المشروع النَّووي الإيراني وحقيقة تهديده لأمن إسرائيل 4 من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
هل يختلف المشروع الصُّهيوني عن المشروع الصَّفوي في المنطقة؟
بما أنَّ إيران وإسرائيل تشتركان في الشُّعور بالتَّفوُّق على الجيران العرب، ترى كلُّ دولة أنَّها جديرة بفرض سيطرتها على محيطها وإخضاع الرّعاع والهمج من جيرانها، الَّذين يدينون لها بالفضل في التَّمدُّن والرُّقيّ. ليست إسرائيل وحدها المحاطة من كافَّة حدودها بأعداء من العرب السُّنَّة؛ فإيران كذلك محاطة بالأعداء أنفسهم، المخالفين لها في اللغة والعقيدة والثَّقافة. تواجه إسرائيل من الشَّمال والشَّمال الشَّرقي سوريا ولبنان، ومن الشَّرق الأردن، ومن الجنوب والجنوب الغربي مصر وغزَّة. حتَّى لو كانت الأنظمة الحاكمة للدُّول في محيط إسرائيل تربطها بدولة الاحتلال علاقات ودّيَّة، فالشُّعوب المسلمة من مواطني تلك الدُّول تعادي الدَّولة العبريَّة وتصرُّ على مقاطعتها. أمَّا إيران، ففي غربها دول العراق وتركيا، وشمالها أذربيجان وتركمنستان، ومن شرقها أفغانستان وباكستان، ومن جنوبها الغربي دول الخليج العربي. وكما يرى اليهود أنَّ شريعتهم تمنحهم الحقَّ في الاستحواذ على الأراضي الواقعة بين نهري الفرات والنّيل، يعتبر الشّيعة من ورثة الإمبراطوريَّة السَّاسانيَّة المجوسيَّة أنَّ لهم الحقَّ في أرض العراق، الَّذي كان جزءً من أراضي تلك الإمبراطوريَّة المجوسيَّة، وكذلك في أرض منطقة الخليج العربي.
وتنقل الباحثة عن رئيس الوزراء الإيراني الأسبق، حلينجي ميرزا، تصريحًا له يعود إلى عام 1840م، وجَّهه إلى وزير الخارجيَّة البريطاني، احتجاجًا على معاهدة أبرمتها بريطانيا مع البحرين، يقول “إنَّ الشُّعور السَّائد لدى جميع الحكومات الفارسيَّة المتعاقبة أنَّ الخليج الفارسي من بداية شطّ العرب إلى مسقط بجميع جزائره وموانيه وبدون استثناء ينتهي إلى فارس” (صـ84). وبعد تأسيس دولة الملالي عام 1979م، أصبحت مساعي استعادة الإرث المجوسي باسم الدّين، بعد أن وضَع روح الله الخميني مبدأ الحكومة الإسلاميَّة، في كتابه الَّذي يحمل الاسم ذاته (1970م)، والَّذي ينصُّ على أنَّ حكومة الملالي نواة لحكومة دولة عالميَّة يدين لها كافَّة المسلمين بالولاء. وقد عبَّرت صحيفة كيهان المقرَّبة نظام الملالي عن ذلك، بما نشرته عام 1982م “إنَّ الحكومة الإيرانيَّة هي المصدر الوحيد للشَّرعيَّة والقانون وإدارة شؤون المؤمنين، وإنَّ جميع الحكومات الأخرى هي شيطانيَّة، وإنَّ الحُكَّام الَّذين يرفضون الاستسلام للإمام يجب أن يُعاملوا بالسَّيف” (صـ84-85).
يتبيَّن من ذلك التَّصريح المثير للجدل أنَّ المشروع الإيراني الصَّفوي أشدُّ خطورة كثيرًا من المشروع الإسرائيلي الصُّهيوني؛ لأنَّ الأوَّل ليس له حدود، إنَّما يمتدُّ إلى كافَّة أنحاء العالم، استنادًا إلى عقيدة الإمام الثَّاني عشر وحُكمه للعالم بأسره، والسَّبيل إلى تحقيق ذلك هو نشْر المذهب الشّيعي أو فرْضه بالقوَّة. أمَّا المشروع الإسرائيلي، فهو يختصُّ بالأمَّة اليهوديَّة، ولا يقبل اليهود بسهولة دخول الأغيار إلى ديانتهم، بل ويظلُّ معتنقو اليهوديَّة من غير المنحدرين من نسل بني إسرائيل أدنى مرتبة من غيرهم. يُلاحظ أنَّ إيران، لا سيّما منذ حرب أمريكا على ما يُسمَّى “الإرهاب الإسلامي” في أفغانستان والعراق، ثمَّ تدخُّلها في سوريا، تُرسل أبناءها إلى كافَّة الَّتي بها أقليَّات شيعيَّة للاستقرار، بل ويصل الأمر أحيانًا إلى التَّهجير القسري للمواطنين السُّنَّة لتوطين آخرين من الشّيعة محلَّهم، وفيما يحدث في العراق وسوريا خير دليل. يُذكر أنَّ سياسة التَّهجير القسري تلك كانت هي الَّتي اتَّبعها اليهود في بداية هجرتهم إلى فلسطين في النّصف الأوَّل من القرن العشرين، وكان عرب فلسطين يُخيَّرون بين بيع بيوتهم والهجرة وبين القتل. وبرغم التَّشابه في تطبيق سياسة التَّهجير القسري، فإنَّ الطَّعنة الَّتي سدَّدتها إيران للعرب أشدُّ غدرًا؛ كونها من دولة تُحسب على الإسلام وتدَّعي مناصرة قضايا المستضعفين من أبنائه. وعلى عكس إسرائيل الَّتي اعتمدت على ميليشيات مسلَّحة في تنفيذ عمليَّات التَّهجير في فلسطين وحدها، تعتمد إيران على ميليشيات في الشَّام والعراق واليمن.
أصل العلاقات بين إيران وإسرائيل
تبدأ شريف استعراض تاريخ العلاقات الَّتي تربط الكيانين الصَّفوي والصُّهيوني باقتباس مقولة تُنسب إلى السّياسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، صرَّح بها عام 1987م، وقتما كان وزيرًا للدّفاع، تقول “إيران هي صديقة إسرائيل المفضَّلة، ونحن لا ننوي تغيير موقفنا بما يتعلَّق بطهران” (صـ91). ما يثير دهشة الباحثة أنَّ تلك المقولة خرجت من رابين بعد تأسيس دولة الملالي بقرابة عقْد من الزَّمان، وفي فترة دأب فيها الخميني على إلقاء خطابات ناريَّة يندّد فيها بإسرائيل ويهدّد بإبادتها. أمَّا عن أصل العلاقات بين اليهود والفُرس، كما كان يُعرف الإيرانيون في الماضي، فقد بدأت منذ فترة ما قبل الميلاد، حينما وجد اليهود في المجوس من أهل فارس الدَّعم والتَّأييد، بينما ناصبتهم كافَّة الأمم الأخرى العداء. يعتزُّ اليهود بدور الإمبراطور الفارسي، كورش، الَّذي أعادهم من السَّبي البابلي عام 539 قبل الميلاد، بعد أن عاونوه هم في إسقاط الإمبراطوريَّة البابليَّة. ليس بجديد الحديث عن إعادة بناء هيكل أورشليم، الَّذي عُرف بهيكل زربَّابل، نسبةً إلى زربَّابل بن شألتيئيل، رئيس الوفد الإسرائيلي العائد من بابل بعد تشبُّعه بعقائد المجوس وإتقانه صنوف الحيل والمكائد الفارسيَّة.
مرحلة الحُكم الإمبراطوري
وكما يخبر سفرا عزرا عن تفاصيل عودة بني إسرائيل من السَّبي وملابسات بناء الهيكل الثَّاني، يسرد سفر إستير ملمحًا من حياة بني إسرائيل في خلال سنوات السَّبي، ملقيًا الضَّوء على تخطيط أحد وزراء إمبراطور الفُرس، ويُدعى هامان، للتَّخلُّص من بني إسرائيل، لولا تدخُّل إستير، زوجة الإمبراطور، في الوقت المناسب لحماية أهلها. ولعلَّ في تخطيط الوزير هامان لإلحاق الأذى ببني إسرائيل دليلًا على تمثيلهم خطورةً شعر بها الوزير الفارسي. في الأزمنة الحديثة، نشأت علاقات قويَّة بين إيران الشّيعيَّة ودولة إسرائيل، الَّتي أُسّست عام 1948م، أي في عهد الشَّاه محمَّد رضا بهلوي، وكان من أشدّ الدَّاعمين لها، ومن أوائل المعترفين بها. ومن اللافت أنَّ الشَّاه بهلوي زار إسرائيل، تزامنًا مع ما يُسمَّى بعيد الاستقلال، عام 1950م، نفس عام الاعتراف الإيراني بدولة الاحتلال. وكما تشير الباحثة، أُجبر الشَّاه على التَّصريح بعلاقة بلاده بالدَّولة العبريَّة النَّاشئة بضغط من زعمائها، حيث كان يريد أن تستمرَّ العلاقات بين البلدين سرّيَّة. أمَّا عن قرار إغلاق القنصليَّة الإيرانيَّة في القُدس، فكان من قبيل المخادعة، إرضاءً لمشاعر المسلمين. كانت مهمَّة الشَّاه تسهيل هجرة اليهود الإيرانيين والعراقيين إلى إسرائيل، بينما كان على سياسيي إسرائيل دعْم موقف الشَّاه في الأوساط السّياسيَّة الغربيَّة، لا سيّما في أمريكا.
سرعان ما توطَّدت العلاقات بين إيران وإسرائيل، وبخاصَّة في المجال العسكري، انطلاقًا من تعرُّض الدَّولتين إلى عداء من خصم واحد، هو الجيران من العرب. استعان الشَّاه في أواخر ستّينات وأوائل سبعينات القرن الماضي من الخبرات التّقنيَّة والعسكريَّة الإسرائيليَّة، حيث كان الكيان الصُّهيوني يمدُّ نظيره الصَّفوي بخبرات في المجال الأمني. امتلأت التَّرسانة الإيرانيَّة الأسلحة الإسرائيليَّة، ووصل الأمر إلى حدّ التَّعاون في تصنيع الصَّواريخ. في حين أمدَّت إيران إسرائيل بالنَّفط من خلال مدّ خطّ أنابيب يصل إلى الأخيرة عبر البحر المتوسّط، وكان مصدرها الأساسي للطَّاقة خلال حربي 1967م و1973م. وكما ترصد الباحثة، امتدَّ التَّعاون بين الكيانين، المعاديين لأهل السُّنَّة والعرب بصفة عامَّة، إلى المجالين الزّراعي والصّناعي، وقد استفادت إيران من الخبرات التّقنيَّة الإسرائيليَّة في شتَّى المجالات حتَّى أصبحت دولة قويَّة لا يُستهان بقوَّتها، وبخاصَّة في المجال العسكري. يُضاف إلى ذلك استثمار رجال أعمال إسرائيليين أموالهم في البنوك الإيرانيَّة، وتعاوُن الطَّرفين في مجالات حيويَّة عديدة، وكان لذلك فضله في إخراج الكيانين من عزلتيهما في المنطقة؛ أي أنَّ التَّعاون الثُّنائي أغنى الكيانين عن التَّعامل مع الجيران العرب.
وجدت إسرائيل في إيران وتركيا وإثيوبيا ما يدعمها في مواجهة عداء الجوار العربي السُّنّي، بينما وجدت إيران في إسرائيل حليفًا يعزّز موقفها في أمريكا، ويحفظ لها توازُن علاقاتها مع الجوار ذاته، الَّذي اعتبرت أنَّه ليس من السَّليم معاداته في تلك المرحلة. كلَّف اعتراف الشَّاه رضا بهلوي بإسرائيل وارتباط دولته معها سياسيًّا واقتصاديًّا علاقته بالمحيط العربي، حيث أعلن نظام جمال عبد النَّاصر في مصر مقاطعته لإيران لذلك السَّبب؛ ولأنَّ مصر كانت رائدة العالم العربي ورأيها كان هو السَّائد، خشي بهلوي من تحريض مصر لدولة العراق، المتاخمة لإيران، لشنّ عدوان على دولته. غير أنَّ الموقف المصري تجاه إيران تغيَّر مطلع سبعينات القرن الماضي، بعد تولّي أنور السَّادات (1970-1981م) حُكم مصر بعد عبد النَّاصر، حيث أنهى تدريجيًّا التَّحالف المصري ع الاتّحاد السُّوفييتي، في مقابل التَّحالف مع أمريكا، الَّتي كانت تعتبر الشَّاه رضا بهلوي أخلص رجالها في المنطقة. استغلَّ السَّادات وثاقة العلاقات بين إيران وإسرائيل وأمريكا في الوصول إلى تسوية بشأن الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الأراضي المصريَّة، وكان للشَّاه دوره في التَّقريب بين طرفي النّزاع، والتَّنسيق من أجل زيارة السَّادات لإسرائيل في 1977م.
ومن المفارقات أنَّ الشَّاه رضا بهلوي كان يعمل على إخفاء تعاوُنه العسكري مع إسرائيل، حرصًا على عدم إثارة استياء الجيران العرب، لا سيّما العراق الَّذي أبرم مع إيران اتّفاقًا لتقاسُم مياه شطّ العرب. غير أنَّ الصّراع بين العراق وإيران سرعان ما تجدَّد بعد إبرام العراق صفقة للتَّسليح مع السُّوفييت، ليبدأ العراق في تهديد إيران وإسرائيل من جديد. وانتهزت إسرائيل الفرصة لدفع إيران إلى دعْم المتمرّدين الانفصاليين الأكراد لاستفزاز الجيش العراقي واستنزاف طاقاته. أحجم الشَّاه رضا بهلوي عن تنفيذ المخطَّط الإسرائيلي في بداية الأمر، لكنَّ الموساد الإسرائيلي أصرَّ على الدَّفع بالكيان الصَّفوي إلى ذلك الاتّجاه، مستغلًّا وجود عداء مشترك بين إيران والأكراد تجاه العراق. دعَّم رضا بهلوي الأكراد، برغم وجود نزعة انفصاليَّة لدى أكراد إيران، تنفيذًا للمخطَّط الصُّهيوني. ومن اللافت أنَّ برغم كلّ ما قدَّمه الشَّاه رضا بهلوي من خدمات لأمريكا وإسرائيل، لم تشفع له تلك الخدمات عند اندلاع الثَّورة الخمينيَّة، الَّتي أطاحت به من الحُكم، وأجبرته على الخروج من إيران بعد ما يقرب من 40 عامًا على رأس السُّلطة.
(المصدر: رسالة بوست)