تجارب معايشة المشركين واليهود – وثيقة المدينة نظمت تلك العلاقات – الى تجارب صراع الدولة المسلمة مع غيرها من القوى .. الخ.

وهناك تجارب الرجال الصالحين ، مثل الخضر عليه السلام ، الذى خرق السفينة ليبيعها – فعلمنا أن نخفى علامات قوتنا عن أعين الظالمين ولعل هذه التجربة لازمة لنا فى أحوالنا المعاصرة ، حيث كلما ظهرت قوة حركات الاصلاح وحدث نوع من استعراض هذه القوة فى نقابة أو انتخابات أو موقع اجتماعى أو خدمى كان هذا دعوة للظالمين للبطش بها وتصفيتها ومصادرتها.

**********

وسوف نختار فى هذه الدراسة ، تجربة هى أقرب التجارب شبها بنا – دون إغفال المتغيرات الطبيعية بالضرورة ، وهى تجربة دعوة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فى بنى إسرائيل وكذا تجربة نبى معاصر له هو النبى يحيى عليه السلام.

وأوجه الشبه كبيرة جداً بين حالتنا المعاصرة وحالة نبى الله عيسى بن مريم فى بنى إسرائيل، أو قل هى أكثر التجارب شبهاً لأحوالنا المعاصرة 00 فوجب الاهتمام بها ودراستها والاستفادة منها.

وأول أوجه الشبه تلك هى أن نبى الله عيسى جاء الى بنى إسرائيل لإصلاحها من داخلها ولم يكن صاحب دعوة الى غيرها من الأمم أساساً وهو لم يأت لنقض شريعة موسى ، أو تغيير دين اليهود، بل جاء ليكمل النا موس ويؤكد على المعانى الصحيحة والفهم الصحيح والممارسة الصحيحة.

يقول المسيح عن نفسه فى الاصحاح الخامس ” لا تظنوا أننى جئت لانقض النا موس أو الأنبياء ، ما جئت لا نقص بل لأكمل، ” وقوله ” على كرسى موسى جلس ا لكتبة والفريسيون ، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وأفعلوه ، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون “.

أى أنه يقر النص والوصايا والمرجعية النظرية، ولكنه جاء لإعادة روح الممارسة وروح الفهم الصحيح للنص والمرجعية والمنهج ، وكونه فقط مرسل لإصلاح بنى إسرائيل مثل قوله ” إلى طريق أمم لا تمضوا الى مدينة السامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالحرى الى خراف بيت إسرائيل الضآلة ” الاصحاح العاشر 0 وقوله ” لم أرسل الا الى خراف بيت إسرائيل الضالة ” الاصحاح الخامس عشر.

نحن إذن أمام أمة مكلفة برسالة، ولم تفقد مرجعيتها النظرية مثل حالتنا الآن ، ولكنها افتقدت روح المنهج والفهم والممارسة ، وفقدت الكثير من الشروط التى تكفل لها الاستمرار على هذه المهمة ، فكان المطلوب استعادة المضامين والشروط وروح المنهج والممارسة لدى هذه الأمة حتى لا تفقد مبررات وشروط استمرارها كأمة رسالية، وهذا ما هو مطلوب منا الآن وعلى علمائنا – الذين هم كأنبياء بنى إسرائيل – القيام به.

ولاشك أن الرسالة لا تورث بالجنسية أو العصبية أو القومية بل بامتلاك شروط  معينة والعمل شكلاً ومضموناً بمقتضاها ، وإذا كانت بنى إسرائيل قد فقدت هذا الشرف بعد أن فقدت شروطه وآل الأمر إلى أمة الاسلام فنرجوا ألا نفتقده بدورنا لافتقادنا شروطه!

*******

ومن أوجه التشابه أيضاً، وجود الظروف الموضوعية والذاتية شديدة التشابه بيننا وبين تلك التجربة، فالأمة اليهودية فى ذلك الوقت كانت أمة محكومة بالأجانب، أى خاضعة لسيادة خارجية هى الدولة الرومانية، ونحن بدورنا خاضعين للنفوذ الغربى، والدولة الرومانية فى ذلك العصر كانت قد بلغت أوج قوتها ودخل فى حوزتها العالم المعمور كله ما عدا الشرق الأقصى، مثل أمريكا الآن التى تهيمن على العالم فيما يعرف بعصر القطب الواحد أو النظام العالمى الجديد.

وكانت الفلسفات والأفكار ذات طابع عالمى وكذلك العقائد والمذاهب بمعنى أن الحياة الفكرية من الهند إلى الأطلسى مروراً بالاسكندرية ونابلس وروما كانت شديدة الترابط والاتصال، وهذا هو حالنا الآن مع إدراك  الفارق الكمى – وليس النوعى – فى سرعة الاتصال حالياً، بل حتى قبل ظهور المسيح بقليل ، إبان الصراع بين الفرس والروم ، الذى يشبه الصراع بين الاتحاد السوفيتى وأمريكا ، والذى انتهى أيامها لصالح الرومان وانتهى حالياً لصالح أمريكا، ويمكن أيضاً ان نشبهه بالصراع بين أمريكا وأوروبا أو أمريكا وفرنسا ، أو أمريكا والصين .. الخ ، كان هذا الصراع يجد له أنصاراً داخل أمة اليهود ، فهناك من ينحاز الى الرومان وهناك من ينحاز الى الفرس !! مثل حالتنا بالضبط .

إذن فهناك أشياع واتباع سياسيون لهذه القوة أو تلك داخل أمة اليهود فى ذلك الوقت ، وكذلك هناك الكثيرين ممن تأثروا بالفلسفات المختلفة ، من خارج إطار أمة اليهود – فهناك من تأثر بالفلسفة الفيثاغورثية أو الفلسفة الأبيقورية أو الفلسفة الرواقية ، كحالتنا فى التأثر بالمذاهب السياسية أو الفلسفية المختلفة من رأسمالية واشتراكية ديمقراطية ، وماركسية أو من تأثر بالبراجماتية ، أو المادية المثالية ، أو الوصفية المنطقية ، أو البنائية أو فلسفة الحداثة وما بعد الحداثة .. الخ.

وبالطبع انتشرت بين اليهود خاصة الطبقة الارستقراطية المرتبطة بالنفوذ الرومانى ، أنماط وأذواق الملبس والمأكل والآداب الرومانية وطرق الحياة والثقافة والألعاب وغيرها، وهكذا فنحن أمام حالة أمة خاضعة لنفوذ سياسى وعسكرى أجنبى ، مخترقة ثقافية مستلبة حضارياً تجاه الأجنبى ، أليست هذه هي حالتنا بالضبط.

*******

وحتى على المستوى العام اقليمياً وعالمياً ، فإن الحالة كانت شبيهة بما نعيشه الآن ، فقد كان معظم العالم المعروف فى ذلك الوقت خاضع سياسياً وعسكرياً ومنهوب إقتصادياً للدولة الرومانية ، وكان هناك سوء توزيع مروع للثروة ، فكان هناك ثروة وترف وطغيان من ناحية وفقر وضنك وهوان من ناحية أخرى، كان هناك بذخ وترف ولهو من جانب السادة ونقمة من جانب العبيد والمسخرين ويصف المسيح نفسه أحوال العالم فى تلك الفترة ، التى ضاعت فيها المعايير والقيم والعدالة والحرية وتسلط فيها السادة الرومان على الناس بقوله ” إن للثعالب جحور وللطيور أوكاراً ، أما ابن الانسان فليس له شىء يسند رأسه “، أليس هذا هو حال عالمنا المعاصر بالضبط الذى تستبد به القوى الكبرى وتنهبه ، وبحيث ضاعت فيه الحقوق تماماً وظهر فيه إزدواج المعايير بحيث لم يعد لابن الانسان قوة تسنده ، أليس الفقر والجوع والموت والحروب الأهلية وعيرها مما نعيشه الآن تحت ظل الهيمنة الأمريكية ، هو نفسه ما كان يحدث فى العالم أيام المسيح.

وفى فلسطين ذاتها ، ألا تخبرنا الأناجيل ، عن آلاف الجوعى والمرضى والعجزة والمجانين والصم والعمى والخرس الذين جاءوا للمسيح طلباً للشفاء .. الا يدل هذا على الحالة المتردية للناس أيامها مثل الصور التي نراها حالياً  للجوعي يتدافعون للحصول على شىء من معونات الأمم المتحدة !!

بل حتى على مستوى تمزيق الدول وإثارة الحروب الطائفية والعرقية والصراعات بين الكيانات السياسية المختلفة كان الأمر متشابهاً ففى فلسطين مثلاً كانت هناك ثلاث دويلات متصارعة فيما بينها ، ويعلق العقاد فى كتابه حياة المسيح على ذلك قائلاً فى صـ44 “وقصدت روما بهذا التمزيق أن تخيف كل ولاية وتلجئهم الى التنافس بينهم فى مرضاتها وتتخذهم جميعاً درعا تدفع به غارات الصحراء وهياج المتعصبين “.

*******

وبالإضافة الى تلك الحالة المماثلة لنا اقليمياً ودولياً ، فإنه من ناحية الفساد والانحراف والأمراض الاجتماعية التى تفشت فى اليهود فى ذلك الوقت من حب للجدل بلا طائل ، والتمسك بالشكل على حساب الجوهر ، واستخدام بعض رجال الدين لتبرير تصرفات الحاكم الأجنبى ، وإعطاء غطاء شرعى لكل الممارسات الفاسدة أخلاقياً واقتصادياً والتخلى عن شروط الأمة المختارة ، فإننا نتشابه فى ذلك معهم فى كثير من الأمور ، ويصف المسيح هذه الحالة بقوله ” أنهم حولوا  الهيكل من مكان صلاة وطهارة الى مغارة لصوص “.

*******

إذن فنحن أمام تجربة ، هى أقرب التجارب الى حالتنا الراهنة ، من حيث التشابه فى وجود أمة منوط بها رسالة فقدت شروط رسالتها وضربت فيها الأمراض والانحرافات ، والى خضوع هذه الأمة للنفوذ الأجنبى ، وإلى وجود أحوال إقليمية وعالمية متشابهة ، وبالطبع فإن التشابه لا يصل الى حد الانطباق الهندسى من ناحية ، فهناك فروق وملاحظات يجب إدراكها وكذلك من البديهى ان الاستفادة من كل التجارب النبوية وغير النبوية وارد بالطبع ، ومن الملاحظات والفروق مثلاً :

– ان فساد وانحراف بنى إسرائيل وصل الى حد كبير بحيث تعدوا شروط الأمة المختارة ، وهذا لا يمنع بالطبع وجود عدد قليل منهم كان لايزال يتمسك فكرا  وممارسة بالدين الصحيح ويدل على هذا قول القرآن الكريم ” ثم توليتم إلا قليلاً منكم ” وقوله ” بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون ” فهناك داخل أمة اليهود المنحرفة – فى تيارها العام والرئيسى – الصالحين من أمثال آل عمران وعيسى نفسه ، ولكن هؤلاء الصاحلين ليسوا إلا قلة تؤكد القاعدة ، أما حالتنا الاسلامية الراهنة فنرى أن هناك انحرافات كبيرة ، إلا أن المجرى الرئيسى لايزال صحيحاً وليس قلة من الأفراد فقط ، وهذا معناه أن فقدان بنى إسرائيل لصفة الأمة المختارة لفقدانها شروطها ، لم يحدث لنا – ونسأل الله ألا يحدث لنا فمازلنا – رغم الانحرافات والأمراض الخطيرة.

نحمل فى التوجه العام الشروط أو معظمها التى تؤهلنا لصفة الشاهد على الناس والقيام بواجبات الأمة المختارة ورسالتها ، ويجب ألا تخدعنا هذه الحقيقة أيضاً عن ضرورة المسارعة فى الاصلاح.

– أنه كان فى بنى إسرائيل جماعات فكرية وعقيدية مثل الصدوقيين والفريسيين والسامريين وخليط من اليهود والآشوريين والغلاة وغيرهم وبالطبع كانت هذه الجماعات أو الطوائف تحمل أفكاراً فيها الصحيح و الخاطىء ، وكذلك لدينا الآن أمثال هذه الطوائف والجماعات ، وبالطبع ليس هنا مجال تقييم أو دراسة هذه أو تلك بل يهمنا دراسة الظاهرة فى مجراها الرئيسى.

– أنه فى حالة أمة اليهود ، فإنها كانت محدودة من حيث العدد ، والاتساع الجغرافى ، فى حين أن الأمة الإسلامية كثيرة العدد الآن ” حوالى 1500 مليون نسمة ” وممتدة من طنجة حتى جاكرتا ومن سراييفوا حتى جنوب أفريقيا ، بل وموجود فى كل مكان على وجه الأرض ، وهذا فارق نوعى هام ينبغي أخذه فى الاعتبار .

******

لدينا فى عصر النبى عيسى بن مريم تجارب هامة  فى مواجهة هذا كله ينبغى دراستها والاستفادة منها ، لأنه كرسول مبلغ عن الله تعالى استخدم أسلوباً مشروعا يمكن القياس عليه من ناحية ويمكن فهمه مجملاً كمنهج ربانى فى مواجهة مثل هذه الحالة التى واجهها أو شبيها بها أو الاستفادة من جزئيات هذه التجارب وملامحها التفصيلية.

ولكن قبل البدء فى الاقتراب من تجربة وخطاب وأسلوب نبى الله عيسى بن مريم ، لدينا تجربة معاصرة لها ، أى أنها واجهت نفس الظروف .. أنها تجربة يوحنا المعمدان أو النبى يحيى عليه السلام ، وهو ابنة خالة المسيح وفى نفس سنه تقريباً وعاش فى نفس الفترة وواجه نفس الأوضاع والقوى ، ركز يحيى عليه السلام على جانب الحب .. حب الانسان أى إنسان تقياً أو عاصياً صالحاً أو طالحاً ، حتى ولو كان يملأ الأرض بذنوبه وصعفه الانسانى ، ولكنه كان يرفض مسايرة الظلم ، أى ظلم من أى نوع ، كان يحيى شديد الحنان بوالديه وبالناس والمخلوقات والطيور والحيوانات والأشجار ، أى أنه استخدم الأسلوب ” الانسانى ” فى دعوته ، وهذه الجوانب الانسانية – للأسف غائبة فى الحركة الاسلامية المعاصرة وبخاصة المتشددين المشهورين بالقسوة الشديدة !! ظناً منهم أن هذا تمسكا بالشريعة ، والصحيح انه على العكس تماماً ، لأن يحيى كان من أكثر الأنبياء والرسل تمسكاً بالشريعة وبالكتاب والله تعالى يقول عنه ” يا يحيى خذ الكتاب بقوة ” ، ولكن أهم ما نتعلمه من يحيى هو أنه كان رقيق الحاشية ” وحنانا من لدنا ” ، كان يخاطب الجانب الانسانى فى الناس ، كان إذا تكلم أبكى الناس من الحب والخشوع وأثر فى قلوبهم قبل عقولهم وهذا بالطبع كان لازماً لمواجهة المادية التى طغت على كل شىء ، والقسوة التى صبغت كل شىء فى ذلك الوقت.

أما موقفه من المؤسسة الحاكمة ، أى من الحاكم التابع للدولة الرومانية فهو موقف تعليمى لكل داعية ، لم يكن هذا الحاكم – كأى حاكم – مجرد فرد حاكم طاغية بل هو ممثل لمؤسسة الفساد ، الفساد الاقتصادى والسياسى والأخلاقى .. وبديهى أن الفساد الأخلاقى هو نتيجة طبيعية للفساد السياسى والاقتصادى ، كان هذا الحاكم يريد أن يتزوج ابنة أخته ، وهو محرم فى الشريعة بالطبع وكان هذا السلوك وتلك الرغبة تعبير عن فساد أخلاقى طال كل شىء ، كان تعبير كامل عن فساد المؤسسة الحاكمة سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً ، وطلب هذا الحاكم من النبى يحيى أن يبحث له فى الشريعة عن طريقة تحل له هذا الزواج ، أنه يريد أن يأخذ غطاءاً شرعياًَ لممارسات المؤسسة ، مؤسسة الفساد ولكن نبى الله يحيى رفض بالطبع ، ليس رغبة فى الصدام ، فلم يكن ينتهج أسلوب الصدام ، ولكنه رفض أن يتحول الى غطاء شرعى لممارسات مؤسسة الفساد ، وهذا يعنى أن إعطاء مؤسسة الفساد الاقتصادى والسياسى والأخلاقى شرعية من أى نوع أو أن نصبح جزءا من هذه المؤسسة بطريقة أو أخرى أمر مرفوض تماماً ، وهكذا كان رفض النبى يحيى ، الذى دفع ثمنه غالياً ولكنه كان راضياً بهذا الثمن ، كان هذا الثمن هو قتل النبى يحيى وتقديم رأسه الشريف على طبق لتلك العشيقة الماجنة !

*********

تجربة المسيح عيسى بن مريم فى مواجهة الظرف الذاتى والموضوعى الذى واجهه تجربة ثرية بلاشك ، وهى أقرب التجارب شبهاً لما تعايشه الآن كما قلنا من قبل ..

فالمسيح كان وديعاً متواضعاً رحيماً بالخاطئين والعاثرين متجرداً من أواصر المنافع والشهوات ، أى غير مرتبط بالمؤسسة الحاكمة ولا بحلفائها ، يوجه خطابه للجماهير الفقيرة والمطحونة والمريضة والعاجزة والبؤساء من كل نوع ، والمستضعفون هم الحلفاء الطبيعيون لأية دعوة تغيير أو إصلاح لأنهم ليس لهم مصلحة من استمرار الأوضاع التى ظلمتهم وهمشتهم ، لم يوجه المسيح خطابه للمؤسسة الحاكمة ، بل الى الجماهير ، لم يأت بجديد فى الشريعة ، بل أكد على الشريعة الموسوية وناضل ضد فهمها النفعى ” البراجماتى ” والتجارة بها أو الجمود على شكلها الخارجى فقط ، وهذا يعنينا بالطبع فيجب أن نتوجه الى الجماهير أيضاً ، ويجب ألا نكون جزء من مؤسسة الفساد شكلاً ومضموناً ، ويجب أن ننحاز الى الفقراء والمستضعفين وأن نوجه خطابنا لجميع هؤلاء ، ونحن أيضاً لسنا ديناً جديداً ، ولا نأتى بنص جديد أو حتى فهم جديد للشرائع والعقائد المستقرة ، بل ممارسة جديدة ، والدخول الى روح النص ، كما فعل المسيح عليه السلام ، ونكرر لسنا ديناً جديداً ، ولا فرقة دينية جديدة ، بل محاولة للنهوض وإصلاح الأمة والقضاء على أمراضها الاجتماعية والتصدى لمؤسسة الفساد وإعادة صياغة الانسان روحياً فى مواجهة المادية الطاغية والتأكيد على المرجعية الربانية بدلاً من مرجعية المادة والحوسلة والحداثة وما بعد الحداثة !!

كان المسيح يدرك أنه عندما يخلص الجماهير من العبودية للمادية وهى اله ذلك العصر ، وإله عصرنا أيضاً فإنه كان يضرب مؤسسة الفساد فى مقتل ، كان يدرك حين ينحاز الى الفقراء والمستضعفين انه يشعل الثورة على مؤسسة الفساد ، يقول المسيح ” جئت لألقى على الأرض ناراً فحبذا لو تضطرم ” ويقول لتلاميذه ” اتحسبوننى أتيت لأمنح الأرض سلاماً .. كلا وانما هو الصدام والانقسام ” .

كان المسيح حين يدعو إلى خلاص الضمير ونقاء الروح ، يدعو بالضرورة الى مقاطعة مؤسسة الفساد وإلهها المادى ، بل يدعو للثورة عليها أو على الأقل رفض الخضوع لها وخدمتها.

واجه المسيح تحجر الأشكال والأوضاع فى الدين والاجتماع ، وتحجر نظام المجتمع الذى أصبح أشكالاًَ ومراسم خلت من المعانى والغاية بل وتحجر الشرائع والقوانين ، وأن التقوى أصبحت اجترارً النصوص والبحث عن مراسم الشريعة وغلبة المظهر ، وانتشر الخلاف على النصوص والحروف وخلاف التأويل والتحليل.

كان النبى عيسى مثل النبى يحيى يحب البسطاء والخاطئين وكان أعداؤه يعيبون عليه ذلك فقالوا عنه ” أنه محب للعشارين والخطاة ” وكان يوحنا المعمدان ” النبى يحيى ” يقول لهم “يا أولاد الأفاعى لا يهجس بأخلادكم أنكم تنتسبون الى ابراهيم انى أقول لكم ان الله قادر على أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لابراهيم “.

ويعلق الأستاذ عباس محمود العقاد على ذلك قائلاً فى كتابه حياة المسيح أن يذكر اسم الله ويرشهم بالماء ويمسح على رؤوسهم فهم بعد ذلك أهل للدخول فى زمرة التائبين وطلاب الخلاص ولو لم يكن لهم نسب فى آل يعقوب وابراهيم “.

ولأن دعوة المسيح ويوحنا المعمدان اتجهت إلى الجماهير ، ورفضت المؤسسة الحاكمة أو المتحالفين معها ، فقد تنكر لها الكهان والفقهاء ومحترفى الدين ، وأحبها الجماهير ، فكان الناس يحبون كل من المسيح ويوحنا المعمدان حباً جماً ، يقول العقاد فى نفس الكتاب صـ96 ” لم تذهب دعوة يوحنا سدى بين الدهماء وبقى اسم يوحنا مقدسا محبوباً لديهم لدرجة أن الأدعياء خانوا ان يجترئوا عليه حتى لا ينقموا أغلبية الشعب “.

وبديهى أن الانحياز للفقراء والمرضى والمستضعفين والدهماء ورفض المؤسسة الفاسدة كان يعنى بالضرورة أن يمارس كل من المسيح ويوحنا المعمدان حياة الزهد والبساطة ، وأن يرفضا الانتفاع بأى شكل من أشكال الصلة بتلك المؤسسة بل أن يرفضا تقاليدها فى الترف والغنى ، فكان قوتهما من الجراد والعسل البرى ، ولا يعقل طبعاً أن يكون المناضلين ضد مؤسسة جزءً منها أو يقبضون منها أول النهار ثم يلعنونها آخر النهار أو توجه دعوتهم للجماهير ثم يعيشون حياة الترف التى يعيشها مصاصو دماء الجماهير حتى ولو كان ذلك نتيجة عمل مشروع أو جهد مأجور – وهو أمر صعب أصلاً – ولكن حتى لو فرض إمكانية تحقيقه فإنه يفقد المناضل مصداقيته.

كانت المؤسسة تدرك خطر دعوة المسيح عليها وكذا من قبله دعوة يوحنا المعمدان ، وكان محترفى الدين كذلك والمرتبطين بالمؤسسة ، كل هؤلاء تآمروا لقتل المسيح وقتل النبى يحيى “يوحنا المعمدان”.

كانت المؤسسة هى سبب الفساد ورأسه ، أما المذنبين والخاطئين الصغار فهم ضحايا تلك المؤسسة قبل أن يكونوا مذنبين وخاطئين وعصاة ، كان المسيح يفهم هذا ويدركه ، ولذا فهم أن التطبيق الحرفى للشريعة ، فى ظل مؤسسة ظالمة مستبدة فاسدة هو أكبر الظلم وأكبر خروج على الشريعة ، ولذلك عندما جاءوا للمسيح وهو فى الهيكل بامرأة زانية وقالوا له ان شريعة موسى تقول ارجموا الزانية فما زاد على أن قال ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر “.

كان الظرف لا يستدعى قاضياً أو حسيباً على الناس بل قلب كبير يجذب اليه الضحايا والمظلومين ، ولذلك عندما طلب منه أحدهم أن يقسم الميراث بينه وبين أخيه قال له ” من أقامني عليكم قاضياً أو حسيباً “.

كان المسيح يضع الفأس على رأس المؤسسة حين بلفت نظر الناس الى الدخول الى لب المسائل وليس قشرتها ،الى اليد التى تقف وراء القفاز وليس القفاز نفسه ، الى رأس الفساد وليس ضحاياه ، وكذلك حين ينادى الجماهير ” طوبى للحزانى ، طوبى للمساكين ، طوبى للجياع والظماء ، طوبى للمطرودين فى سيل البحر ، طوبى للودعاء والرحماء ، تعالوا لى يا جميع المتعبين والمثقلين ” انه هنا لا يدعوهم الى الجوع بل الى الثورة على ناهبيهم وغاصبى قوتهم ومضطهديهم.

لم تكن الشريعة يوماً لاقتناص واصطياد الناس ، ولم تكن الشريعة يوماً معنى مجردا عن الزمان والمكان والظروف ، ولم تكن الشريعة يوماً الا لاصلاح حال الانسان ولها غاياتها العليا دائماً وهكذا فإن المسيح عندما عالج المرضى يوم السبت وقال له محترفو الدين أن العمل يوم السبت محرم فى شريعة موسى قال لهم المسيح ” خلق السبت للانسان ولم يخلق الانسان للسبت ” ، وبعده عفى عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن السارق ولم يقم عليه الحد، بل هدد بعقاب سيده الذى أجاعه فدفعه الى السرقة ، هكذا يفهم المخلصون وكبار العقول والقلوب الشريعة على حقيقتها.

على أن أهم ما نتعلمه من تجربة المسيح هو عدم الوقوف على كلماته بحروفها ، بل بمضامينها وغاياتها

(المصدر: الاسلام اليوم)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى