مقالاتمقالات مختارة

المدارس الإسلامية في ولاية كيرالا بالهند

المدارس الإسلامية في ولاية كيرالا بالهند

بقلم صبغة الله الهدوي

قالوا المدارسُ بندقٌ وسلاحُ ::: قلنا المدارس جنةٌ وصلاحُ

قالوا المدارس يورث الإرهابُ ::: قلنا المدارس يولد الأصحابُ

في جنوب الهند، وسط هضبات متحدرة، وراء ربوات مصفوفة، تلوح لك عدسات تفتح لك روائع النظارة، مطلة على ضفاف البحر العربي، هنا تقع ولاية كيرالا بروعة جمالها وهالة هلالها، وترحب زوارها بكل هدوء وسكون، لقد عمرتها المساجد والمدارس الدينية، وامتزجت فيها ألحان تختزل فيها الهند المتحضرة، مناظر تبعث فيك الخيال يمنة وشمالا، وهناك حركة إسلامية تحتضن آلاف المدارس والمساجد، وتشرف على آلاف المحلات، ربما لم تتطلع لها الأخبار السماوية أو القنوات الكبار.

من هنا نبدأ الأسئلة، هل تعرفون حركة إسلامية ناشطة في بلدة أعجمية تدير عشرات الآلاف من المساجد والمدارس سوى رابطة العالم الإسلامي، ولا تستلم أي نقير من خزانة الحكومة في يوم من أيامها، وهل تعرفون منطقة غير عربية فيها أكثر من قطر أو كويت مسجدا ومدرسة ومعهدا دينيا، وهل تعرفون شعبا صامدا قدم للدين أرواحا وأموالا، وبايع حتى الموت للدين والإسلام، ونهض كالعنقاء من بين الرماد، إنها ولاية كيرالا، في جنوب الهند، ترفع هامتها أمام الأمة عزة ومفخرة بهذه الأوسمة الكريمة، إنها تاريخ ثورة علمية انطلقت قبل تسعين عاما حينما انهارت أركان الخلافة العثمانية وتسكع العالم الإسلامي في ليلة ليلاء وتنافس الأعداء في تقسيم تربته إربا إربا على مرآى ومسع من ديّاره وحاميه، ولم يجد له مرشدا ومعلما يهديه سواء السبيل وبقي قاموسه بين مد وجزر، وفي تلك الفترة المظلمة الحاسمة أسست في كيرالا جمعية على أس من التقوى والكرامة، على مجد تسرب من التراث والتاريخ، تستهدف إيقاظ الأمة المسلمة وتوعيتها من الانبتار من قبضة التراث والآثار الخالدة، إنها جمعية العلماء لعموم كيرالا، وكانت الفترة حالة من البدعة والتنظيمات التكفيرية التي امتصت لبانها من أضراع السلفية والتي تلقت دروسا من مبادئ الوهابية التي كادت تبتلع الجزيرة العربية جمعاء، وفي نفس الفترة امتاز مسلمو كيرالا بوعيهم الديني ووفائهم المخلص لخدمة الإسلام، بينما سعى الاحتلال البريطاني وراء تحطيم هذا النظام المرصوص وحاول لبذر العنف والكراهية بين الشعب الهندي، وبذل قصوى جهده لإقصاء المسلمين من ميادين التربية والتعليم وطمس هويتهم، لكنهم أبوا ووقفوا في وجه هذه التيارات الغربية وسجلوا تاريخا من جديد ضن به العالم الإسلامي في تلك الأيام، ومنذ ذلك التأسيس المبارك تحركت سفائن الأمة ماضية في سبيلها وماخرة موجاتها، وحصدت انتصارات كبيرة أنشأت للأمة مشاعل الأمل الخالد وذادت ذمار الدين من سطوة الماديات والعلوم المصدرة من مفاعل أوربا، وفعلت كجنة وثيقة خضعت لها رقاب الأعداء وانسحب جميع الصادين والمكرة من مشروعهم المسموم.

صناعة العقول وبنية الأمة من جديد

فإنه لو نخرت مباني التربية سينهار المجتمع بأسره وينطوي بين مر الزمان ولا يبعث ولا ينهض من جديد، ومن هذا المنطلق المروع قامت الجمعية بإشعال مصابيح النهضة ونداء الأمة إلى فلق من جديد، إلى فلق يعدهم بشمس تشرق وضاءة إلى عالم الوجود، إلى نافذة علمية تأخذ بيدهم وتسوقهم نحو الأحلام المحفورة في لباب قلبهم، فكانت هذه المهمة صعبا جدا بينما انبهر من له علم وثقافة في سيولات من الجزيرة العربية ودعا إلى قطع العلاقة مع التراث الممجد الذي به استطعنا العبور وراء الحدود على مدى السنين، وبه واجهنا جميع القوات الاحتلالية، وبنفس الوعي الديني سهرنا الليالي لحراسة المساجد والمدارس من إساءات المتمردين، فأدركت الجمعية خطورة الأمر ونادت في الأمة إلى العودة إلى الجذور والتمسك بتلك العروة المصممة التي لا انفصام لها حتى لا يعبث بنا عابث.

فكانت النتيجة سريعة الانفجار، تلبى الشعب لهذا النداء الصادح بالتراث والجذور، وأقبل بكل حرص وحنين إلى هذا المصف الرائع، وأقسم بالله لترميم جدران الأمة وتحطيم الحشرات ودفنها رغم ما تعرض لهجمات شرسة وتعاملات معنفة نحو هذه المهمة الضخمة، سخر منهم من سخر.

جرت محاولات بشعة لاغتيال أهداف المدارس ومحاصرتها، رسمت لها خطط شنيعة تعبر عن نوايا تلك الضمائر الجيفة، طبعوا عليها بالإرهاب وتجميد العقول والعودة إلى الجاهلية الكبرى، فقالوا أتطبقون شريعة وراء القرون وتجلبون الشعب وراء السنين، وتحت ستر المؤامرات الطويلة نفذت علمليات مزورة لتشويه وجه المدارس الإسلامية وتصنيفها كمفاعل الإرهابية وأبواق العنف، وتم لأجلها نشر أخبار المرتزقين والعملاء وفرضت لها قوانين مختصة مما تجس نبضات الأمة وتثير غضبها، من إجبار الطلبة لإنشاد النشيد الوطني الذي يحتوي معنيات تحارب مفهوم الإسلام، وغربنة المنهج الدراسي من تنحية الستر بين البنات والأولاد، والتحريض على الأفكار المتحررة وتوريطهم في الإلحاد ورفض الشريعة وشرعية الحجاب، وفصل الدين من الحياة العامة، فأما خيوط المؤامرة لطويلة حدا، شارك فيها جميع من غلاة الهنادكة ودعاة التنصير والإلحادية والعلمانية، ولسوء الحظ هؤلاء المتربصون يمتلكون ثروة هائلة ودعما إعلاميا حتى سهل لهم الطريق لإساءة سمعة المدارس في الساحات العامة وتسويمها بالخط الأحمر، وهذا المد العلماني الذي يصفق له المنظمات الهندوكية المتطرفة يشكل خطرا أكبر، حيث تمكن بالغزو الفكري وغسل الأدمغة لاجتذاب بعض من منبهري الثقافة الغربية بمسميات الدين إلى هذه الدعايات الكامنة هدفها ظاهرا، نشرت لهم مقالات وآراءهم المنفردة في المجلات الإقليمية والوطنية حتى تعرضت كلمة الحق للاضمحلال والضياع، واستخدم هؤلاء المنبهرون بدعم من الأحزاب الماركسية المنابر الحكومية والمحطات العامة لتقليص قيم الشريعة وتشكيك أصالتها في العوام، من إثارة النقاشات عن حظر الأذان وشرعية الطلاق وتعدد الزواج، فجرت لها إحصائيات مزيفة تتوجه لتهيييج الأمة وتخليتها في الورطة وتنصيبها كشعب هائج هرج.

ورغم هذه التحديات والعراقيل التي واجهتها حركة المدارس على مدى العقود الأخيرة تقدمت رويدا رويدا إلى رقيها الفاخر، إلى مكانتها السامقة التي جذبت نظارة الحكومة وأجبرتها قسرا لاعتراف شعبية المدارس الدينية وقداستها وتبرئتها من أوهام الخونة،  انطلقت في ماضيها ذي الفقر والفاقة بين حلقات المساجد، يتلقى العلم من مدرس وبين يديه طلبة من عائلات فقيرة يعانون من قلة الموارد والأغذية، ثم تنقلت إلى كتاب تختنق وتتضايق، ثم تحولت إلى مباني ضخمة تبارز المراكز الحكومية والمدارس المدعومة من حضانتها، تقدمت المدارس وحازت انتصارات كبيرة في توعية الأمة وتثقيفها في إطار الدين والشريعة، وأدت دورا رياديا في اجتثاث شعور العنف والكراهية من الشباب وتوجيهم نحو المسلك الوسطي الذي لا يحارب الحكومة في عفو الخاطر، فأصبحت المدارس الإسلامية أساس الدين والشريعة، فمن تلك الصفوف المرصوصة فجرت الاعتصامات والاحتجاجات ضد كل من أراد القضاء على قوانين الشريعة، ونجحت لتشكيل ضغطات على من تربصوا وتشاءموا، تحركت حين حاولت الحكومة الشيوعية لإبادة اللغة العربية  وإحباط مكانتها، وهاجت على حين قامت الحكومة المركزية لتطبيق القانون المتحد رغم احتجاجات المسلمين، لكن الملحوظ هنا أن هذه الطلبة كانوا أنفسهم سدنة الشريعة وحفظة الديمقراطية، تعلموا الدين ومبادئه كما تعلموا من الجامعات الحكومية، وشاركوا في الامتحانات العامة  الإدارية وحصدوا أوسمة ونجاحا لحد أن صحح بعض الإعلام والأقلام موقفهم المعنف من المدارس الإسلامية، فقالوا ” تستطيع المدارس تنشئة جيل من الوعي والوفاء للدولة”.

هكذا ظلت المدارس الإسلامية حاضنة الثقافة وربة الوسطية في الشباب، وأنشأت في الشعب خطابا دينيا على منأى من التطرفية والتشدد والدمار، ودائما حملت رسالة الأمن والهدوء رغم ما هيجها بعض من مأجوري الحكومة بتهم لا أساس لها.

بوصلة الوعي الديني والانسجام الوطني

وما زالت المدارس الإسلامية وطلبتها أكثر تحمسا وتشددا في قضية الوطنية، إلا أن بعضا من دمى الأقلام العنصرية رسموا تلك الانتماءات الوطنية في  ظل من الشك، فوضعوا على المسلمين إصرا على إصرهم حيث لازمهم التحفظ على حب الوطنية وألا تقع منهم أية فلتة، وحتى تحت هذه الظروف القاسية بسطت المدارس أجنحة الدفئ والحنان ونشرت رسائل المحبة والسلام، واجتنبت شعارات الثورات المرتزقة حتى لا يتورط الدين في كمين المتربصين.

لقد مضى تسعون عاما من تلك البنية الدينية المترسخة، التي ظلت تقاوم التيارات السلفية المتشددة وتقيم مخيمات الأمن والانسجام حتى اللحظة، نشاطات لا صخابة فيها ولا ضجات بل تتدفق بنبضة الأمة وإحساسات الدولة، وتبقى حاضنة الدين والوطن، هكذا نشأت في كيرالا أجيال تثقفت من كأسات الوسطية وشعت أنوارا من بريق الأمل للأجيال الصاعدة.

فكيرالا، أو خير الله، وقّعت بصمتها القوية بهذه المؤسسات الدينية، التي تناهض الفكرة السليمة، وتمثل دستور الهند رسما واسما، وستظل هكذا إلى الأبد رغم توجسات المتمردين، والنفاثات بالحسد والحقد، رغم مؤامرات تثرثر بفزاعة الإرهاب،  ستنادى على مر الزمان ببوصلة الوعي الديني والانسجام الوطني.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى