كتب وبحوث

المعتَقد الدِّيني وتشكيل السِّياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة: جيمي كارتر نموذجًا 1 من 7

المعتَقد الدِّيني وتشكيل السِّياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة: جيمي كارتر نموذجًا 1 من 7

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

بالحديث عن مقترحات جيمي كارتر، الرئيس الـ 39 للولايات المتَّحدة الأمريكي (1977-1981)، لإنهاء الصراع على الأرض المقدَّسة، يُفتح المجال للحديث عن تأثير اعتناق عقائد الصهيونيَّة المسيحيَّة على التوجُّهات السياسيَّة لرؤساء الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، برغم ادِّعاء السياسيِّين الأمريكيِّين تطبيقهم نهجًا علمانيًّا في صُنع القرار.

تعريف بجيمي كارتر: رئيس سابق ومبشِّر حالٍ

يُعتبر إبرام اتفاقيَّة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978 ميلاديًّا، والمعروفة باتفاقيَّة كامب ديفيد، من أشهر المنجزات التي تُحسب للرئيس كارتر، الذي عُرف بصداقته للرئيس المصري الراحل، محمَّد أنور السادات، وكان لتلك الصداقة دور بارز في إقناع الأخير بقبول كافَّة نصوص الاتفاقيَّة. وقد ذكر بليك جونز في أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ولاية أريزونا، عنوانها A Battle for Righteousness: Jimmy Carter and Religious Nationalism-معركة من أجل البر: جيمي كارتر والقوميَّة الدينيَّة (2013)، أنَّ كارتر استغلَّ معتقداته الدينيَّة في إنجاح مفاوضات كامب ديفيد، مضيفًا أنَّه طالما حرص على مراعاة قيمه الدينيَّة، النابعة من معتقدات الكنيسة المعمدانيَّة البروتستانتيَّة، عند اتِّخاذ القرارات، برغم حرصه على فصل الدين عن الدولة (ص i). وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى رفض وزير الخارجيَّة المصري وقتها، محمَّد إبراهيم كامل، العديد ممَّا نصَّت عليه الاتفاقيَّة، ما أخبر عنه بالتفصيل في كتابه السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد (2003)، الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.

جعل مركز كارتر، وهو منظَّمة غير حكوميَّة لا تستهدف الربح، نشر السلام والارتقاء بالصحَّة لسكَّان العالم على رأس أهدافه، وقد نجح المركز في تحسين أحوال سكان 80 من دول العالم من خلال تسوية المنازعات، والنهوض بالديموقراطيَّة وحقوق الإنسان والفرص الاقتصاديَّة، ومكافحة الأمراض، وتحسين الصحَّة العقليَّة. وقد أثنت مجلَّة فويرن أفيرز-Foreign Affairs، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجيَّة الأمريكي، في عدد نوفمبر/ديسمبر 1995 ميلاديًّا، على “سعي جيمي كارتر المتواضع لإحلال السلام العالمي”، مبلورةً طبيعة هذا السعي، وهو التبشير؛ فقد كان وصف الرئيس الأمريكي الأسبق في عنوان المقال “رجل التبشير“.

نشر جيمي كارتر كتابًا دينيَّ الطابع عنوانه Through the Year with Jimmy Carter: 366 Daily Meditations from the 39th President-خلال العام مع جيمي كارتر: 366 تأمُّلًا يوميًّا من الرئيس الـ 39 (2011)، يتناول فيه تجربته الإيمانيَّة، التي أغرته بالسعي إلى تعزيز الإيمان المسيحي لدى أتباعه، مستلهمًا محتوى كلَّ تأمُّلٍ مما يتضمَّنه الكتاب من دروس الأحد التي تلقَّاها في كنيسة ماراناثا المعمدانيَّة، بمسقط رأسه بلينز، في ولاية جورجيا الأمريكيَّة، ومستهلًّا كل تأمُّل بآية من الكتاب المقدِّس تعبِّر عن فِكرته. يقسِّم كارتر رحلته الإيمانيَّة التي اختارها له الربُّ في هذا الكتاب إلى أربعة مراحل: الإطلاق، وهي مرحلة تكوُّن الإيمان المسيحي الخالص في قلبه وتعلُّمه الأساسيَّات الدينيَّة اللازمة لبدء تجربته مع الربِّ؛ والنمو، وهي مرحلة النهوض بالأساسيَّات المكتسبة في المرحلة الأولى، والتي يصبح فيها المرء مسيحيًّا صادق الإيمان، ينعم بحياته ويبارك الآخرين؛ والخدمة، ويسرد في هذه المرحلة كيف اجتذبته “روح المسيح” إلى حياة الخدمة، ليس لفرض قيود على حياة الناس، إنَّما لتحرير الأنفس والقلوب وتوسيع نطاق “مملكة الربِّ”؛ وأخيرًا، مرحلة النضج، وتأمَّل فيها التأثير لصالح الخير العام الذي يُحدثه المسيحي المؤمن في محيطه، ويمتدُّ إلى كافَّة أرجاء العالم.

في التأمُّل 248، الذي يحمل عنوان “A Missionary’s Questions”، أو أسئلة للمبشِّر، يتناول كارتر هويَّة الشخص الذي يتخلَّى عن حياة الرفاهية، ويسافر إلى أقاصي الأرض لتمدين غرباء في أوزباكستان أو توجو، مستهلًّا التأمُّل بآية من سفر الخروج، يرد فيها موسى على أمر الربِّ له بأن يذهب إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل من مصر ” فَقَالَ مُوسَى للهِ: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟»” (سفر الخروج: إصحاح 3، آية 11). بناءً على فهمه لهذه الآية، يعرِّف كارتر المبشِّر بأنَّه “شخص كُلِّف بمهمَّة لخدمة الربِّ”. اتَّخذ كارتر بعثة موسى نموذجًا لرحلة التبشير؛ فقد بدأت بالتأمُّل لمَّا رأى عليقة من العشب في وسط نار ولا تحترق “ظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ. فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟»” (سفر الخروج: إصحاح 3: آيتان 2-3). ترك موسى إثر تلقِّيه أمر الربِّ، حياته العاديَّة-حياة البشر العاديين-ليبدأ حياة غير عاديَّة، ولكن تلك الرحلة بدأت بالتأمُّل، وهذه ضالَّة الكثيرين، في رأي الرئيس الأسبق.

الخلفيَّة الدينيَّة للرئيس كارتر

أثار الأسلوب الخطابي الذي استخدمه جيمي كارتر في حملته الانتخابيَّة عام 1976، انتباه الكثيرين، ممَّن لاحظوا إيمانه بالطبيعة الآثمة لبني البشر وبوجود سبيل للخلاص؛ فالبشر يولدون آثمين، وفق المعتقد المسيحي، المؤمن بتلطُّخ البشر أجمعين بإثم الخطيئة الأولى لآدم، لمَّا أكل من شجرة المعرفة، كما تشير القصَّة الواردة في سفر التكوين، ولا سبيل لخلاصهم سوى الالتحام بروح الربِّ، ولا يكون ذلك إلَّا بالإيمان بتجسيده البشري. جدير بالذِّكر أنَّ هذه العقيدة نابعة من الأصل من عقيدة القبَّالة، التي ترى أنَّ بسقوط آدم إلى الأرض، تحطَّمت روحه، التي نبعت منه أرواح البشر، إلى مليارات الأجزاء، وسبيل التحامها وتحقيق الخلاص، أو البرِّ يوم الدينونة، هو الإيمان بالمخلِّص، روح الربِّ. وقد رأى الكاتب ويزلي جي. بيبرت في كتاب The Spiritual Journey of Jimmy Carter: In His Own Words-حياة جيمي كارتر الروحانيَّة: من أقواله (1978)، أنَّ كارتر قد بنى فلسفته السياسيَّة على معتقدته الديني، ويتَّفق ذلك الرأي مع ما نقله كينيث إي. موريس في كتابه Jimmy Carter: American Moralist –جيمي كارتر: معلِّم أمريكي للأخلاق (1996)، عن أحد المتطوِّعين في حملة كارتر الانتخابيَّة، بأن اعتبر سياسته تنفيذ لمعتقداته الدينيَّة، وتصوُّراته لما يكون الأفضل لسد احتياجات الناس. وقد وصف المؤرِّخ الديني الأمريكي إي. بروكس هوليفيلد كارتر في حملته الانتخابيَّة عام 1976 ميلاديًّا، في مقال بعنوان”The New Republic-الجمهوريَّة الجديدة”، بأنَّه “تجسيد للإنجيليَّة الجنوبيَّة، يدبُّ بجذوره في العقيدة الطهوريَّة، والتعدديَّة الدينيَّة للقرن الثامن عشر، والواقعيَّة المسيحيَّة“.

ويسلِّط بليك جونز في أطروحته آنفة الذكر (2013) الضوء على ببعض المؤثِّرات العقائديَّة التي كان لها الدور الأكبر في تشكيل فِكر جيمي كارتر السياسي، وأبرزها الإنجيليَّة الجنوبيَّة، والواقعيَّة المسيحيَّة، إلى جانب الإيمان بحركة الحقوق المدنيَّة وبدولة إسرائيل. ويعتبر جونز أنَّ الفترة السابقة على تولِّي كارتر حُكم أمريكا شهدت ظهور أصحاب أفكار دينيَّة مشابهة لأفكار كارتر، ولكنَّهم اختلفوا معه في بعض الأمور؛ فشكَّل هؤلاء ما يُعرف بحركة اليمين المسيحي. أهم ما يميِّز عقيدة الإنجيليَّة الجنوبيَّة الميل إلى فصل الكنيسة عن السياسة، وحريَّة الضمير.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى