مقالاتمقالات مختارة

المراجعات.. فقه الإسلاميين الغائب

بقلم عصام القيسي – مدونات الجزيرة

هل بات الإسلاميون اليوم يفكرون في إجراء مراجعات جادة للفكر والمنهج والأصول، بعد كل هذا الذي جرى لهم؟. هل لديهم الاستعداد النفسي والأخلاقي للقيام بذلك؟!. وقبل ذلك: هل وصلوا إلى قناعة بأن الخريطة التي بأيديهم لا توصل إلى الكنز؟، أم يستمرون في ترديد مقولتهم المأثورة: إنه الابتلاء فطوبى للغرباء؟!

أعني هل أدركوا أخيراً الفرق بين طبيعة الابتلاء وطبيعة الفشل؟، هل يضعون خانة في أجندتهم لهذا الاحتمال الأخير؟!. هذه أسئلة سيجيب عنها المستقبل.
ربما كان موقفنا نحن المتعاطفون مع تيار الإسلاميين أكثر تعقيداً وحرجاً من منتسبيه؛ لأننا من ناحية مؤمنون بأن هذا التيار يضم أسطولاً من خيرة أبناء الأمة، الذين يمكن التعويل عليهم في حركة التغيير والنهوض، لنبل مقاصدهم وصدق نواياهم وقوة عزائمهم. فهم بمثابة “الكتلة التاريخية” للتغيير – أو نواتها الصلبة – كما تحدث عنها بعض منظري اليسار. لكننا من ناحية أخرى نعي بوضوح أن البناء النظري والفلسفي لهذا التيار هو أشبه بالعشوائيات في حزام مدينة القاهرة!. والعقل بهذه الصورة لا يمكن أن ينتج واقعاً جميلاً.
صحيح أن هذه العشوائيات تشعر سكانها بالدفء والحميمية، نتيجة لتقارب مساكنها، وانفتاحها على بعضها، كما لا تفعل المدن المخططة، إلا أن هذه العشوائيات ليست مكاناً مثالياً للسكنى، ومشكلاتها أكثر من ميزاتها، وبقاؤها يهدد الجميع بانتشار الأوبئة أو بالخسائر الكبيرة الناتجة عن الكوارث الطبيعية. والأوبئة هنا هي المعادل الرمزي للأوهام والأخطاء التي تتراكم في عقل الجماعة وسلوكها، والكوارث الطبيعية هي المعادل الرمزي للمصائب التي تقع عليها بفعل انخراطها في الفعل السياسي الذي يهدد مصالح القوى المتوحشة.
والحركة النقدية مع هذه الجماعات تشبه حركة عربات المطافي وسيارات الإسعاف في مدن العشوائيات عند وقوع كارثة الحريق أو الزلزال. فمن الصعب الوصول إلى الهدف في الوقت المناسب، إن لم يكن مستحيلاً في أغلب الأحيان. هذه الطرق الضيقة والمقطوعة في العقل الجمعي لهذا التيار تمنع أي حركة نقدية من الوصول إلى هدفها النبيل والضروري.
بل لعل الصورة المجازية الأكثر تمثيلاً لهذه الحالة هي صورة مشروع البلدية الرامي إلى تطوير هذه العشوائيات وتخطيطها. فعلى الرغم من أهمية هذا المشروع (النقدي)، إلا أنه في الغالب سيقابل بالرفض من قبل سكان هذه العشوائيات، بحجة أنه سيحطم منازلهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم. وهم غير مستعدين لسماع أي وعد بالتعويض العادل من قبل الدولة، لأنهم لا يثقون فيها أصلاً!. وهكذا تبوء كل محاولة نقدية لهذا التيار بالفشل.
ولهذا نتلقى نحن المتعاطفون مع التيار الإسلامي الكثير من اللوم من قبل خصومه المتعصبين، بدعوى أننا نزوِّر الطريق أمام المرتداين حين نوهمهم أن بإمكان سكان العشوائيات أن يبنوا ناطحات سحاب، وحدائق تسحر الألباب. فنرد عليهم بالقول إنكم يا معشر اللائمين لا تعطوننا بدائل أكثر منطقية وجدوائية من هذه التي تريدون هدمها، ومَثلُ الإسلاميين عندنا كمثل رجل صالح في المدينة لكنه أعشى، ويصر على الذهاب فجر كل يوم إلى المسجد لأداء الصلاة، لكنه دائماً ما يقع في حفر الطريق ومجاريه، فتفسد طهارته وتتسخ ثيابه، ويعود أدراجه، فلا هو الذي صلى حيث يريد ولا هو الذي حافظ على نظافته!. وهذا هو حال الإسلاميين في سعيهم إلى بناء المجتمع والدولة اللائقين بالعرب والمسلمين. مع تحفظنا بالطبع على أجزاء كثيرة من صورة هذه الدولة وذلك المجتمع. وهذه التحفظات هي جزء من ملاحظاتنا النقدية على فكر الجماعات الإسلامية ومنهجها.
إن مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه هذا الأعشى – الذي تحتاج المدينة إلى صلاحه وطهارته – أن نساعده في الوصول إلى هدفه النبيل إن استطعنا. لكن الأهم من ذلك هو أن نساعده على زوال الغشاوة عن عينيه ما دام ذلك ممكناً.
لأنها إن زالت سيرى بنفسه أنه كان يمشي في طريق الهاوية وهو يظن أنه يمشي في طريق المسجد. وأن طريق المسجد كانت أقرب إليه وأجمل مما يظن. لكن مشكلة هذا الأعشى أنه لا يثق إلا في نفسه وعقله، ويقول إن أجداده قد أرشدوه إلى طريق المسجد، وأننا نريد أن نضلله حين نخبره بأن طريق المسجد من الجهة الأخرى!.
ولأن هذا الصالح الأعشى لا يثق في ملاحظات العابرين والجيران، أو في أهليتهم لتوجيه هذه الملاحظات والنصائح، فقد صاروا يعولون على مصائب الدهر في تعليميه، وبعد كل عثرة يعثرها يتساءلون: ترى هل آن الآوان لتصديقنا، والكف عن تحميل حظه السيء كامل المسئولية؟!.
لا شك أن النماذج التمثيلية السابقة شديدة الاختزال في تمثيل الظاهرة، فهذه الأخيرة شديدة التعقيد، وشديدة الحساسية أيضاً. وإذا قبل بعض الأذكياء في هذا التيار بمبدأ المراجعات فإنه على الأرجح لن يقبل بذهابها إلى حدود الأصول الفكرية. في حين أن مشكلات هذه الأخيرة هي منابع الخلل والضعف لديهم. وبدون مراجعتها وتقويمها لن يكون هناك أي جدوى من مراجعة الفروع المنبثقة عنها. والبناء الآيل للسقوط لا يجدي معه ترميم جدرانه وتزويقها. ومراجعة الأصول – أصول الفكر والفقه – تحتاج لشجاعة أدبية وكفاءة علمية. وهذه الأخيرة متوفرة وكامنة تنتظر حضور الأولى. إنها أزمة شجاعة لا علم.
منذ زمن طويل كان هناك رهاب غير طبيعي تجاه مراجعة الأصول ونقدها. رهاب لا تفسير له إلا ما أسماه بيكون بـ “وهم المسرح”، أي تلك الأفكار التي نتلقاها عن السابقين دون تمحيص. فقد تلقى الجمهور وهما مفاده أن هذه الأصول قد ثبتت في الحق كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ، وأنها مسلمات لا يطالها الريب، ولا مجال للتفكير في جرحها أو تعديلها. أما أشجعهم قلباً فيشترط في من يقوم بهذه المهمة شروطاً لا تتوفر حتى في الأنبياء!.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى