المشروع النَّووي الإيراني وحقيقة تهديده لأمن إسرائيل 6 من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
طبيعة الصَّراع النَّووي الصُّهيوني-الصَّفوي
تتساءل الباحثة عن سبب تمتُّع إسرائيل بكامل الحقّ في التَّسلُّح بكافَّة أنواع الأسلحة، بما فيها السّلاح النَّووي، بينما يُمنع جيرانها من الخوض في المجالات ذاتها. تُمنع كافَّة الدُّول المحيطة من التَّسلُّح تحت ذريعة تهديد إسرائيل، لكنَّ إسرائيل لها برنامجها النَّووي، الَّذي لا تسمح للوكالة الدَّوليَّة للطَّاقة الذَّريَّة بتفتيشه أو مراقبته، في إطار ما تسمّيه “سياسة الغموض النَّووي”، بمساعدة القوى العظمى، على رأسها أمريكا، الَّتي تدَّعي في وسائل الإعلام أنَّها تتصدَّى للمشروع النَّووي الإيراني. وكان دافيد بن غوريون، أوَّل رئيس وزراء لإسرائيل، الأب الرُّوحي للمشروع النَّووي الإسرائيلي، وأكثر مَن شجَّع على تطوير قنبلة نوويَّة إسرائيليَّة، وعهد إلى حاييم وايزمان، العالم الكيميائي اليهودي والزَّعيم الثَّاني للصُّهيونيَّة العالميَّة بعد تيودور هرتزل وأوَّل رئيس لإسرائيل، بالإشراف على المشروع. في حين كان لموشيه دايان، السّياسي الإسرائيلي البارز الَّذي شغل منصب وزير الدّفاع أثناء حرب الأيَّام السّتَّة في يونيو 1967م، الدَّور الأكبر في التَّشجيع على الدَّفع بالمشروع النَّووي إلى ميدان الصّراع مع العرب.
بدأت إسرائيل في التَّنقيب عن اليورانيوم في صحراء النَّقب عام 1948م، ليبدأ العمل في المشروع العام التَّالي، بدعم فرنسي، فيما اكتمل العمل على تأسيس مفاعل ديمونة عام 1957م بفضل الجهود الفرنسيَّة، الَّذي أُخفيت هويَّته في البداية وادُّعي أنَّه مصنع للنَّسيج. غير أنَّ هيئة الإذاعة البريطانيَّة أعلنت أنَّ الحكومة البريطانيَّة زوَّدت إسرائيل بـ 20 طنًّا من الماء الثَّقيل لدعم ذلك المشروع. واضطر بن غوريون إلى الاعتراف أمام الكنيست الإسرائيلي في عام 1960م بتشييد مفاعل ديمونة لأغراض سلميَّة، بعد نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيَّة معلومات موثَّقة عن سير العمل في المفاعل. أراد الرَّئيس الأمريكي الأسبق، جون كينيدي (يناير 1961-نوفمبر 1963م)، إخضاع مفاعل ديمونة إلى رقابة دوليَّة، لكنَّ بن غوريون راوغ ولم يكشف الحقيقة كاملة عن المشروع، مصرًّا على أنَّه سلمي. والمفارقة أنَّ فريق التَّفتيش الَّذي أرسله كينيدي لم يتمكَّن من إثبات قدرة المفاعل على إنتاج سلاح نووي، بعد أن أعدَّ الإسرائيليون غرفة تحكُّم شكليَّة لإخفاء المؤشّرات الحقيقيَّة للمفاعل. ويجدر التَّذكير بأنَّ كينيدي اغتيل في 22 نوفمبر 1963م، وكان لليهود دورٌ كبير في الاغتيال، وإن تعذَّر إثبات الأمر، لكنَّ في تولّي نائبه ليندون جونسون (نوفمبر 1963-يناير 1969م) شديد التَّعاطف مع إسرائيل إشارة قويَّة إلى ذلك، خاصَّة وأنَّه أوقف زيارات التَّفتيش الأمريكيَّة.
انكشف طبيعة أهداف مفاعل ديمونة التَّدميريَّة عام 1968م، على لسان عالم نووي إسرائيلي، مغربي الأصل، يُدعى موردخاي فعنونو، هرب إلى بريطانيا، وأدلى بتصريحات ناريَّة لصحيفة “صنداي تايمز” البريطانيَّة أوضحت حقيقة سلميَّة المشروع النَّووي الإيراني. بدافع من تعاطفه مع القضيَّة العربيَّة، ومن شعوره بالإهانة بعد معاناته من العنصريَّة بسبب أصوله الشَّرقيَّة، لجأ فعنونو إلى بريطانيا، معتقدًا أنَّها ستقدّم له الحماية؛ فكشف عن كثير من أسرار المشروع النَّووي الغامض، بعد سنوات من التَّكتُّم، مشيرًا إلى أنَّ إسرائيل أنتجت منذ تشغيل المفاعل عام 1963م وذلك الحين كمًّا هائلًا من الأسلحة النَّووية الجاهزة للاستخدام، بالإضافة إلى تصنيع أسلحة نوويَّة صغيرة الحجم يمكن نقلها في حقيبة أوراق صغيرة. والمفارقة أنَّ بريطانيا الَّتي لجأ إليها العالم النَّووي الإسرائيلي سهَّلت القبض عليه، ليُحكم عليه بالسّجن 18 عامًا بتهمة التَّجسس. أمَّا عن الأهداف الحيويَّة الَّتي يسعى مفاعل ديمونة إلى تدمير، هي، كما أشار فعنونو، السَّد العالي في مصر، وسدّ الفرات في سوريا والعراق، وكبرى المدن في مصر وسوريا والعراق والأردن والسَّعوديَّة وليبيا، إلى جانب المنشآت النَّفطيَّة في الخليج والعراق وليبيا.
تضيف الباحثة أنَّ إسرائيل واجهت مشكلة في الحصول على كمّ كافٍ من مادَّة اليورانيوم المشعَّة، بعد أن ثبت عدم كفاية رواسب الفوسفات في صحراء النَّقب لسدّ حاجات المشروع النَّووي الكبير. لجأت إسرائيل إلى ألمانيا الغربيَّة وإلى بلجيكا للحصول على اليورانيوم، بينما أمدَّتها أمريكا بالمعدَّات اللازمة لتجهيز مفاعلها، بل ونقلت لها كميَّات كبيرة من اليورانيوم المخصَّب. في مرحلة لاحقة، أصبحت دولة جنوب إفريقيا هي مصدر إسرائيل الجديد من اليورانيوم، هذا بالإضافة إلى الاستعانة بالسَّرقة من دول أوروبيَّة، كما تزعم الباحثة. كان بحوزة إسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973م 25 رأسًا نوويًّا، فكَّرت في إطلاق اثنين منها على القاهرة ودمشق في اجتماع وزاري ليلة 8 أكتوبر، لكنَّ القصد كان مجرَّد التَّهديد؛ لدفع أمريكا إلى التَّدخُّل لحسم الحرب لصالحها، وكذلك لردْع مصر وسوريا عن محاولة المضيّ في العدوان على إسرائيل والاكتفاء بما أنجزتاه في الأيَّام الأولى للحرب. جدير بالذّكر أنَّ إسرائيل لم توقّع على معاهدة عام 1968م للحدّ من انتشار الأسلحة النَّوويَّة، ولا على معاهدة عام 1972م الخاصة بحظر استخدام الأسلحة البيولوجيَّة، وبرغم عضويَّتها في الوكالة الدُّوليَّة للطَّاقة الذَّريَّة منذ عام 1957م، لا تسمح دولة الاحتلال الصُّهيوني بمراقبة مفتّشي الوكالة، التَّابعة في الأصل للأمم المتَّحدة، بزيارة مفاعلها النَّووي. وطالما راوغت إسرائيل بشأن مشاركتها في أي مؤتمر حول حظْر الأسلحة النَّوويَّة وأسلحة الدَّمار الشَّامل، وبمساعدة أمريكا، وبحجَّة القلق من المساس بأمن إسرائيل القومي، تلفت إسرائيل من فرْض الرّقابة اللازمة على مشروعها النَّووي. الأعجب أن تجد الإعلام الإسرائيلي ينتقد المطالبة المصريَّة عام 2015م بعقد مؤتمر إقليمي يناقش حظْر استخدام أسلحة الدَّمار الشَّامل في المنطقة، بزعم أنَّ المشروع النَّووي الإيراني أولى بالاهتمام.
كما سبقت الإشارة، لا يعتبر اليهود الشّيعة أعداءً لهم، وقد اعترف سياسيون إسرائيليون بأنَّ المشروع النَّووي الإيراني ليس لاستهداف إسرائيل، إنَّما لردع المحيط العربي السُّنّي وإخضاعه بالقوَّة القسريَّة لسطوة نظام الملالي، حينما يتقرَّر أن يسود العالم الإسلام. وكما ترى الباحثة، لم تستخدم إيران سلاحًا نوويًّا لإصابة أهداف إسرائيليَّة أو أمريكيَّة، ولكن سيُوظَّف مشروعها النَّووي في غرض آخر، وهو أن تصبح دولة الملالي “رأس الحربة العربيَّة، و …ملكة على العالم الإسلامي المندفع للحصول على الذَّرَّة”، ولعلَّ في ذلك ما يبرّر قلق إسرائيل، بينما هو في الحقيقة كابوس ينتظر العرب (صـ161). من اللافت أنَّ المشروع النَّووي الإيراني بدأ العمل عليه في عهد الشَّاه رضا بهلوي، في عام 1957م، نفس عام اكتمال تأسيس مفاعل ديمونة، وقد دُشّن ضمن إطار برنامج “الذَّرَّة من أجل السَّلام”، للرَّئيس الأمريكي الأسبق، دوايت أيزنهاور (يناير 1953-يناير 1961م). وفي عام 1967م، أُسس مركز طهران للبحوث النَّوويَّة، وزوَّدت أمريكا نظام الشَّاه حينها بمفاعل للأبحاث النَّوويَّة، بل وزوَّدته بكميَّة من اليورانيوم عالي التَّخصيب؛ إذ كان المشروع لأغراض سلميَّة، كان على رأسها توليد الكهرباء دون الاستعانة بالنَّفط، تحسُّبًا لنفاده. وكان شركاء إيران في مشروعها النَّووي نفس شركاء إسرائيل، وهم أمريكا وفرنسا وجنوب إفريقيا وبلجيكا، لكنَّ غالبيَّة تلك الشَّراكات انتهت بعد اندلاع الثَّورة الخمينيَّة ونجاحها مطلع عام 1979م. انسحب الشُّركاء الغربيون في مشاريع إيران المتعلّقة بإنتاج الطَّاقة بواسطة المحطَّات النَّوويَّة، بينما أوقفت أمريكا إمداد مركز الأبحاث النَّوويَّة في طهران باليورانيوم. في حين قرَّر نظام الملالي مواصلة الأبحاث في ذلك المجال، اعتمادًا على الخبرات المحلّيَّة.
استأنفت إيران أبحاثها في المجال النَّووي في زمن نظام الملالي، واستعانت بالخبرات السُّوفييتيَّة، بدلًا من الأمريكيَّة، في تطوير قدراتها في ذلك المجال، وذلك في مطلع تسعينات القرن الماضي. لم توقف أمريكا تضييقها على النَّشاط النَّووي الإيراني، سواءً من خلال فرْض العقوبات الاقتصاديَّة، أو إعاقة تطوير البرنامج الإيراني بالضَّغط على الدُّول الأخرى كي لا تمدَّ إيران بالمعدَّات اللازمة لدعم البرنامج، كما فعلت مع الأرجنتين بمنعها إتمام صفقة بقيمة 18 مليون دولار لتزويد إيران بمعدَّات لإنتاج الطَّاقة، وليس لتطوير سلاح نووي. والغريب أنَّ أمريكا أصرَّت على ذلك الموقف من إيران، برغم أنَّ إيران سمحت لمفتّشي الوكالة الدُّوليَّة للطَّاقة الذَّريَّة بزيارة مواقعها النَّوويَّة، ولم يجد المفتّشون ما يتجاوز حدود السّلميَّة في نشاطات مفاعل إيران. غير أنَّ إيران واجهت عام 2002م فضيحة تتعلَّق بنشاطها النَّووي، وردت على لسان عليّ رضا جعفر زادة، وكان متحدّثًا باسم جماعة انشقَّت عن المجلس الوطني للمقاومة في إيران، وهي أنَّ إيران كان لديها موقعان نوويَّان قيد الإنشاء حينها، وهما منشأة تخصيب اليورانيوم في مدينة نطنز، الَّتي يقع جزء منها تحت الأرض، ومرفق المياه الثَّقيلة في أراك.
تسرد الباحثة واقعة سُرّبت، ربَّما بهدف ترسيخ فرضيَّة وجود خلاف أمريكي-إيراني بشأن البرنامج النَّووي الإيراني، وهي أنَّ إيران، الَّتي أمدَّت أمريكا بكافَّة أنواع الدَّعم لغزو العراق عام 2003م، عرضت على أمريكا تسوية الخلافات بينهما وتطبيع العلاقات والحصول على ضمانات أمنيَّة، في مقابل التَّصريح بكافَّة التَّفاصيل المتعلّقة بالبرنامج النَّووي، والتَّوقُّف عن دعْم حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزَّة. غير أنَّ أمريكا لم تعلّق على ذلك العرض، الَّذي اعتُبر خدعة، في الوقت الَّذي رحَّب فيه نظام الملالي بالعرض، الَّذي نال مباركة آية الله عليّ خامنئي نفسه. يُؤخذ على إيران مراوغتها في نقْل الحقيقة كاملة عن طبيعة برنامجها النَّووي، بينما هو نفس فعل إسرائيل. لم تعارض إيران مبادرة تقدَّمت بها المملكة المتَّحدة وفرنسا وألمانيا في أكتوبر 2003م، تتعهَّد من خلالها إيران بالتَّعاون مع الوكالة الدُّوليَّة للطَّاقة الذَّريَّة في الكشف عن كافَّة ما يطرأ على برنامجها من تطوُّرات، بما في ذلك الإبلاغ عن استيراد اليورانيوم واستخدامه. وبرغم توقيعها على بروتوكول يُلزمها بتنفيذ تعهُّداتها، أحجمت إيران لاحقًا عن الالتزام وعلَّقت العمل بالبروتوكول في أكتوبر 2005م.
لم تتوقَّف إيران عن تخصيب اليورانيوم، كما لم تتوقَّف أمريكا عن فرْض العقوبات، حتَّى أصدر مجلس الأمن التَّابع للأمم المتَّحدة في 26 ديسمبر 2006م القرار 1737 بفرض مزيد من العقوبات، الَّتي تركَّزت على نقْل التّقنيات النَّوويَّة والصَّاروخيَّة. لم تردع العقوبات إيران أو تُثنها عن مواصلة مساعي تخصيب اليورانيوم، مصرَّةً على أنَّ أهدافها سلميَّة، حتَّى افتُتح مفاعل بوشهر النَّووي في 12 سبتمبر 2011م ليكون أوَّل محطَّة للطَّاقة النَّوويَّة في إيران، وكانت روسيا أكبر الدَّاعمين لتلك الخطوة. يُذكر أنَّ افتتاح مفاعل بوشهر كان بعد عام ونصف من إصدار القرار السَّادس لمجلس الأمن بشأن البرنامج النَّووي الإيراني، وهو القرار 1929، الصَّادر بتاريخ 9 يونيو 2010م، والَّذي نصَّ على فرْض حظْر كامل على إيران بشأن التَّسليح، ومنْع أيّ نشاط يتعلَّق بالصَّواريخ الباليستيَّة، ومصادرة أي شحنات تنتهك العقوبات المفروضة على نظام الملالي.
الاتّفاق النَّووي مع إيران ونتائجه
أبرمت أمريكا ومعها خمسٌ من الدُّول العظمى مع إيران عام 2013م معاهدة مبدئيَّة بشأن برنامج إيران النَّووي، سعيًا إلى إنهاء النّزاع طويل الأمد بين أمريكا وإسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر. وتشير الباحثة إلى رأي أدلى باحث إسرائيلي يُدعى افرايم اسكولا، في كتاب له تحت عنوان أزمة مصطنعة، يفيد بأنَّ أمريكا وإسرائيل دبَّرتا سويًّا مسألة استغلال إيران لبرنامجها النَّووي في تصنيع أسلحة دمار شامل، مضيفًا أنَّ أمريكا عملت على تحريض مجلس الأمن على معاقبة إيران؛ ليس لشيء سوى تبرير التَّدخُّل العسكري فيها. يُلاحظ أنَّ الباحث، الَّذي يتظاهر بالإنصاف والانتصار للحقّ، يستعرض الأزمة النَّوويَّة الإيرانيَّة بما يحضُّ على تأييد موقف إيران ويكشف ضمنيًّا عن مدى قوَّتها التَّي تهابها أمريكا وإسرائيل. بدأت الأزمة المصطنعة، كما يسمّيها عنوان الكتاب، عام 1984م، حينما فرضت أمريكا عقوبة على البرنامج النَّووي الإيراني وحظرت التَّعامل معه، في محاولة لإجبار نظام الملالي على التَّخلّي عن المشروع، لكنَّه آثر الصُّمود في وجه المؤامرة الأمريكيَّة-الإسرائيليَّة. يعتبر اسكولا أنَّ الأزمة النَّوويَّة الإيرانيَّة يمكن تقسيمها إلى 3 مراحل، تمتدُّ ما بين عاميّ 2002 و2013م؛ أمَّا عن المرحلة الأولى، فقد بدأت عام 2002م، حينما أُعلن عن تأسيس نظام الملالي لمفاعل نطنز لإنتاج سلاح نووي. انتهت تلك المرحلة عام 2008م بلا جدوى، بعد أن أجبرت أمريكا إيران على السَّماح لمفتّشي الوكالة الدُّوليَّة للطَّاقة الذَّريَّة بالاطّلاع على مجريات العمل في البرنامج النَّووي الإيراني، ولم يجد المفتّشون ما يدين إيران. وبدأت المرحلة الثَّانية من حيث انتهت الأولى، وامتدَّت حتَّى عام 2011م، وما حدث هو تسريب معلومات عن تطوير أسلحة نوويَّة في مفاعل إيران، واستغلَّت إسرائيل الواقعة في إثارة الرَّأي العام ضدَّ إيران وتبرير استهداف مواقع نوويَّة يُفترَض أنَّها سلميَّة الأهداف. يأخذنا ذلك إلى المرحلة الثَّالثة، الَّتي بدأت نهاية عام 2011م بشائعة عن امتلاك إيران قنبلة نوويَّة صنعها عالم سوفييتي، ثمَّ ثبت كالعادة كذب تلك الشَّائعة.
ويبدو أنَّ “الأزمة المصطنعة” الَّتي دُبّرت لإيران كانت لإشاعة الأقاويل عن تطويرها سلاحًا نوويًّا، ومن ثَّم إجبارها على إبرام الاتّفاق النَّووي الَّذي تقدَّمت به أمريكا، وانضمَّت إليه الصّين وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. بدأت المفاوضات بشأن ذلك الاتّفاق في نوفمبر 2013م، وانتهت بعد 21 شهرًا، ليُبرم الاتّفاق رسميًّا في يوليو 2015م، وكانت أهم نقاطه تقييد البرنامج النَّووي الإيراني، والتَّأكُّد من عدم استغلاله لأغراض عسكريَّة، وفرْض رقابة صارمة على المنشآت النَّوويَّة الإيرانيَّة، ووضْع قيود على مستوى تخصيب اليورانيوم، ومن ثمَّ رفْع العقوبات الأمريكيَّة وإنهاء حالة التَّضييق المفروضة على الاقتصاد الإيراني. لم يتضمَّن الاتّفاق بندًا يُجبر إيران على التَّخلّي عن مشروعها النَّووي بالكامل، وقد اعترفت إدارة أوباما، كما تنقل الباحثة، بأنَّ تفكيك المنشآت النَّوويَّة الإيرانيَّة كان بعيد المنال، لا سيّما مع الإصرار الرَّسمي على أنَّ هدف تلك المنشآت هو إنتاج الطَّاقة لأهداف سلميَّة بحتة. ومن ناحيته، أكَّد بنيامين نتنياهو أنَّ الاتّفاق النَّووي مع إيران بمثابة خطأ تاريخي ما كان ليتغاضى عنه، متعهّدًا بفعل ما بوسعه لإيقاف إيران النَّوويَّة عن حدّها. في حين أجمعت الصُّحف الإسرائيليَّة على أنَّ خطورة ذلك الاتّفاق تكمن في التَّقارب بين أمريكا وإيران، الَّذي كان قد يأتي على حساب العلاقات الأمريكيَّة-الإسرائيليَّة، وقد أُعزي إبرام ذلك الاتّفاق إلى توتُّر العلاقات بين أوباما ونتنياهو.
وبرغم البعبعة الإعلاميَّة الإسرائيليَّة والإدانة الشَّديدة لذلك الاتّفاق، فالباحثة ترى أنَّ إسرائيل كانت من أكبر من المستفيدين من الاتّفاق، وتعدّد نواحي الاستفادة الَّتي حقَّقتها الدَّولة اليهوديَّة، وعلى رأسها ضمان تجميد مساعي إيران لإنتاج سلاح نووي، إن وُجدت، لمدَّة 10 سنين، علاوة على إجبارها على تقليص كميَّة اليورانيوم المخصَّب. وإن خالفت إيران شروط الاتّفاق، كانت ستعرّض نفسها لعقوبات قاسية، وفي ذلك ما يضمن لإسرائيل أمنها وحصولها على الدَّعم، إن تعرَّضت لاعتداء من إيران. تضمن إسرائيل بموجب ذلك الاتّفاق عدم حصول إيران على سلاح متطوّر لفترة كافية، وفي ذلك مزيدٌ من التَّطمين لها على أمنها. علاوة على ذلك، كان إبرام الاتّفاق فرصة ذهبيَّة للتَّقريب بين إسرائيل والدُّول العربيَّة السُّنّيَّة الَّتي تهدّد إيران أمنها، لا سيّما دول الخليج العرب. وبالطَّبع، أتاح الاتّفاق لإسرائيل مطالَبة الإدارة الأمريكيَّة بتعويضات ماليَّة ومزيدًا من الدَّعم العسكري. وتجدر الإشارة إلى أنَّ إيران قد أعلنت في 23 فبراير 2021م انسحابها الكامل من البروتوكول الإضافي الَّذي كان يوفّر للمفتّشين الدُّوليين مساحة كبيرة من الحريَّة في متابعة سير العمل في المنشآت النَّوويَّة الإيرانيَّة.
(المصدر: رسالة بوست)