مقالاتمقالات مختارة

المرجعية الشيعية في العراق: من الغيبة إلى السيستاني

المرجعية الشيعية في العراق: من الغيبة إلى السيستاني

بقلم معتز ممدوح

منذ احتلال العراق في العام 2003، برز الدور السياسي للمرجعية الشيعية في النجف، وبرز اسم آية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الديني الأكبر للشيعة الاثني عشرية في العراق وحول العالم بوجه عام، وصار الجميع يسأل عند كل حدث كبير يجري في العراق، ما هو موقف مرجعية النجف مما يحدث؟

لم تكن الانتفاضة الأخيرة في العراق خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2019، وهي الانتفاضة التي ما زالت قائمة، استثناءً من تلك الأحداث التي برزت فيها المرجعية بوصفها ملاذًا ومركز ثقل رمزيًّا واجتماعيًّا في العراق. وقفت المرجعية بجانب المتظاهرين، على عكس ما توقع البعض، ودعت البرلمان إلى سحب الثقة من الحكومة الحالية بقيادة عادل عبد المهدي.

ما هو مفهوم المرجعية لدى الشيعة الإمامية؟

يحتاج استيعاب مفهوم المرجعية الدينية لدى المذهب الشيعي الاثني عشري، إلى فهم التطور التاريخي لذلك المذهب، وفهم المراحل التي مر بها على المستويين الفقهي والمؤسسي، فبنية المؤسسة الدينية التي يتمتع بها ذلك المذهب تختلف عن تلك التي لأهل السنة والجماعة الذين لا يوجد لديهم مؤسسة دينية بالمعنى المعروف لدى الديانات الإبراهيمية المسيحية واليهودية من جهة، ولدى بعض المذاهب الإسلامية الأخرى كالمذهب الشيعي الاثني عشري والشيعة الإسماعيلية من جهة أخرى.

المرحلة الأولى في تشكل المذهب الشيعي الاثني عشري في هذا السياق، كانت هي عصر حياة الأئمة المعصومين الأحد عشر بحسب المذهب، بدءًا من الإمام علي بن أبي طالب إلى الحسن العسكري والد الإمام محمد المهدي الذي غاب غيبة صغرى منذ مولده في عام 260هـ، واختفى لمدة 75 عامًا بحسب العقيدة الشيعية، اتصل فيها بأتباعه عن طريق مجموعة من رجاله عرفوا باسم «السفراء الأربعة»، ثم غاب الغيبة الكبرى منذ عام 329 هـ حتى يومنا هذا، وينتظر الشيعة الاثني عشرية عودته مرة أخرى مجددًا في آخر الزمان.

جدير بالذكر أن هؤلاء السفراء الأربعة ليسوا هم الوحيدين الذين ادَّعوا أنهم هم :«الباب» للإمام الغائب، أيًّا كانت هوية هذا الإمام، حيث انقسم المذهب الشيعي ذاتيًّا على نفسه، على امتداد تسلسل الأئمة، حيث ادَّعى آخرون الدعوى نفسها، فهناك من توقف في الترتيب عند جعفر الصادق وتبنى ترتيبًا وتسلسلًا آخر من الأئمة من بعده، وهناك من توقف عند موسى الكاظم، وهكذا. ومن هنا جاء التفرع والتعدد العقائدي والسياسي الكبير والمعقد داخل التشيع المبكر، قبل أن تضيق دائرة التشيع المذهبي وتنحصر في فرقه المعروفة اليوم، وعلى رأسها الشيعة الاثني عشرية.

كان السفراء الأربعة في المذهب الاثني عشري على التوالي هم:

1. عثمان بن سعيد العمري المكنَّى بأبي عمرو السمَّان: تستَّر على دعوته السرية بعمله الظاهر في بيع السمن، وكان يخفي أموال «الخمس» التي كان يدفعها الشيعة للأئمة من آل البيت في وعاء بضاعته.

2. محمد عثمان بن سعيد العمري، وهو ابن أبي عمرو السمان، وتولَّى السفارة ردحًا طويلًا من الزمن، بدءًا من عام 265 هـ حتى عام 305هـ، أي حوالي 40 عامًا.

3. الحسين بن روح النوبختي، وتولى السفارة من عام 305هـ حتى 326هـ.

4. علي بن محمد السَّمَري، وهو آخر السفراء، ولم يوصِ بعده بالسفارة لأحد، ولذلك انتهت بوفاته في عام 329هـ عصر الغيبة الصغرى.

بعد نهاية عصر الأئمة وعصر السفراء الأربعة خلال الغيبة الصغرى، بدأ عصر الغيبة الكبرى، وهنا حل العلماء والفقهاء من الشيعة محل الأئمة، سواء في الرجوع إليهم في الفتاوى في أمور الدين والدنيا، أو في تلقي أموال الأخماس، ولا يبلغ من الدارسين تلك المرتبة إلا من بلغ مرتبة الاجتهاد، وهؤلاء من يطلق عليهم لقب «آية الله العظمى».

تاريخ المرجعية الشيعية في العراق

في كتابه «المرجعية الدينية العليا عند الشيعة الإمامية»، يروي المؤرخ والباحث العراقي جودت القزويني تاريخ المرجعية الشيعية في عصر الغيبة الكبرى، ونشأة الحوزات العلمية في بغداد والنجف والحلة وجبل عامل وقم.

يبدأ القزويني سرده من العصر العباسي الثاني الذي شهد ضعفًا غير مسبوق في سلطة الخلافة الإسلامية التي سيطر على عاصمة حكمها سلالة بني بويه الشيعية؛ الأمر الذي وفر مناخًا ملائمًا لازدهار التشيع الذي تبلورت أفكار مذهبه الإمامي خلاله على يد الشيخ المفيد المتوفَّى عام 403هـ، حيث ألَّف الأخير المصنفات الرئيسية التي أسست للمذهب في العقيدة وأصول الفقه، وتعلم على يديه أبرز العلماء والمراجع الشيعة كالشريف المرتضى وأخوه الشريف الرضي والطوسي.

بعد سقوط دولة بني بويه وصعود السلاجقة في الدولة العباسية، ضاق المجال لفترة من الزمن أمام التشيع، إلا أن اعتناق المغول الإسلام الشيعي بعد غزوهم للعالم الإسلامي، أدى إلى ازدهار التشيع من جديد بعد انحساره، وتطور الحوزات العلمية، ولا سيما حوزة مدينة الحلة في العراق.

بعد سقوط دولة المغول، ضعفت حوزة الحلة، وبدأ نجم حوزة جبل عامل في لبنان في الصعود، ويعد خريجي حوزة جبل عامل من أهم أعوان الدولة الصفوية التي تبنت التشيع وفرضته كمذهب رسمي في إيران.

خلال القرن الثامن عشر الميلادي، بدأت الحركة العلمية في مدينة النجف في الازدهار على يد السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء، كما ارتفعت مكانتها السياسية أيضًا، حيث استطاعت الحوزة في ذلك الوقت التوسط بين الدولتين القاجارية في إيران والعثمانية في تركيا، وتسوية الخلاف بينهما بتدخل من الشيخ موسى بن جعفر.

لعبت حوزة النجف أيضًا منذ مطلع القرن العشرين، أدوارًا سياسية كبيرة، من أبرزها دعمها الحركة الدستورية في إيران في عام 1906، وفي تدشين العديد من المنظمات السياسية والسرية في العراق الحديث، مثل منظمة الشباب المسلم وحزب الدعوة الذي كان تحت مرجعية السيد محسن الحكيم، وبقيادة محمد باقر الصدر الذي يعد أحد أهم المفكرين الإسلاميين الشيعة في القرن الماضي.

ازدادت أهمية الحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية بعد اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979، وارتفعت كل من مكانتها الدينية والسياسية، بعد سيادة نظرية «ولاية الفقيه» في إيران، وتحول المرشد الأعلى للنظام هناك إلى مرجعية دينية للكثير من الشيعة الاثني عشرية حول العالم.

بين قم والنجف

يقول السياسي ورجل الدين الشيعي العراقي إياد جمال الدين، في حوار صحفي مع موقع  قنطرة، إن إيران خلال عهد الجمهورية الإسلامية كان هاجسها المستمر هو الحوزة والمرجعية، لأن النظام هناك يقوم على نظرية ولاية الفقيه، ولذلك يخشى رموزه من صعود مرجعية شيعية اجتهادية أخرى، تقوِّض الأساس النظري لمرجعية الولي الفقيه في طهران من خلال رمي تلك النظرية بالبدعة أو ما شاكل، ولذلك سعت الجمهورية الإسلامية دومًا للسيطرة على حوزتي النجف وقم.

حتى عام 1992، كانت الحوزة العلمية في النجف تحت رئاسة السيد أبي القاسم الخوئي، المرجع الشيعي الأكبر للملايين من معتنقي المذهب الشيعي الاثني عشري حول العالم. بعد وفاة الأخير، انتقلت المرجعية إلى السيد علي السيستاني الذي ترأس الحوزة من ذلك التاريخ حتى اليوم.

 لوقت طويل، سادت حالة من التنافس الصامت والمكتوم بين مرجعيتي النجف وقم، حتى بدأت الاحتجاجات الهائلة التي يشهدها العراق اليوم، وهي التي أبرزت الخلاف بين المرجعيتين بشكل ظاهر وفج بسبب دعم مرجعية النجف للاحتجاجات، واتهام المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي خامئني للمتظاهرين، في الوقت نفسه، بأنهم تحركهم أجندات غربية.

يطرح الخلاف الراهن بين مرجعية النجف وإيران تحديًا كبيرًا على النخب السياسية والدينية الشيعية في إيران والعراق وصولًا إلى لبنان الذي يشهد هو الآخر احتجاجات ضخمة مناوئة لحزب الله ولطهران في الوقت الراهن، ويطرح تساؤلًا حول مدى حدود الولاية السياسية للولي الفقيه في إيران في المجتمع الشيعي العربي في العراق ولبنان، في ظل الانتفاضة الشعبية الراهنة ضد الفساد الشديد للنخبة السياسية في كلا البلدين.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى