بقلم غياث المدني
نَمُرّ اليوم بمرحلة حرجة في الراهن العربي، يتم فيها الالتفاف على منطق التاريخ، ومستقبل الأمة العربية، بتفصيل أنظمة ومفاهيم على مقاس الطبقة المسيطرة -الجماعات الحاكمة- ومنع الشعوب العربية من أن تقرر مصيرها، والعمل على إفشال أي محاولة لتكوين المجتمع المدني داخل الدولة الديمقراطية، مجتمع مكون من جميع الأطياف، بكل تناقضاتها الدينية والإثنية والمذهبية والقبلية، وخَلق الإبداع من هذه المكونات المتناقضة -كدولة مواطنة- وما نشهده حقًا أن أصبح هذا التنوع يستخدم كأوراق لخدمة مصالح جماعات سلطوية، ولحماية موقعها في الحكم، والوقائع تقودنا إلى أسئلة لا تُمرر دون الوقوف عندها، حتى لا نكون إمَّعة.
هل الاستقرار هو نقيضٌ للحريات؟ وهل الحرية هي الفوضى؟ لماذا ننادي بأن تكون الخطوة الأولى تحقيق الحريات المدنية؟ أليست هي ترف إنساني؟ في حين إن غاية التاريخ هي الدولة، وغاية الدولة الحرية “هجيل”. فهل تحققت غاية التاريخ لتتحقق غاية الدولة التي هي الحرية؟
بعد إفشال أول مراحل التحول الديمقراطي في الدول العربية، وجهود بعض الأطراف لتوسيع الهوة في الهوية العربية، لنشهد في بعض الدول حصول حالات من الانقسام في المكونات والتيارات، تطور لاحقا ليصبح انقساما في المذاهب وأحيانًا شهدت حالاتَ صراع إثني، أنتج هذا حالة من الفوضى لحقها ظهور للإرهاب كشماعة ومصدر لشرعية بعض الأنظمة الجديدة التي طرحت نفسها كملاذ آمن من مرحلة عدم الاستقرار التي نمر بها اليوم، في إعادة لإنتاج الأنظمة الشمولية والمستبدة السابقة؛ فإن “أسوأ أنواع الطغيان، خيرٌ من حالة الفوضى” (توماس هوبز القرن السادس عشر). وإنها -هذه الأنظمة- العلاج الوحيد من الإرهاب خاصة، ومشاكل الفوضى عامة، دون اعتبار للجذور التي شكلت الإرهاب، وإن العنف الذي استخدمته الأنظمة في قمع شعوبها هو أشد وأعتى أنواع الإرهاب على الحقيقة. وادعت هذه الأنظمة محاربتها للإرهاب لتحقيق الاستقرار لبلدانها، ثم طالبت بأن يجري إصلاح وتجديد في الخطاب الديني، لكي يستأصل التطرف من جذوره الفكرية، فكيف سيكون هذا التجديد؟
يأس من المستقبل المجهول، والإحباط من الهوية العربية التي لا تمنح أي معنى للحياة، في حين تستمر الجماعات الحاكمة والطبقة المسيطرة في نهب وسرقة البلاد، في تخلٍ تامٍ عن أي شعور بالمسؤولية الوطنية
إن أي حديث عن إصلاح في الخطاب الديني، يستدعي بنا ذكر مشروع الإصلاح الديني في عصر النهضة العربية، عبد الرحمن الكواكبي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، محمد رشيد رضا، علي عبد الرازق، وغيرهم من أعلام النهضة، وإنه من صلب القضايا التي طرحوها في مشروعهم؛ قضايا مثل: العدالة والحكم والدولة، ومناهضة الاستبداد والطغيان، وقضايا قد تهدد كيان هذه الأنظمة، والدعوة اليوم من الأنظمة التي تحارب الإرهاب لإصلاح الخطاب الديني، فهل هذا يناسبها أم هي دعوة “لإصلاح” على “مقاس” السلطة الحاكمة؟ لنتوصل في نهاية المطاف إلى زاوية واحدة أن الإرهاب شماعة، وفقاعة، وربما كان المصدر الوحيد للحصول على الشرعية، دون برنامج سياسي واضح أو خطة استراتيجية حقيقية، في إدارة البلاد.
هكذا، وقد تم إقصاء جميع التيارات الديمقراطية والليبرالية واليسارية، وطبعا الإسلامية، وحصلت عملية الإقصاء والتهميش بمنهجية عنيفة، هذا في ظل غياب الحريات الفكرية والسياسية، وجمود النشاط النقابي المؤثر، وقلة الأحزاب الحقيقية، وإنشاء أحزاب الديكور التابعة للجماعات الحاكمة، وإعلام السلطة الموجه، وفي جانب آخر زيادة في البطالة والفساد والرشوة والمحسوبية التي خلفتها الأنظمة البيروقراطية والفوضى المفتعلة لتحقيق مصالح سلطوية، في تناقض فاضح مع صيرورة التاريخ العربي المعاصر.
صدمة وخيبة أمل نتيجة لهذا كله -عودة بعض أشكال الأنظمة المستبدة- وبسببه، سادت اليوم حالة من الإحباط واليأس لدى أفراد المجتمع العربي، الذي كان يطمح إلى التغييرات والإصلاحات في موطنه، أن تصبح دولته أكثر تقدمًا. أن تكون دول مسؤولة عن مؤسساتها وعن مواطنيها، أن تعمل على استثمار الموارد الكبيرة المحلية، لا دول مستهلكة معتمدة على الآخر، تقمع مواطنيها وتزج بهم في السجون، حيث الشعور الدائم بالنقص أمام عصر التطورات والحداثة وما بعد الحداثة…
يأس من المستقبل المجهول، وشتم الماضي والحاضر، والإحباط من الهوية العربية التي لا تمنح أي معنى للحياة، في حين تستمر الجماعات الحاكمة والطبقة المسيطرة في نهب وسرقة البلاد، في تخلٍ تامٍ عن أي شعور بالمسؤولية الوطنية. عدم وجود معنى للحياة، والشعور بالعبثية والإحباط في المجتمع العربي، هذا يحتم علينا أن نركز على قيمة الحرية كقيمة إنسانية عليا، ضمن أولوياتنا اليوم، أو ما ينبغي علينا أن نكون -البشر أحرا- دون قمعٍ أو خوف، نحو تقرير مصيرنا.
السؤال؛ لماذا قيمة الحرية اليوم؟ إن الإحباط اليوم مشابه لحالة تاريخية، الحالة التي مرت بها بعض المجتمعات الأوروبية في القرن الماضي، فترة الحرب العالمية الثانية، وانبثقت أثناءها الفلسفة الوجودية، التي ارتكزت مبادئها على الحرية الإنسانية، لتجدد الأمل للإنسان البائس وخلاصه الواقعي وانتشاله من حالة العدم واللااستقرار. “البشر أحرار في كل الأحوال، وفي كل مكان وزمان” (جان بول سارتر).
(المصدر: مدونات الجزيرة)