بقلم د. محمد عياش الكبيسي
إن أهل السنّة يمثلون المجتمع المدني المبسّط الخالي من التعقيدات الأيديولوجية والمذهبية والتصورات الطوباوية أو الميتافيزيقية، فنظام الحكم عندهم ليس سوى وسيلة لإدارة البلاد بالإمكانات الطبيعية والواقعية، وبحسب ما تمليه الظروف والملابسات التاريخية، ليس عندهم (إمام معصوم) ولا (نائب عن الإمام) ولا (ولاية فقهية) أو (مرجعية دينية).. ولا حتى سياسية؛ بل مرجعيتهم السياسية إنما هي الدولة: دولة علي بن أبي طالب، أو دولة معاوية بن أبي سفيان؛ دولة الأمويين أو دولة العباسيين، لا تعنيهم -من الناحية السياسية- هذه الأسماء والألقاب كثيراً، حتى وإن كانوا في الناحية الدينية أو الثقافية يميلون لهذا دون ذاك أو لذاك دون هذا.
قلت لصاحبي: انظر مثلاً إلى مدى إعجاب أهل السنة بالإمام أحمد بن حنبل، حتى إنهم في فتنة (خلق القرآن) انحازوا كلهم لموقفه ضد المأمون والمعتصم، ولم يجاملوهما في ذلك؛ لكنهم في السياسة بقوا متمسكين بهما أكثر من غيرهم، وسيّروا جيوشهم إلى عمورية خلف المعتصم رغم ما بينه وبين ابن حنبل من خلاف حادّ، ولا يزال أصغر تلميذ لأهل السنّة يمجّد المعتصم كما يمجّد أحمد بن حنبل! وأقسم لك، لو أن ابن حنبل نهاهم عن السير خلف المعتصم لما أطاعوه، إنهم يفرّقون بشكل واضح بين الاجتهاد الديني وبين الموقف السياسي أو الإداري.
الأغرب من هذا أنهم حتى في الجانب الديني البحت لا يستسلمون لمرجعية واحدة مهما كانت، فانظر مثلاً إنهم رغم شدة تمسّكهم بموقف أحمد بن حنبل فإنهم لم يتحولوا إلى حنابلة، فأهل بغداد هم من احتضن ابن حنبل لكنهم ظلوا متمسكين في الفقه بمذهب أبي حنيفة، وكأنهم يفرّقون بين التخصصات فهم في مواجهة المعتزلة حنابلة، وفي حياتهم الفقهية التفصيلية أحناف، وحتى حينما ظهر الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي امتلك قلوب العباد هناك ودان له الناس حتى أصبح إمامهم بلا منازع إلا أن هذه الإمامة بقيت منحصرة في الجانب الروحي والتربوي، ولم يتحولوا إلى مذهبه الفقهي. وهذه في الحقيقة تحتاج إلى وقفات طويلة، فأهل بغداد كانت لهم مقاييسهم ومعاييرهم الدقيقة والمنضبطة، فهم يعرفون متى يقفون مع المعتصم، ومتى يقفون مع أبي حنيفة، ومتى يقفون مع أحمد بن حنبل أو الشيخ عبدالقادر، ولا تطغى عواطفهم وأمزجتهم مهما بلغت على هذه المعايير.
إن أهل السنّة يتصرفون باعتبارهم أمّة وباعتبارهم دولة مدنية متحضرة تستعلي بشكل واضح على الانحيازات والتخندقات الضيقة، إنهم ينظرون إلى كل تلك التجارب السياسية والاجتهادات الفقهية والمدارس التربوية على أنها تجارب منبثقة من جسد الأمة وتربتها وظروفها وليست مستوردة من الخارج، وبالتالي فعلى الأمة أن تعترف بهذه التجارب ولا تتبرأ منها مهما كان فيها من تفاوت أو تناقض، وعليها أن تستفيد منها بلا تقديس ولا تدنيس. وأعتقد أن هذا هو السلوك المنطقي والطبيعي لكل أمم الأرض، فلا توجد أمة محترمة تتبرأ من تاريخها أو تراثها مهما كان فيه من أخطاء، ولا توجد أمة محترمة تسلّم كل أمورها لشخص واحد أو جهة واحدة.
قلت لصاحبي أخيراً: اصنعوا تجربة محترمة، وأقيموا دولة تضمن الحد الأدنى من العدل والكرامة والشراكة الفاعلة، وسترون أن أهل السنّة أخلص لكم من غيرهم.
(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)