المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية “1”
إعداد أكرم حجازي
البداية
في ذروة اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، وفي خضم الغزو «الإسرائيلي» للبنان سنة 1982، طلب العراق من إيران وقف إطلاق النار للتفرغ لمواجهة الغزو ومساعدة الفلسطينيين ولبنان. لكن ما حصل أن الخميني « جمع خطباء المساجد وأجهزة إعلام نظامه وأركان حكومته وخطب فيهم قائلا: إن ما يحدث في لبنان ولاسيما بعد احتلال إسرائيل لتلك البلاد إنما هي مؤامرة لصرف أنظاركم إلى تلك المنطقة المنكوبة والتقليل من شأن الحرب مع العراق. إن الحرب الكبيرة هي الحرب مع العراق، وأما الحرب مع إسرائيل فإنها الحرب الصغيره. فلذلك لا تلهيكم الحرب الكبيرة عن الصغيرة»[1]. وبعد نحو ثلاثين عاما تعرض العراق لغزو أمريكي – دولي سنة 2003، انتهى بتسليمه إلى الشيعة وإيران التي هيمنت طائفيا وأمنيا وسياسيا وعسكريا عليه. وبعد أقل من عقد على الاحتلال اندلعت الثورات العربية، فرحبت بها إيران، على لسان مرشد الثورة، علي خامنئي، باعتبارها استجابة ونتاجا لروح ومبادئ «الثورة الإسلامية» في إيران. لكن ما أن انفجرت الثورة السورية حتى غدت « مؤامرة». لكن إيران التي انصرفت عن « مؤامرة» الغزو «الإسرائيلي» للبنان، لم تنصرف عن «مؤامرة» الشعب السوري على النظام، بل أباحت لقواتها وميليشياتها أن تحط رحالها في سوريا، لتلحق بها أدواتها من لبنان والعراق ومعها شتى مرتزقتها من أنحاء العالم، رفضا للثورة ودعما للنظام النصيري فيها، صاحب أيديولوجيا «بلد الأحرار» و «أرض الثورة والثوار» و «الصمود والتصدي»، و «المقاومة والممانعة». ثم شرعت في التمدد علانية حتى أحاطت بالجزيرة العربية عبر اليمن من جنوبها.
على امتداد هذه الرحلة الطويلة من التوغل الإيراني في كل اتجاه من الأرض إلا أن إيران لم تتجه نحو فلسطين، رغم أنها باتت تطل عليها من كل جانب!!! بل أن ثورة الخميني بدت على هدى وهي في طريقها صوب العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان والبحرين والكويت والسعودية وحتى «إسرائيل»، لعقد صفقات الأسلحة، خلال الحرب العراقية الإيرانية، إلا أنها ظلت على الدوام تضل الطريق نحو فلسطين!!! فما الذي يجعلها على هدى في كل مكان بينما يحيط بطريقها الضلال من كل جانب حين يتعلق الأمر بفلسطين؟
الحقيقة أن ما يمنع إيران من التوجه إلى فلسطين هو الذي يسمح لها بالتوجه إلى أي مكان آخر. فليس في فلسطين ما هو مقدس لدى الشيعة كما هو الأمر بالنسبة لعامة المسلمين حيث المسجد الأقصى مسألة واقعة في صميم العقيدة والدين، بينما الأرض المقدسة، في عقائد الرافضة، خارج أية حسابات بما أن المسجد الأقصى في السماء وليس على الأرض أو لأن هناك من هو أفضل منه. ولما تكون كربلاء والنجف أقدس من مكة فمن
الأولى، بالمحصلة وكما تقول عقائد القوم، أن يكون مسجد الكوفة أقدس من المسجد الأقصى[2].
في بداية الثورة السورية اختطفت المخابرات السورية الطفل حمزة الخطيب في 25/5/2011، وقتلته بأبشع طريقة يمكن تصورها، حتى بدا الطفل وكأنه وضع في فرن وشوي شويا. كانت الجريمة تتويجا لسلسلة من الجرائم التي أثارت سؤالا كبيرا في حينه: هل هؤلاء القتلة من البشر؟ وكسوسيولوجيين وخبراء في التحليل النفسي، لم نجد في حينه، تفسيرا موضوعيا لمثل هذه التصرفات البالغة التوحش، لاسيما وأن الأمة، إلا من رحم الله، ظلت تجهل ماهية « النصيرية» أو « الرافضة» إلى حين وقوع الثورة السورية التي لم تبق مستورا إلا فضحته.
وفي الثورة السورية أيضا؛ تناقلت وسائل الإعلام في الأيام الأولى من انطلاقتها صورا لنصيريين في لبنان يسجدون للرئيس السوري، بشار الأسد. ومشاهد مرئية لمعتقلين يجبَرون على قول عبارة: « لا إله إلا بشار». وبدا هذا السلوك لدى المسلمين وكأنه من باب المبالغة في الولاء. لكن مثل هذه المشاهد، التي لم يسبق أن شاهد المسلمون لها مثيلا في أوقات سابقة، أخذت تتكرر تباعا. وعلى الفور؛ لجأنا إلى الاستعانة بالتحليل العقدي، إلى جانب التحليل الموضوعي، علّنا نجد إجابة لما استعصى علينا من فهم، فكانت المفاجأة. إذ بدا لنا بالأدلة القاطعة، ومن عقائد القوم، أنه ما من سلوك وحشي أو مستهجن إلا ونجد له فيها جوابا صريحا لا لبس فيه. بل أن مجمل السياسات السورية في الأربعين سنة السابقة على الثورة، تجاه الدولة والمجتمع والفرد، محليا وخارجيا، غدت واضحة! فقط؛ بعد الاطلاع على عقائد « النصيرية».
السؤال: إذا كنا بصدد تتبع السياسات الإيرانية في المنطقة، فهل يمكن فهمها بدون التوقف عند عقائد الرافضة؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن الفصل بين السياسات والعقائد؟ أو إلى أي حد تبدو المخرجات السياسية ترجمة لمثل هذه العقائد؟
لا ريب أن الكثير من العلماء والمؤرخين المسلمين والباحثين كتبوا وشرحوا وفسروا بالأدلة القاطعة، واستدلوا فقط من مصنفات القوم أنفسهم، على أن «الرافضة»، وما تفرع عنها من فرق باطنية دموية، لم تكن في يوم ما إلا معول هدم للإسلام، ومصدرا للزنادقة، وحليفة للأعداء والخصوم والمتربصين والماكرين، سواء كانوا من اليهود أو المجوس أو الوثنيين أو الملاحدة، مثلما كانت على الدوام نصيرة لغزاة العالم الإسلامي من الصليبيين والمغول والتتريين والصفويين وغيرهم. وحتى اليوم لا يوجد سبب واحد، أياًّ كان محتواه، يبرئ إيران « المجوسية» من تراثها العقدي أو التاريخي أو السياسي بقدر ما تبدو الوقائع والحقائق تكرر نفسها،
وتتماهى بتطابق لا مثيل له مع مقولة « التاريخ يعيد نفسه».
في هذا البحث سنحاول، بأقصى قدر ممكن، أن نتجاوز عما قدمه لنا الأولون من بيان تفاصيل عقائد القوم. لكننا، وبغية بيان واقع وخلفيات السياسة الإيرانية وأهدافها ومآلاتها، سنعمد إلى مقاربة الخطاب السياسي والإعلامي، عقديا وتاريخيا وسوسيولوجيا وسيكولوجيا. وفي المحصلة سنقف على ما يبدو لنا مربطا صفويا يجري إعداده دوليا، بديلا عن « المربط الأمني النصيري» في الشام، لكنه أوقع أثرا حتى من « المربط اليهودي» في بيت المقدس. أما لماذا هو بهذه الخطورة؟ فلأنه، كعادته تاريخيا، يتوجه دائما إلى « الداخل الإسلامي» برمته، بحيث يغدو « المربط اليهودي» بجانبه أقل جدوى منه بما لا يقارن. فإنْ نجح النظام الدولي بتوطين هذا المربط، لا قدر الله، فستكون له نتائج بالغة الضرر، كونه يتواجد في قلب العالم الإسلامي، عبر الديمغرافيا الشيعية، التي تشكل مادته الأولى في الانتشار والتأثير والاستيطان الاجتماعي، بخلاف « المربط اليهودي» المتحصن وراء الجُدُر، الصريح عدائيا، والمكشوف عقديا، والمعزول اجتماعيا، بما يوافق عقلية « الغيتو» عند « اليهودية» التي لم تُجِد أصلا، في كل تاريخها، الجوار الثقافي حيثما تواجدت، رغم إيمانها بـ « التقية» كإيمان « الرافضة» بها.
وتبعا لذلك، سيكون لدينا على امتداد البحث أربعة مباحث مركزية، هي:
- المبحث الأول: ماهية عقائد الرافضة ومرجعياتها
- المبحث الثاني: تاريخية العداء والحقد الفارسي المجوسي
- المبحث الثالث: البعث الفارسي
- المبحث الرابع: التوسع
[1] د. موسى الحسيني، « الثورة البائسة»، 1983، طبعة لوس أنجلوس، الولايات المتحدة الأمريكية، ص 207،125.
[2] بحسب المجلسي فإن: « القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه والمسجد النبوي إلى أساسه»، ( بحار الأنوار 52/338 والغيبة للطوسي/282). وبالنسبة للعياشي: «عن أبي عبد الله قال: سألت عن المساجد التي لها الفضل فقال: =
المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قلت: والمسجد الأقصى جعلت فداك؟ قال: ذاك في السماء، إليه أسرى برسول الله عليه وسلم، فقلت: إن الناس يقولون إنه بيت المقدس فقال: مسجد الكوفة أفضل منه»، ( تفسير الصافي3/166). أما ابن بابَوَيه القمي فيقول: « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله ومسجد الكوفة»، ( الخصال/137). ويروي الشيخ المفـيد عن أبي بصير قوله: « قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا قام القائم هدم المسجد الحرام حتّى يردّه إلى أساسه، وحول المقام إلى الموضع الذي كان فـيه، وقطع أيدي بني شيبة وعلقها بالكعبة، وكتب عليها: هؤلاء سرّاق الكعبة»، ( إرشاد 2 /383).
(المصدر: رسالة بوست)