مقالاتمقالات مختارة

المد والجزر في الإسلام (2)

المد والجزر في الإسلام (2)

بقلم أبو الحسن الندوي

إن إمبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسرًا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة؛ ولكنها غُلبت وسقطت أمام “سيف الله” في أقل من عشر سنوات.

 

اللغز الذي أدهَشَ المؤرخين

إن قوة العرب القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا النشاط الغريب بعد ذلك الخمود العجيب، وهذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق، لغز من ألغاز التاريخ وقد اتفقت كلمة المؤرخين علي أن هذا الحادث أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني، وإليك بعض ما قاله المؤرخون الأوروبيون:

قول المؤرخ “جبون”

يقول المؤرخ”جبون” بقوة واحدة ونجاح واحد، زحف العرب علي خلفاء أغسطس(في الروم) واصطخر (في فارس)، وأصبحت الدولتان المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منها، في عشرة سنوات من أيام حكم عمر أخضع العرب لسلطانه ستة وثلاثين ألفًا من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار، وأنشئوا أربعة عشر ألفًا من المساجد لعبادة المسلمين، علي رأس قرن من هجرة محمد- صلي الله عليه وسلم- من مكة، امتد سلطان خلفائه من الهند إلي المحيط الأطلانطيكي، ورفرف علم الإسلام علي أقطار مختلفة نائية كفارس وسورية ومصر وأفريقيا وإسبانيا[i].

قول المؤرخ الامريكي”ستودارد”

ويقول ” ستودارد” الأمريكي في كتابه حاضر العالم الإسلامي:” كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دُوِّن في تاريخ الإنسان، ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطة الشأن، فلم يمض علي ظهوره عشرة عقود، حتى انتشر في نصف الأرض، ممزقًا ممالك عالية الذُّري، مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرت عليها الحِقَبُ والأجيال، ومغيِّراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيًا عالًا حديثًا متراصّ الأركان؛ هو عالم الإسلام.

كلما زدنا استقصاء، باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليه زادنا العجب العجاب بَهْرًا، فارتددنا عنه بأطراف حاسرة، عرفنا أن سائر الأديان العظمي إنما نشأت، ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرًا بطيئًا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيَّض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر، وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين، ثم أخذ في تأييده والذبَّ عنه، حتي رسخت أركانه ومنعت جوانبه؛ بطل النصرانية “قسطنطين”، والبوذية “أسوكا”، والمزدكية “قباذ كسرو”، كل منهم ملك جبار، أيَّد دينه الذي انتحله بما استطاع من القوي والأيْدِ.

إنما ليس الأمر كذلك في الإسلام، الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية، تجوب فيها شتي القبائل الرحالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في الأرض مجتازًا أفدح الخطوب وأصعب العقبات، دون أن يكون من الأمم الأخرى عون يذكر، ولا أزر مشدود، وعلي شدة هذه المكاره فقد نُصر الإسلام نصرً مبينًا عجيبًا، إذ لم يكد يمضي علي ظهوره أكثر من قرنين، حتى باتت راية الإسلام خفاقة من “البرانس” حتى “هملايا”، ومن صحاري أواسط أفريقية”[ii].

قول المؤرخ ” فيشر”

ويقول مؤرخ عصري ” هـ.ا.ل. فيشر” في  كتابه تاريخ أوربا :”لم يكن هنالك في جزيرة العرب قبل الإسلام أثر لحكومة عربية أو جيش منتظم، أو لطموح سياسي عام، كان

العرب شعراء خياليين، محاربين، وتجارًا، لم يكونوا سياسيين

إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم، إنهم كانوا علي

نظام منحطّ من الشرك، بعد مئة سنة حمل هؤلاء المتوحشون الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظمية، إنهم فتحوا سورية ومصر، ودوّخوا وقلبوا فارس، ملكوا تركستان الغربية، وجزءًا من بنجاب، إنهم انتزعوا أفريقية من البيزنطين والبربر، وأسبانيا من القُوط، هدّدوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق.

مخرت أساطيلهم المصنوعة في الإسكندرية وموانئ سورية، مياه البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية، وتحدّت القوة البحرية للإمبراطورية البيزنطية، لم يقاومهم إلا الفرس وبربر جبال الأطلس، إنهم شقّوا طريقهم بسهولة، حتى صعب في بداية القرن الثامن المسيحي أن يقف في وجوههم واقف، ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء، لم يعد البحر المتوسط بحر الروم، بل أصبح حوضًا عثمانيًا، لا سيطرة فيه لغير الترك، ووجدت الدول النصرانية من أقصا أوروبا إلي أقصاها منذَرَةً مهدَّدَة بحضارة شرقية مبنية علي دين شرقي”.

قول لمؤلف شيوعي

يقول: “إن الإنسان ليدهش إذا تأمل السرعة الغريبة التي تغلب بها طوائف صغيرة الرَّحّالين، الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية علي أقوي دولتين في الزمن القديم، لم يمضِ خمسون سنة علي بعثة محمد صلي الله عليه وسلم حتى غرز أتباعه علم الفتح علي حدود الهند في جانب، وعلي ساحل البحر الأطلنطيكي في جانب آخر، إن خلفاء دمشق الأولين حكموا علي إمبراطورية لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر علي أسرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوي ملوك العالم.

كل نبي جاء بمعجزات آيةً لما يقول، وبرهانًا علي صدقه، ولكن محمدًا صلي الله عليه وسلم وهو أعظم الأنبياء وأجلّهم؛ إذ كان انتشار الإسلام أكبر آيات الأنبياء وأروعها إعجابًا وخرقًا للعادة، إن إمبراطورية أغسطس الرومية بعدما وسعها بطلها”تراجان” نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون، ولكنها لا تساوي المملكة العربية التي أُسِّسَت في أقل من قرن، إن إمبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسرًا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة؛ ولكنها غُلبت وسقطت أمام “سيف الله” في أقل من عشر سنوات.

***


[i] انحطاط رومة وسقوطها:474\5-475، طبع أكسفورد.

[ii] حاضر العالم الإسلامي،ج1، تعريب الأستاذ عجاج نويهض مقدمة في نشوء الإسلام.

(المصدر: موقع “الإيمان أولاً”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى