اللغز.. لماذا صمد النظام الصحي في الحضارة الإسلامية أمام النكبات؟!
إعداد محمد شعبان أيوب
فيروس صغير يجتاح العالم منذ أسابيع، يصاحبه تشاؤم في التصريحات والتحليلات عند البعض، وتفاؤل لدى الآخرين، رائحة الموت في كل مكان، بالعشرات تارة والمئات أخرى، وإصابات بالآلاف، بل تخطّت مئات الآلاف في العالم أجمع؛ كل ذلك بسبب فيروس “كوفيد 19” المعروف بـ “كورونا”، ذلك الخوف الذي يتملّك الجميع، والذي أصابهم ولا يزال بالهلع حتى تخطّى تأثيره على الأوضاع الاقتصادية التي تسير خطواتها الأولى نحو كساد، وفقد الوظائف، ثم ربما موجة من سقوط الاقتصادات العالمية في أسوأ السيناريوهات المتوقعة، الأمر الذي حدا بكثير من رؤساء وقادة العالم والرأسماليين فيه تحديدا إلى ضرورة عودة عجلة الإنتاج، الأمر الذي يؤثر بدوره على هذا القطاع الصحي وقدرته على البقاء والتحمل.
بيد أن التحدي الأخطر في ظل هذه الأزمة قد يظهر -كما يخبر العلماء والأطباء- في احتمالية عدم قدرة “النظام الصحي” على مواجهة هذه الجائحة في عدد من الدول، الأمر الذي قد يضطرها إلى الانتقال لما يُسمى بـ “طب الحروب”[1]، حيث يفرق الطبيب فيه بين المرضى على أساس السن والأولوية التي يراها؛ نظرا لقلة الإمكانيات وكثرة الحالات المرضية، وتلك معضلة أخلاقية في أعماقها.
ومن هنا؛ فإن “النظام الصحي” أكبر وأشمل من مجرد القدرة على توفير الأطباء والمستشفيات في دولة من الدول، أو منطقة من المناطق، إنها منظومة كاملة تملك القدرة والاستمرارية والمرونة والتعاون أمام الجوائح الكبرى. فبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن مصطلح “النظام الصحي” يُقصد به “مجموع المنظمات والمؤسسات والموارد الرامية أساسا إلى تحسين الصحة. ويحتاج ذلك النظام إلى موظفين وأموال ومعلومات وإمدادات ووسائل نقل واتصال وتوجيهات واتجاهات عامة. ولا بد لذلك النظام من توفير خدمات تلبّي الاحتياجات القائمة بأسعار منصفة والسعي، في الوقت ذاته، إلى معاملة الناس على نحو لائق”[2].
ومنذ فاتحة العصر الحديث، ومع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، سيطرت الدولة الحديثة على هذا “النظام الصحي” باعتباره تجليا من تجليات السلطة والدولة، لكن من اللافت أن منظمة الصحة العالمية تنصح أنه على الرغم من أن الحكومات هي المسؤول الأول عن هذا النظام، فإن “الإشراف الجيّد على مستوى المناطق والبلديات وفرادى المؤسسات الصحية يُعَدُّ كذلك من الأمور الحاسمة الأهمية”[3] في نجاح هذا النظام، ويُفهم من هذا أن حصر المسؤولية في يد عدد قليل من الأفراد أو الترتبيات الإدارية لا يعني بالضرورة النجاح اللائق أو المؤمّل.
وإذا أُصيبت البلاد بجوائح عامة، واتسعت دائرة الإصابة، وأضحت الصدمة سببا في الضغط المباشر على النظام الصحي في تلك البلاد الموبوءة؛ فإن عوامل توسيع المسؤولية، والإعداد الجيد، والتخطيط السابق، والتمويل اللازم المستدام، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى نجاح هذا “النظام الصحي” في بلد ما.
ومن اللافت أننا وجدنا معايير “النظام الصحي” التي أشارت إليها منظمة الصحة العالمية في عصرنا الحديث متحققة بنسبة كبيرة في تاريخ الحضارة الإسلامية، الأمر الذي أدّى إلى ديمومة واستمرارية ونجاح هذا النظام، فما اللغز وراء ذلك؟ وكيف أسّس المسلمون هذا النظام الصحي الناجح؟ وكيف حافظوا عليه وعملوا على استمراره وحمايته؟ وما الفلسفة التي قامت عليها هذه المنظومة العريقة؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
إن المتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية سيرى أُسسها قد قامت على مجموعة من المفاهيم والتطبيقات شديدة الدقة والأهمية، وكلها استندت إلى نصوص القرآن والسنة النبوية، وعلى المقاصد واجتهاد العلماء، ومن أهم ما قامت عليه هذه الحضارة تنوّع مصارف الذمة المالية، التي جاءت في الغالب من خلال عاملينِ أساسيينِ هما؛ مصارف الزكاة والغنائم والفيء والخراج والعُشور والجزية والضرائب، وهذه اختصت الحكومات بتوزيعها وتجميعها وإنفاقها كما تراه في المصالح العامة، والعامل الثاني مصارف الأوقاف والصدقات، وهي جوانب لم تتدخل الحكومات فيها بصورة مباشرة أو مكثّفة، وإنما حرصت على مراقبتها، ثم في مرحلة متأخرة استُولِيَ عليها مع مجيء الدولة الحديثة.
والأوقاف في الأصل مجموعة من الصدقات العينية، مثل أراضٍ وعقارات ومنقولات يجعلها صاحبها صدقة بتحبيس أصلها والاستفادة من ريعها وأرباحها؛ لضمان الديمومة والبقاء، وخدمة أكبر قدر ممكن من فئات الجماهير الذين أوقفت عليهم هذه الأوقاف أو الأحباس، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرضه التي كانت في خيبر، كانت كثيرة الخيرات والثمار، فأشار عليه بحبْس أصلها، وجعل غلّتها وريعها في الفقراء والمساكين، ففعل[4].
وحينما جعلَ عمرُ وقفه هذا في وثيقة مكتوبة وأشهدَ عليها وأعلنها على الناس في زمن خلافته، ما بقي أهل بيت في الصحابة إلا وقف أرضا أو عقارا، وكان منهم مَن جعل لذريته نصيبا في خيرات ما أوقف، فنشأ بذلك الوقف الأهلي أو الذُّري، وهو محض اختراع إسلامي لم تعرفه القوانين الغربية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما النوع الأول من الوقف الذي سُمّي “الخيري” جُعل في بادئ الأمر دينيا، في إقامة المساجد، وتوزيع الصدقات[5]. وبحسب منذر قحف في كتابه المهم “الوقف الإسلامي” فإن امتداد الوقف من المؤسسة الدينية إلى البرّ العام الذي يطول الخدمات الاجتماعية وتقديم المنافع والسلع كان ابتكارا إسلاميا جاء به نبي الهُدى والرحمة صلى الله عليه وسلم[6].
وقد أحدثت الأوقاف ثورة ودافعا مهما في انطلاق وتقدُّم وازدهار الحضارة الإسلامية، إذ فُتح الباب للخلفاء والأمراء والولاة والأغنياء والتجار بل وطبقات المجتمع الإسلامي كافة في وقف الأوقاف التي يرونها أنفع للناس والمجتمع، فمنهم مَن جعل الأوقاف في بناء المساجد والجوامع، ومنهم مَن جعلها للعلماء وطلبة العلم وأبناء السبيل، ومنهم مَن وضعها للإنفاق على الفقراء والمساكين والأرامل، ومنهم مَن أوقفها لبناء المدارس والجامعات، ومنهم مَن جعلها للحيوانات المريضة والعاجزة، ومنهم مَن حبسها للقطاع الطبي، وغير ذلك من المجالات الدقيقة واللطيفة والغريبة والتي تُدلّل على مقدار عظمة الحضارة الإسلامية، ويمكن أن ترجع لعلامة الشام الدكتور مصطفى السباعي في كتابه “من روائع حضارتنا” لتقف على ذلك بشواهده وأدلته التاريخية اللافتة والمثيرة للتأمل.
وقد كان الدافع من وراء هذا الإنفاق السخي، والاستثمار المالي وتنميته واستدامته في وجوه الخير والنفع العام، والإبداع في ابتكار مجالات الإنفاق، ابتغاء مرضات الله، وطلبا لجنته، وامتثالا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة: إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَة، أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ”[7]، وكانت الأوقاف من أهم وجوه الصدقات الجارية للإنسان بعد موته.
وقد تجلّى ذلك الإبداع الذي تمثّل في ديمومة واستمرار مؤسسات الحضارة الإسلامية في المجالات الصحية والطبية أيضا، ولم تكن الدولة ولا “الخزائن السلطانية” هي التي صنعت أو موّلت هذه الملحمة الطبية الحضارية العظمى، بل الأوقاف التي ساهمت في إنشاء وتشغيل تلك “البيمارستانات” أو “المستشفيات”، وكان لهذه الأوقاف دور مهم وفريد في بنائها وتجهيزها والإنفاق المستمر الدائم عليها، ورواتب الأطباء ومساعديهم والمختبرات، وتمويل كليات الطب والصيدلة والمتدربين وطلبة العلم القادمين من الأصقاع كافة، مثل ذلك البيمارستان (المستشفى) المنصوري الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون في القاهرة سنة 682هـ/1284م، وكان مستشفى متخصصا للغاية، حتى إنه ليُضاهي المستشفيات الحديثة في ذلك[8].
https://twitter.com/omdae75/status/1167783486746517505
وقد وصف ابن بطوطة ذلك الوقف الطبي للسلطان قلاوون بأنه “يعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعدّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصر، ويُذكر أن مجباه (إنفاقه) ألف دينار كل يوم”. وكان لضخامة الأوقاف التي أوقفها السلطان قلاوون على البيمارستان وأثرها العميم قدرتها على استقبال المرضى من كل فئات المجتمع، حيث كانت تلك الأوقاف تُدرّ ريعا سنويا مكّن البيمارستان من أداء مهامه دون أي خلل أو قصور؛ لأن الأموال التي خُصّصت له كانت بعيدة عن سيطرة الدولة وأهوائها مع تعاقب السلاطين والملوك[9]. ونقيس على ذلك المستشفيات الأخرى كافة التي أنشأها السلاطين والخلفاء والملوك، مثل البيمارستان النوري في دمشق وحلب، والصلاحي في القاهرة والقدس، وغيرها في عواصم وبلدان الحضارة الإسلامية.
وقد كثر إنشاء البيمارستانات التي أنشأها وأُوقف عليها الأوقاف الدارّة غير المنقطعة أثرياء المجتمع الإسلامي، ولكي ندرك مدى الترابط الاجتماعي بين الغني والفقير في ذلك المجتمع، ومدى متانة النظام الصحي والمؤسسي الذي وفّرت له الأوقاف كل ما احتاج إليه من مستلزمات وعقاقير ومختبرات وأطباء وغيرها، علينا أن نعلم أنه في بغداد وحدها وُجد في سنة 1160م ما يزيد على ستين بيمارستانا، وفي قرطبة ما يربو على خمسين بيمارستانا[10].
ولم يكن تأسيس المستشفيات أو البيمارستانات وقفا على أهل الغنى والثراء وعلية القوم، بل رأينا الأطباء أنفسهم يُساهمون بإنشاء المستشفيات دون انتظار ربح أو استثمار خاص، فقد أشار الطبيب سنان بن ثابت على الخليفة العباسي المقتدر بالله بأن يتخذ بيمارستانا يُنسب إليه، فأمر بإنشائه في منطقة باب الشام غرب بغداد، وسمّاه البيمارستان المقتدري، وكان ذلك الطبيب يُنفق عليه من ماله الخاص وأوقاف في كل شهر مئتي دينار (من 25 إلى 40 ألف دولار)[11].
بل إن بعض هؤلاء الأطباء رأى ضرورة التوسعة في كبريات المستشفيات للحاجة الماسة إلى مواجهة ازدياد أعداد المرضى، وهذا ما فعله أحد أطباء دمشق بدر الدين بن قاضي بعلبك بجهوده الذاتية دون انتظار من الدولة في القرن السادس الهجري، يقول ابن أبي أُصيبعة أشهر مؤرخي الطب والأطباء في الإسلام عن ذلك: “ومما وجدته قد صنعه من الآثار الحسنة التي تبقى مدى الأيام، ونال بها من المثوبة أوفر الأقسام، أنه لم يزل مجتهدا حتى اشترى دورا كثيرة ملاصقة للبيمارستان الكبير الذي أنشأه ووقفه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وتعب في ذلك تعبا كثيرا، واجتهد بنفسه وماله حتى أضاف هذه الدور المشتراة إليه، وجعلها من جملته، وأكبرَ بها قاعات كانت صغيرة للمرضى، وبناها أحسن البناء، وشيّدها وجعل الماء فيها جاريا، فتكمّل بها البيمارستان، وأحسن في فعله غاية الإحسان”[12].
وبعض هذه الأوقاف اهتمت بالجوانب النفسية للمرضى دون العضوية منها، فقد جاء في بعض الوثائق الوقفية على البيمارستانات تخصيص وقف لوظيفة يقوم بها اثنان من الرجال، وكانت مهمتهما أن يقفا بالقرب من المريض الميئوس من شفائه، ويسأل كلٌّ منهما الآخر عن حقيقة علّة ذلك المريض دون أن يلحظ أن ذلك جارٍ بينهما عمدا، فيُجيبه رفيقه بصوت يسمعه المريض بأنه لا يُوجد في علّته ما يُشغل البال، وأن الطبيب سيأمر بإخراجه من المستشفى بعد أيام لشفائه التام[13].
وقد أسهمت المرأة في الحضارة الإسلامية بالأوقاف في المجال الصحي والطبي، فبعض الأميرات مثل ست الشام أخت صلاح الدين الأيوبي والأميرة جوهر نصيب بنت أحد سلاطين السلاجقة في الأناضول كانتا من أوائل الأميرات اللواتي أوقفن الأوقاف لإنشاء المستشفيات الطبية بأقسامها المختلفة، كالجراحة والرمد والعظام وغيرها، ولا تزال بعض أوقافهن ومستشفياتهن اللاتي أنشأنها في القرن الثالث عشر الميلادي باقية آثارها حتى يومنا هذا في بلاد الشام والأناضول.
والأمثلة من أقطار العالم الإسلامي كافة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا تُحصى، وقد رأينا بعض المدن يتخطى عدد مستشفياتها وجامعاتها الطبية العشرات، وقد تكفّلت الأوقاف الإسلامية بكل هذه المنظومة، ولم تتأثر بسبب الحروب والآفات وغيرها، كما لم يجرؤ أحد من أرباب السلطة على أن يسيطر على هذه الأوقاف أو يقضي عليها بسبب وجود حصانة قضائية كانت تُشرف على هذه المنظومة بصورة مستقلة بعيدة عن يد السلطات، الأمر الذي يتوافق بصورة عملية مع تعريف منظمة الصحة العالمية اليوم بأن مفهوم “النظام الصحي” لأي دولة يعني توزيع مهامه بين عدد من الأفراد والمؤسسات، وأن هذه الاستقلالية التي رأيناها في تاريخ المنظومة الصحية في الإسلام كانت أقوى سلاح وضمانة لعدم سقوطها أمام النكبات والتداعيات والجوائح الكبرى، اللهم إلا من جانب تأخر الطب واستكشاف المرض.
وعلى الرغم من التقدُّم الكبير للطب الحديث مقارنة بطب العصور الوسطى، فإن أهم ميزة غابت عن ذلك الطب الوسيطي في هذا العصر كانت ولا تزال تتمثّل في سيطرة الدولة الحديثة على الأوقاف كلها، فقد عملت الدولة الحديثة على تصفية مؤسسات المجتمع التقليدية، ليس لإحلال المؤسسات الأهلية الشعبية الجديدة محلّها، ولكن لإحلال السيطرة المركزية للدولة الحديثة محلها، وهي قضت تباعا على التكوينات الأهلية التقليدية لا لتُفسح تكوينات شعبية أهلية أحدث وأكفأ من حيث الإدارة اللا مركزية واتخاذ القرارات الذاتية، ولكنها قضت على القديم لتُنهي الوجود الذاتي لمؤسسات تعتمد على فكر وأعراف وصلات اجتماعية راسخة، لتُنشِئ مؤسسات حديثة تعمل تحت الهيمنة السيادية لجهاز الدولة القابض، وكان التحديث على الطريقة الغربية خير دافع ومسوغ لذلك، كما يقول المستشار طارق البشري[14].
وهكذا رأينا أن استقلالية الذمة المالية للمجتمع المدني بعيدا عن الحكومات كان لها أعظم الأثر في تطور الحضارة الإسلامية، بما فيها القطاع الصحي والطبي، الذي ظلّت منظومته تعمل لمئات السنين دون احتياج من دولة أو حكومة أو سلطان، ودون حصر اتخاذ القرارات العاجلة التي تمس حياة المرضى في يد سلطة وبيروقراطية يؤثران بالسلب على المريض ومعاناته، كما نرى في عصرنا الحديث، وفي كثير من أقطارنا العربية، الأمر الذي أدّى لا إلى ازدهار وتقدُّم تلك المستشفيات التي آثر الصليبيون أن يُعالجوا فيها وفقط، بل إلى نبوغ عشرات العلماء والأطباء الكبار مثل الرازي والزهراوي وابن النفيس والرحبي وغيرهم ممن علّموا العالم كله.
(المصدر: ميدان الجزيرة)