مقالاتمقالات مختارة

القُبَيسيّات .. المرتكزات الفكريّة والتّربويّة والمناهج الشّرعيّة (5)

القُبَيسيّات .. المرتكزات الفكريّة والتّربويّة والمناهج الشّرعيّة (5)

بقلم الشيخ محمد خير موسى

لا قيمة لجماعة أيّا كانت دون فكرةٍ تجتمع عليها، وتلتفّ حولها، وتعمل لها، وتضحّي في سبيلِها، ولا بدّ لهذه الفكرة أن تحمل في باطنها فرادة تتمايزُ بها عن الجماعات المتشابهة حتّى تكون لها شخصيّتها الفكريّة والتربويّة التي تميزها عن غيرها ولو كان بتفاصيل يسيرة وبسيطة، وهذا ما كان فعلًا عند القُبَيسيّات

علامَ ارتكزت القُبيسيّات فكريًّا؟

ترتكزُ القبيسيّات في البنيان الفكريّ على الجمع بين المدرسة الصّوفيّة العلميّة التّقليديّة والمدرسة الحركيّة.

والهدف من ذلكَ هو بناء تصوّرات الفتاة نحو الدّين والإيمان والكون والإنسان والحياة وعلاقة المسلم بذلك كلّه، بالاستناد إلى القرآن الكريم والسّنّة النبويّة، وتمتين العلاقة مع الجيل الأول من الصّحابة رضي الله الله تعالى عنهم.

فالمناهج التي تقرّرها الجماعة في حلقاتها تهدفُ إلى بناء الفتاة العارفة بمبادئ دينها وفق المنهج الوسط؛ وتمليكها مفاتيح العلوم الشرعيّة وما تحتاجه من أساسيّات في حياتها الواقعيّة.

إضافة إلى الإطلالة على علوم الحياة الإنسانيّة غير الشرعيّة من جغرافيا وتاريخ وأدب وثقافة عامّة.

وهذه المناهج التي تقرّرها الآنسة منيرة ومجلس الآنسات الكبيرات في عموم الحلقات تجمع بين حفظ القرآن الكريم وتجويده وعلوم الفقه والحديث والعقيدة والتّفسير والسيرة وتراجم الصّحابة والتاريخ والجغرافيا والثّقافة الإسلاميّة وبعض كتب الأدب.

وقد كانت الكتب في بداية الأمر يتمّ اختيارها من الكتب الموجودة المتوفّرة وهي تختلف في بعض تفصيلاتها الصغيرة من بلدٍ لآخر بناءً على توافر الكتب والسّماح بها في بلدٍ وعدم توافرها أو منعها في بلدٍ آخر.

ثمّ انتهجت الجماعة فكرة التّأليف الذّاتي بحيث تكون المناهج من تأليف آنسات الجماعة في كثيرٍ منها في الأوقات اللّاحقة.

ومن الطبيعيّ أن يكونَ القرآن الكريم حفظًا وتجويدًا هو المحور الأبرز في مناهج الجماعة، فقد كان هذا من أكثر ما تشدّد عليه القبيسيّات، وكنّ يحرصن على توجيه الشّابات والآنسات إلى الالتزام في حلقات الشّيخ أبو الحسن الكردي وهو من كبار قرّاء الشّام ومن جماعة زيد لنيل الإجازة منه، ومن ثمّ تشكيل مجموعات كبيرة من الحافظات المجازات القادرات على منح الإجازة.

وفي الفقه كان الكتاب المعتمد “فقه العبادات” للحاجّة دريّة العيطة رحمها الله وكانت من آنسات الجماعة.

 وفي التّفسير فالكتاب المعتمد هو “مختصر تفسير ابن كثير” للصّابوني.

وفي الحديث كان “منهج النقد في علوم الحديث” للدكتور نور الدّين عتر هو الكتاب المعتمد.

أمّا العقيدة فكانت الكتب في البداية “كبرى اليقينيات الكونيّة” للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي و”العقيدة الإسلاميّة” للدكتور مصطفى الخنّ و”أسس العقيدة الإسلاميّة” لعبد الرّحمن حبنّكة إلى أن ألّفت الآنسة سعاد ميبر وهي من آنسات الجماعة كتاب العقيدة الإسلاميّة ليغدو هو الكتاب المعتمد.

أمّا السّيرة فقد اعتمدت عدّة كتب منها “فقه السّيرة” للبوطي و”دراسات في السيرة” لعماد الدّين خليل إلى أن ألّفت الآنسة سميرة الزّايد وهي من أشهر آنسات الجماعة كتابيها “الجامع في السيرة النبوية” ومختصره “مختصر الجامع” فصارا هما الكتابين المعتمدين في السّيرة.

أمّا كتب التّراجم فهي “رجال حول الرّسول” لخالد محمّد خالد، و”رجال الفكر والدعوة” لأبي الحسن الندوي، و”نجوم في فلك النبوّة” لأسماء طبّاع.

ومن الكتب التي كانت معتمدة في الجماعة كتاب “الرّسول القائد” لمحمود شيت خطاب، و”ربّانية لا رهبانيّة” لأبي الأعلى المودودي، وبعض روايات نجيب الكيلاني، ومجموعة كتب وكراسات في التاريخ للدكتور شوقي أبو خليل وبعضها من تجميع بعض الآنسات.

وفي بعض الدّول خارج سوريا كان يتمّ توجيه الطالبات إلى بعض كتب سيّد قطب ومحمّد الغزالي ويوسف القرضاوي.

وكانت تقام امتحانات في هذه الكتب بعد الانتهاء منها، وكان النّجاح في هذه الامتحانات أحد معايير قبول الانتقال من مستوىً إلى آخر فوقه داخل الجماعة.

ومن خلال التّمعّن في الكتب والمنهجيّة التي يتمّ اختيارُها بها نرى جليًّا تعدّد المشارب بين الصّوفيّة العلميّة والحركيّة الإخوانيّة، وهذا المزج كان له دورٌ كبير في تشكيل الوعي وبناء الفكر، كما أنّه أشعر المنتسبات أنّهن يحصلن على جرعات فكريّة لا يحصلن عليها بهذا الشكل في أيّ محضن آخر فكان هذا التنوّع عامل جذبٍ إضافيّ.

وماذا عن البناء التّربوي؟

أمَّا البناء التربوي فيهدف إلى بناء المسلمة المتديّنة تديُّنًا متينًا الملتزمة بمبادئ الإسلام وشعائره التزامًا ظاهرًا وباطنًا.

فلذلك كان التّركيز على أداء الشّعائر لا سيما صلاة الفجر من القضايا الأساسيّة، إضافة إلى تقديم خطاب توكيدي على وجود برنامج مستمرّ للتهجّد وقيام الليل.

وكان هناك اهتمام كبير بالأوراد والذّكر، وبعض الأوراد كانت تقام لها طقوس احتفاليّة خاصّة تحت عنوان “تسليم الوِرد” وفيه تقوم الآنسة بتكليف الطالبات بالوِرد وتتابعها في تطبيقه وتنفيذه.

وعند النّظر في الأوراد التي تعتمدها الجماعة فإننا نجد بأنّها أيضًا تقوم على مزج بين الصّوفيّة الطرقيّة والصّوفيّة العلميّة وجماعة الإخوان.

فمن أهمّ الأوراد التي تقرّرها الجماعة في حلقاتها “دعاء الرّابطة” الذي اعتمده الأستاذ حسن البنّا في مأثوراته التي ينفّذها الإخوان المسلمون يوميًّا، وصيغته:

“اللهمّ إنّك تعلمُ أنّ هذه القلوب قد اجتمعت على محبّتك، والتقت على طاعتك، وتوحّدت على دعوتك، وتعاهَدت على نصرة شريعتك؛ فوثّق اللّهمّ رابطتَها وأدِم ودّها واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورَها بفَيض الإيمان بك، وجميل التوكّل عليك، وأحيِها بمعرفتك، وأمِتها على الشّهادة في سبيلك، إنّك نعم المولى ونعم النّصير”

وكذلك “الصّلاة الناريّة” وهي صيغة بالصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اعتمدها الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي حتّى صارت علمًا على جماعة زيد، وهي:

“اللهم صلِّ صلاةً كاملةً، وسلّم سلامًا تامًّا على سيّدنا محمّد، الذي تنحلُّ به العقد وتنفرجُ به الكرب، وتُقضى به الحوائجُ، وتُنالُ به الرغائب وحسن الخواتيم، ويُستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله وصحبه وسلّم”

وكذلك “ورد الرّابطة” الذي تختصّ به الطّريقة النّقشبنديّة وهو ذكر الله تعالى بالاسم المفرد مع إغماض العينين واستحضار صورة الشّيخ.

وتقام لهذا الورد جلسة ذكرٍ احتفاليّةً بتسليمه كما في الطّريقة النّقشبنبديّة بعد تجاوز الطالبة المستويين الأول والثّاني وتقوم الآنسة بتسليم الوِرد.

غير أنَّ انتقادات كبيرة بدأت تخرج من الطّالبات في الفترة الأخيرة حول هذا الوِرد لما ينطوي عليه من إشكالات ممّا دعا الجماعة إلى التّخفّف منه وعدم الإلزام به في الفترات الأخيرة.

ممّا يجدر التّأكيد عليه بعد الحديث عن هذه المرتكزات والمناهج هو أنَّ البناء الفكريّ والتربوي كلاهما منوطٌ في الحقيقة بتنفيذ الآنسة المشرفة على الحلقة والتي ترتبط بها الطّالبة ارتباطًا وثيقًا.

ولذا يغدو الحديث عن المناهج وحدها غير منطقيّ دون الولوج إلى تفاصيل العلاقة بين الآنسة والطالبة، وماهيّة هذه العلاقة وطبيعتها، فالآنسات في جماعة القبيسيّات لهنّ الدّور الأكبر في تشكيل الطّالبات النّفسي والفكري.

فما هي طبيعة العلاقة بين الآنسات والطالبات في جماعة القبيسيّات، وما أثر ذلك على تكوين الشّابّات؟

هذا ما سنجيب عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى