بقلم فتحي أبو الورد
تشرفت بمخالطة الشيخ وصحبته ، من خلال زياراتى له فى بيته بمصر، ومرافقته فى بعض أسفاره الداخلية ، والعمل معه فى مكتبه ، وأشهد أن الجانب الإنسانى فى شخصيته كان بارزا ، يلمسه كل من عايشه أو خالطه واقترب منه ، ذلكم الجانب الذى يرفع أقواما، وكذا يخفض آخرين من قلوب وعيون الناس ، مهما علا كعب أحدهم فى العلم أو الجاه والمكانة ، وأذكر هنا بعض المواقف للشيخ التى تظهر شيئا من الجانب الإنسانى فى تكوينه ، بعيدا عن كونه فقيه الأمة بلا منازع .
كان كلما حل بالقاهرة أحرص على زيارة فضيلته ،ويسبق هذا اتصال بالهاتف للسلام والترحاب ، وكان حديثه فى الهاتف لا يقل لطفا ومودة وحفاوة عن مقابلته ، حيث يسبقك بالسلام والسؤال عن الأهل والأولاد والعمل والأحوال .
وحين أزوره فى بيته يقابلنى بالبشر والابتسامة ، كعادته مع كل ضيفانه ، ويصر على أن أتناول شيئا من التحية المعدة سلفا للضيفان، والتى لا يخلو منها مجلسه ، قبل الحديث فى أى شىء ، وقد اشتهر عنه عبارة ” خذ لك شيئا من تمر الفرنجة ” ويعنى به ” الشيكولاته والبونبونى ” ، وهى عبارة يرددها كثيرا على مسامع ضيفانه قبل مغادتهم لمجلسه ، ويذكرني صنيعه ذاك بصنيع الإمام الشافعي مع أحد ضيفانه وهو يقوم على خدمته ،ويقول له مؤنسًا وملاطفًا ومخففًا عنه : لا يروعنك ماترى مني ؛ فإنما خدمة الضيف واجبة .
فى إحدى زياراته للقاهرة ، زارنا محاضرا فى موضوع ” الفتاوى الشاذة ” للدارسين بمشروع علماء المستقبل ، الذى أقامه الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين ، بإحدى قاعات جمعية رابعة العدوية .
وأذكر أننا قدمنا لفضيلته يومها مشروبا من عصير المانجو ، وحين هم أن يشرب سأل عن مرافقه الذى كان يقود له السيارة لكى يطمئن عليه ، ولم يشرب حتى اطمأن أنه يشرب مما يشرب ، وقليل هم الذين يلتفتون إلى مثل هذه الأمور البسيطة فى ظاهرها، ولكنها عميقة فى جوهرها ، ذات دلالة نفسية عظيمة فى نفوس من يعرفون ذلك ، وهى بلا ريب مشاهد تفصح عن إنسانية الشيخ الذى يهتم بمرافقه ويعتنى به ، ويظهر ذلك عمليا من خلال تصرفاته .
ومما أذكره جيدا يومها أن القاعة كانت مكتظة بالحضور ممن جاءوا من كل حدب وصوب ، وكان الزحام شديدا ، والحر أشد ، ولم تغن مكيفات القاعة عنا من الحر شيئا ، وبعد انتهاء المحاضرة والإجابة على بعض الأسئلة ، طلبت من الحضور ألا يرهقوا فضيلته بالسلام والمصافحة حتى لا نجهده ، ولا نجمع عليه حر الجو وحر الازدحام ، ومع ذلك حين طلب إليه نفر من قريته ” صفط تراب” أن يسلموا عليه ويتحدثوا إليه ، هممت أن أعتذر لهم حتى نمر وسط الزحام ، ولكنه بادر بالموافقة ووجدته يحن لبلدته وأهلها ، وموطن ميلاده حين سمعهم يقولون : نحن من صفط تراب ، وقد كانوا ماهرين ، إذ عرفوا كيف يلفتون انتباه الشيخ وسط الزحام والحر ، وكان ذلك منه – أيضا – وفاء و إكراما لأهل بلدته ، وكأنه يقول بلسان الحال أمام الجميع : أنتم لكم خصوصية لأنكم أهل بلدتى .
شهدت مع فضيلته فى بيته بمصر زيارة رئيس وأعضاء مجلس إدارة صحيفة الأهرام حين حضروا للاعتذار عن مقال الأستاذ عبد الناصر سلامة رئيس التحرير الذى تطاول فيه على الشيخ القرضاوى والدكتور محمد البرادعى ، وقبل الشيخ القرضاوى اعتذارهم ، ولكنه اشترط اعتذارا مماثلا للدكتور محمد البرادعى ، وإن اختلف معه فى الرأى والفكر، معللا لذلك بأن الأخلاق لا تتجزأ .
كانت عندى محاضرة بإحدى الكليات فى وقت متأخر ، ونظرا لبعد مكان إقامتى نسبيا عن مكان العمل ، فقد أن أبقى فى المكتب بعد انتهاء وقت الدوام ، حتى يقترب الموعد وأنزل مباشرة إلى حيث قاعة المحاضرة ، وصليت المغرب مع فضيلته جماعة فى المصلى فى الطابق العلوى بمنزله ، وعلم أننى سأمكث قليلا حتى يحين موعد المحاضرة ، ثم سلمت عليه مودعا ، وطلبت له المصعد لكى ينزل إلى مكتبه فى الطابق الأرضى ، واستكملت أنا مراجعة محاضرتى ، ولكنى فوجئت بصعود الشيخ مرة أخرى ، وبيده علبة من التمر ، متجها إلى حيث أجلس ، فهرعت إليه حتى يتوقف ، وهو يقول : كُلْ من هذا التمر حتى تستطيع أن تلقى محاضرتك ، إلى أن تعود إلى البيت .
وكان إذا علم بمرضه أحد العاملين معه – أو من أهل بيته سواء كان ابنا أو زوجة أو أما – يطمئن عليه ، ويسأل عنه ، ويدعو له ، كما يهنىء الجميع فى المناسبات السارة ، وإذا علم بوقاة أحد أقارب أبنائه العاملين معه يصلى عليه صلاة الغائب ، بل كان يصلى صلاة الغائب على موتى المسلمين جميعا من آن إلى آخر .
هذه سطور من صفحات فى كتاب كبير عنوانه : ” إنسانية القرضاوى ” .