المعتَقد الدِّيني وتشكيل السِّياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة: جيمي كارتر نموذجًا 3 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
دور اليمين المسيحي في إسقاط كارتر
أيَّد راعي الكنيسة المعمدانيَّة الأولى في نورفك في ولاية فرجينيا، بيلي سميث، في الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة (SBC)، ترشُّح جيمي كارتر للرئاسة لعام 1976 ميلاديًّا، مشيرًا إلى احتياج الولايات المتَّحدة إلى رئيس “يولد من جديد في البيت الأبيض”، وتتفق الأحرف الأولى من اسمه (Jimmy Carter) مع الأحرف الأولى من اسم الربِّ (Jesus Christ)، وفق ما جاء في كتاب God’s Own Party: The Making of the Christian Right-حزب الربِّ: تكوين اليمين المسيحي (2010) للكاتب دانيال كيه. وليامز. غير أنَّ هذا التأييد تلاشى عندما عزم كارتر على إعادة الترشُّح للانتخابات عام 1980 ميلاديًّا. حرص كارتر على دعوة سميث إلى مكتبه لتهنئته على انتخابه رئيسًا للجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة، ولكنَّ الأخير انتقد النزعة العلمانيَّة التي اتَّسمت بها سياسة الرئيس الأسبق؛ فقد قال سميث لكارتر قبل مغادرة مكتب الرئيس “ندعو، يا سيادة الرئيس، ألَّا تعود تتخذ العلمانيَّة الإنسانيَّة دينًا”، واعتقد كارتر أنَّ القسَّ كان يقصد اعتراضه على تعديل دستوري يجيز الصلاة الإجباريَّة في المدارس الحكوميَّة، كما ذكر الرئيس الأسبق في أكثر من مؤلَّف، منها الإيمان الحيّ (1996)، و Our Endangered Values: America’s Moral Crisis-قيمنا المعرَّضة للخطر: الأزمة الأخلاقيَّة لأمريكا (2005).
نال ترشُّح كارتر للرئاسة عام 1976 تأييد المسيحيين المحافظين، لكنَّ أملهم فيه خاب، لمَّا عجز عن دعم أولويَّات سياساتهم. ويرى بليك جونز في أطروحته آنفة الذكر (2013) أنَّ برغم اشتراك كارتر مع المسيحيين المحافظين في نفس العقيدة الإنجيليَّة، لم يحرص كارتر في نظرهم على جعل هذه العقيدة الدافع الأساسي لمواقفه السياسيَّة في بعض شئون السياسة الخارجيَّة، من بينها زيادة الإنفاق العسكري، والدعم غير المشروط لإسرائيل، وتطبيع سياسة رادعة معادية للشيوعيَّة (ص181). من هنا، منح اليمين المسيحي الصاعد وقتها تأييده لرونالد ريجان، الممثل المطلَّق وغير المنتظم في ارتياد الكنيسة. كان الاختلاف بين كارتر المسيحيين المحافظين حيال ما يراه كلُّ طرف التطبيق العملي الفعَّال للعقيدة الإنجيليَّة وراء الامتناع عن تأييد ترشُّحه، وتفضيل منافسه عليه، ولعلَّ تمسُّك كارتر بفصل الكنيسة عن سياسة الدولة من أهم أسباب توتُّر علاقته باليمين المسيحي، حتَّى فات الأوان. ويقول أندرو بريستون في كتابه Sword of the Spirit, Shield of Faith: Religion in American War and Diplomacy-سيف الروح ودرع الإيمان: الدين في الحرب والدبلوماسيَّة الأميركيَّة (2012) “تعود مشكلة كارتر بعض الشيء إلى عجزه عن فهم المزاج الديني للبلاد. أخطأ (كارتر) على وجه الخصوص في محاولته الحازمة لفصل الدين عن السياسة” (ص576).
علَّق الإنجيليُّون والأصوليُّون أملًا كبيرًا على الحصول على منصب قياديَّة في إدارة كارتر، ولكن خاب أملهم لمَّا امتنع الرئيس الأسبق عن تعيينهم، بل ورفض مقابلة العديد من جماعاتهم في أول عامين له في البيت الأبيض، وبدت محاولته اللاحقة للتقرُّب إليهم نفعيَّة بعد اقتراب انتهاء فترته، ومن ثمَّ موعد الانتخابات. لم يبدأ دور الإنجيليِّين والأصوليِّين في إسقاط كارتر عند حشد الأصوات للمرشَّح المنافس لكارتر، إنَّما بدأ عند بحثهم المدقق عن مرشَّح جمهوري يعتنق أفكارهم ويبشِّر بتطبيقها في السياسة المتَّبعة، وكان رونالد ريجان الاختيار الأمثل. المفارقة هي أنَّ ريجان، لدى ترشُّحه عن الحزب الجمهوري عام 1976، نادرًا ما تناول الدين في خطابه، وانتقد الإنجيليُّون ضحالة معرفته بالعقيدة الإنجيليَّة. تبدَّل الأمر عند ترشُّحه للرئاسة عام 1980، لمَّا تحدَّث عن الإيمان، وبلور موقفه المعارض للشيوعيَّة؛ فنال رضا جماعة اليمين المسيحي. على سبيل المثال، أسست مجلَّة Christian Voice-الصوت المسيحي، لجنة أطلقت عليها “مسيحيُّون من أجل ريجان” بهدف جمع التبرُّعات لصالح حملته الانتخابيَّة. أطلقت الجماعة كذلك حملة إعلاميَّة لتسليط الضوء على حياة ريجان الدينيَّة. لعب اليمين المسيحي دورًا مناهضًا لسياسة كارتر لإضعاف مكانته وفرص إعادة ترشُّحه، مستغلًّا أزمة الرهائن الأمريكيين المحتجزين في إيران منذ 4 نوفمبر 1979، وحتَّى 20 يناير 1981، أي بعد انتهاء ولايته وتسلُّم ريجان الحُكم. انتقدت جماعة اليمين المسيحي موقف كارتر من نظام ملالي إيران حديث النشأة، وطالبته بالردِّ، بينما أعدَّت آليَّة للتواصل المباشر بين ريجان والإنجيليِّين والأصوليِّين، وأثارت الرأي العام ضدَّ كارتر، بانتقاد موقفه تجاه إسرائيل.
مواقف كارتر لإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي
في خطاب ألقاه في كليَّة مانسفيلد عنوانه ” Peace with Justice in the Middle East-السلام مع العدالة في الشرق الأوسط”، قال الرئيس الأمريكي الأسبق “أعلن البابا يوحنَّا بولس الثاني (بابا الفاتيكان الأسبق) ذات مرَّة أنَّ الحلَّين ممكنان لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يقصد الواقعي والإعجازي. يشتمل الحل الواقعي على تدخُّل إلهي من السماء؛ أمَّا الإعجازي، فهو إبرام اتفاق طوعي بين الطرفين”. ويرى بليك جونز (2013) أنَّ كارتر فشل في لعب دور فعَّال لتسوية ذلك الصراع بعد انتهاء فترة رئاسته، بل ويرى أنَّه أضرَّ بدور الوسيط المحايد بأن وبَّخ إسرائيل على مواقفها تجاه الفلسطينيِّين، معربًا عن أمله في تأسيس دولة فلسطينيَّة على الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة، وكذلك بدء علاقة دبلوماسيَّة رسميَّة بين إسرائيل والعالم العربي. ويذكر جونز (2013) أنَّ انتقاد كارتر لإسرائيل ازداد بعد ترك منصبه، ولم يرد في حاجة إلى أصوات اليهود الأمريكيِّين ومؤيدي إسرائيل من الإنجيليِّين والأصوليِّين، بل ووصل الأمر إلى حد انتقاد العقيدة الأصوليَّة لصالح دفاعه عن الحقوق المدنيَّة للشعب الفلسطيني (ص231). لم يتوقَّف انتقاد كارتر بشأن موقفه من دولة إسرائيل على استعداده لمقابلة زعماء فلسطينيين، مثل ياسر عرفات، الذي اعتبرته الخارجيَّة الأمريكيَّة إرهابيَّا، أو قادة حماس، إنَّما امتدَّ إلى الاستخفاف بالعقيدة الدينيَّة التي استند إليها في تعامله مع قضيَّة إسرائيل. جدير بالذكر أنَّ أستاذ التاريخ بول تشارلز مركلي في كتابه آنف الذكر الرؤساء الأمريكيُّون والدين وإسرائيل: ورثة كورش (2004)، قد اعتبر أنَّ كارتر حاد عن النموذج السائد لرؤساء أمريكا في موقفهم من إسرائيل، الذي شبَّهه مركلي بموقف الإمبراطور الفارسي كورش، الذي أعاد بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة بعد سنوات السبي البابلي، ودعَّم إعادة بناء هيكلهم.
المصدر: رسالة بوست