القبيسيّات؛ الهيكليّة واللّباس (3)
بقلم الشيخ محمد خير موسى
في المجتمعات المسكونةِ بالخوف تنمو الشّائعات كما تنمو البثور في جسد المريض المنهك.
وهكذا ثارت الشّائعات الكثيرة في المجتمع حول القبيسيّات بوصفهنّ “تنظيمًا سرّيًّا”
إنَّ المتفحّصَ للجماعة يعلم بأنّه ليست لديها هيكليّة تنظيميّة بالمعنى المتعارف عليه؛ فليس لديها لوائح داخليّة أو نظام أساسيّ، ولا تخضع لآليّات واضحة في التّصعيد القيادي أو التّدرّج في المراتب.
ولكنّ هذا لا ينفي وجود هيكليّة تحكم عمل الجماعة ضمنت لها الحياة والاستمرار والانتشار وعدم الذّوبان.
على أنّ هذه الهيكليّة تغدو من القضايا التي تعرفها بنات الجماعة بالتّسريب الهادئ والتّعميم المتعارف دون أيّ تصريحٍ بها أو جرأة على السّؤال عنها.
تنقسم القبيسيّات إلى خمس:
- الآنسة ” الحجّة”
فإن أطلق هذان الوصفان دون اقترانهما باسم محدّد فإنّه لا يرادُ بهما غير الآنسة منيرة قبيسي.
وهي رتبةٌ وحدها كحال الجماعات الدّعويّة في سوريا، حيث يكون شيخ الجماعة هو المرجع الأكبر الذي لا يقطَع أمرٌ دونه.
- الآنسات الكبيرات
ويمكن أن نطلق عليهنّ مجلس قيادة الجماعة، وهنّ المقرّبات جدًّا من الآنسة منيرة ويلتقينها دوريًّا للبحث في شؤون الجماعة واتّخاذ القرارات اللازمة لها.
وهؤلاء مع الآنسة منيرة دون غيرهنّ يرتدين الحجاب الأسود فيعرفنَ به.
- الآنسات المشرفات
وهنّ آنسات الحلقات ومدرّسات المواد الاختصاصيّة، يلتقين بشكل دوري لتقييم عمل الحلقات، ويرتدين الحجاب “الكحلي”
- طالبات الحلقات الخاصّة
وهنّ اللواتي دخلن في جسم الجماعة بعد انتظامهنّ في حلقات خاصّة تؤهّلهنّ ليصبحنَ واعظات ومعلّمات القرآن بناء على معايير آنساتهنّ، ويرتدين الحجاب “البترولي؛ البحري” الذي بدأ ينحسر ليغدو الحجاب الأبيض هو الغالب عليهنّ
- طالبات الحلقات المفتوحة
وهؤلاء الطالبات اللواتي يحضرن الدّروس العامّة وليس لهنّ حلقة خاصّة بهنّ، ويرتدين الحجاب “الأبيض”
وهذا التّقسيم يقودنا بالضّرورة إلى الحديث عن نظام الحلقات الذي تقوم عليه هيكليّة الجماعة.
تنقسم الحلقات إلى أربعة أقسام، وهي:
الحلقة المفتوحة: ويطلق عليها “الدّرس العام” وهي حلقات استيعابيّة استقطابيّة، يتم من خلالها اختيار من يدخلن في إطار الجماعة فينتقلن إلى الحلقة الثّانية.
الحلقة الخاصّة الأولى: وهي حلقات تضمّ بنات الجماعة، وتنعقد بشكل أسبوعي تُدرّس فيها مناهج شرعية وتربويّة، ويتمّ التّرفيع منها بناء على اجتياز الاختبارات وتزكية الآنسة المشرفة.
الحلقة الخاصّة الثّانية: وتضمّ من تمّ ترفيعهنّ من الحلقة الخاصّة الأولى وهؤلاء يخضعن لتأهيل دعوي مركّز، وبعضهنّ تترفّع للإشراف على الحلقات
ويعتمد التّرفيع على تقييم الآنسة المشرفة لمدى ولائها للجماعة وتفانيها في خدمتها.
حلقة الآنسات: وتضمّ الآنسات المشرفات، وتدرس فيها مناهج خاصّة، كما أنّها ميدان التّباحث في تقييم الطّالبات وسير الحلقات.
حلقة الآنسات الكبيرات أو حلقة الحجّات: وتضمّ الآنسة منيرة ومعها قيادة الجماعة في حلقة يتمّ التباحث فيها أحيانًا ببعض القضايا الفكريّة والمنهجيّة، لكنّها في الأصل من أجل إدارة شؤون الجماعة.
إنَّ “الحلقة” في أدبيّات الجماعات الدّعويّة هي روح الجماعة، ويكون الهدف الرّئيس منها تعزيز الولاء والانتماء وتمتين الجبهة الدّاخليّة وبناء النّفس على الجنديّة والسّمع والطّاعة، وغرس منطلقات الجماعة الفكريّة والشّرعية وتوجهاتها العامة في الأعضاء من خلال المناهج المختارة، وهكذا هي الحلقات عند القبيسيّات.
لغايات تشكيل الذّات وتعزيز الانتماء، وتحقيق هويّة بصريّة خاصّة بها فرضت الجماعة على بناتها نظامًا صارمًا في اللّباس بقي الالتزام به بحذافيره إلى فترة قريبة، غير أنَّ الأجيال الجديدة من الجماعة غدت أقلّ التزامًا ببعض التّفاصيل بسبب غضّ بصر الآنسات حفاظًا على التفاف البنات حول الجماعة.
وتعكس هذه التّعليمات هيمنةً الآنسات على أدقّ التّفاصيل الخاصّة عند الطّالبات، وتخدم بنية الجماعة وهيكليتها العامّة بتحقيق صورة وسمت خاص متمايز، ومن هذه التّعليمات
الحجاب: ألوان الحجاب المتنقّلة من الأبيض إلى الأزرق البترولي البحري إلى الكحلي انتهاءً بالأسود ترتديها القبيسيّات بناء على نوع الحلقة والرّتبة.
ويجب على جميع القبيسيات ارتداء الحجاب بطريقة موحّدة وهي “الرّبط بعقدة” ويمنع منعًا مطلقًا استخدام الدّبّوس في تثبيت الحجاب ويعدّ وضع الدّبّوس في الحجاب إعلامًا بمفارقة الجماعة، وتقوم فلسفة الرّبط على أنّ العقدة تحمل معاني الثبات والمتانة.
ويمنع ارتداء الخمار الذي يغطّي الوجه كاملًا، كما يمنع النّقاب، ولا يقبل التحاق المنقّبات أو المغطيات وجوههنّ بالجماعة.
واستثني من هذا القرار البنات من البيئات التي تعارف أهلها على تغطية الوجه، فسمح لبعضهنّ بتغطية وجوههنّ.
أمّا اللّثام الذي يغطّي ما دون الأنف أو ما دون الفم المعروف “بالمنديل” فكان مسموحًا به فقط للآنسات الكبيرات أو في حالات استثنائيّة خاصّة.
المانطو: يجب على جميع القبيسيّات ارتداء المانطو المرتفع عن الكعبين بقدر أربعة أصابع على الأقلّ وصولًا إلى منتصف السّاقين، ويمنع منعًا باتًّا ارتداء الجلباب الطّويل.
كما يجب ارتداء “تنّورة مكسّرة” تحت المانطو، وشرط أن تكون “مكسّرة” شرط ضروري فلا تُقبَل “التّنورة السّحب” ولو كانت واسعة.
كما يمنع أن تكون “التنّورة” من الجينز ولو كانت واسعة، وعمومًا فإنّ لدى الجماعة حساسية عالية من “الجينز” وارتدائه ولو كان على شكل مانطو، خفتت هذه الحساسيّة في الفترات الأخيرة
البنطال: يمنع تمامًا ارتداء البنطال ضيقًا كان أم واسعًا، ولو كان تحت المانطو أو في البيت أمام المحارم الأب والإخوة، أو أمام البنات ولو كان في سكن للطّالبات، ويلحق به منع لبس البيجاما ولو كانت للنوم أمام أحد من المحارم أو النساء.
“القمطة”: وهي قطعة القماش التي تجمع بها المرأة شعرها وتوضع عادة تحت الحجاب، فيجب ارتداؤها عند القبيسيّات ويمنع منعًا تامًا نزعها أمام الآخرين، سواء أمام المحارم في البيت، أو أمام النساء في جلساتهنّ الخاصّة أو سكن الطّالبات.
والأكمل عندهنّ هو عدم نزع الحجاب في البيت أو في مجالس النساء، فإن رغبت بنزع الحجاب فإنّها لا تنزع “القمطة” مطلقًا.
وفي بداية تطبيق هذه التعليمات ثارت ثائرة بعض الرّجال من وضع زوجاتهم “القمطة” في البيت، وحدثت مشكلات عديدة فأصدرت الآنسة منيرة تعليماتها بأنّه يستثنى من هذا القرار المتزوّجات، ثمّ ما لبث أن خفّ التشدّد في هذه النّقطة.
لباس المنزل: يمنع ارتداء البيجاما في المنزل أو سكن الطّالبات إلحاقًا بمنع البنطال، ويجب ارتداء “قميص النّوم” الطّويل.
كما يمنع ارتداء أيّ ثياب ذات أكمام قصيرة “نصف كم” ويجب ارتداء الأكمام الطّويلة في كلّ مكان.
هذه التّعليمات ساهمت بشكل واضح في تكوين طابع خاصّ ورسم صورة ذهنيّة عن الجماعة تتمايز بها عن غيرها.
وتكوين الهويّة البصريّة هذه يشكّل حالة تكامليّة مع الهويّة الفكريّة والشرعيّة بما يخدم بنية وهيكليّة الجماعة.
وهكذا يمكننا القول بأنَّ القبيسيّات لسن تنظيمًا بالمعنى المتعارف عليه للتّنظيم، ولسن حركةً أو تيّارًا، بل هنّ “جماعة دعويّة” متينة البنية، بسيطة الهيكليّة، حرصت على التّمايز عن غيرها في بنائها الهيكليّ وفي مظهرها العامّ لتحقق خصوصيّة هويّاتيّةً في إطار الهويّة الدّعويّة الجامعة.
ولكن هل القبيسيّات جماعة سريّة؟! وما قصّة الانتقال من البيوت إلى المساجد؟
الإجابة عن هذه الأسئلة وأشياء أخرى بإذن الله تعالى في المقال القادم.
(المصدر: الجزيرة)