القائد صلاح الدين الأيوبي… الرصيد الخلقي وأثره ببروز الشخصية القيادية
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ينتمي صلاح الدين إلى عائلة كردية ، كريمة الأصل ، وعظيمة الشرف ، وتنتسب هذه العائلة إلى قبيلة كردية تعدُّ من أشراف الأكراد نسباً ، وعشيرة ، وهذه العشيرة تعرف بالرَّوادية، وهي تنحدر من بلدة دوين الواقعة عند اخر حدود أذربيجان بالقرب من مدينة تفليس في أرمينية ، وينتسب الأيوبيون إلى أيوب بن شادي ، ويعتبرهم ابن الأثير اشرف الأكراد؛ لأنهم لم يجر على أحدٍ منهم رقٌّ أبداًكما أنَّ والد صلاح الدين ، نجم الدين أيوب ، وعمُّه أسد الدين شيركوه عندما قدما إلى العراق ، و بلاد الشام لم يكونا من الرُّعاة ، وإنما كانا على درجة عالية من الخبرة في الشؤون السياسية ، والإدارية.(التاريخ الباهر في الدولة الزنكية الأتابكية ص119)
ولد صلاح الدين الأيوبي عام 532هـ/1137م في قلعة تكريت ، وهي بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى الموصل.
ويذكر صاحب وفيات الأعيان: أنَّ أيوب قد تشاءم بمولوده الجديد صلاح الدين ، وقد همَّ أيوب بقتل ولده عندما كان يصيح؛ وهو طفل؛ وهم خارجون من المدينة ، ولكن أحد أتباعه حذَّره من هذا العمل قائلاً: يا مولاي! قد رأيتُ ما حدث عندك من الطِّيرة ، والتشاؤم بهذا الصبي ، وأيُّ شيءٍ له من الذنب؟ وبم استحقَّ ذلك منك ، وهو لا ينفع ، ولا يضرُّ ، ولا يغني شيئاً ، وهذا الذي جرى عليك قضاءٌ من الله سبحانه ، وقدر ، ثم ما يدريك أن يكون هذا الطفل ملكاً عظيم الصِّيت ، جليل المقدار ، ولعلَّ الله جاعل له شأناً ، فاستبقه ، فهو طفل ، ليس له ذنب ، ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر ، والغمِّ. (صلاح الدين ، عبد الله علوان ص20)
ولقد أثرت هذه الكلمات في نفس أيوب ، وسرعان ما رجع إلى الحقِّ ، وثاب إلى الرُّشد ، واتَّبع طريق الإسلام الصحيح. (صلاح الدين لعلوان ص21)
أولاً: نشأة صلاح الدين ( رحمه الله ):
عاش صلاح الدين طفولته الأولى في بعلبك سنة (534هـ/1140م) وكان يشاهد ، ويسمع بين حينٍ ، واخر اعتداء الصليبيين على البلاد الإسلامية ، ولما قام الصليبيون بالهجوم على سهل البقاع المجاور لبعلبك سنة 546هـ تصدَّى لهم نجم الدين ، وأسد الدين شيركوه ، وهزمهما ، وأخذ منهم أسارى.
وفي السنة نفسها التحق صلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه. (لفكر السلجوقي الأيوبي ص82)
وكان أسد الدين مرافقاً لنور الدين؛ الذي تولَّى قيادة الزنكيين بعد مقتل والده. ويبدو أنَّ نور الدين كان قد أدرك قدرات صلاح الدين العسكرية ، والإدارية ، فقد ذكر أبو شامة: أنَّ صلاح الدين تقدَّم بين يدي نور الدين فقبَّله ، وأقطعه إقطاعاً حسناً، وعوَّل عليه ، ونظر إليه ، وقرَّبه، وخصَّصه، ولم يزل يتقدَّم تقدُّما تبدو منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى. وكان نور الدين يكلِّفه بالذهاب إلى عمِّه لاستشارته في قضايا تخصُّ الدولة، والمكوس، والضَّمانات ، فقد كان نور الدين يهتمُّ بمشاورة كبار قواده. وتسمى هذه الوظيفة لصلاح الدين في العصر الحديث: كاتم الأسرار وضابط الرُّكن الشخصي لنور الدين. (الفكر السلجوقي الأيوبي ص83)
وأما عن كيفية تبوُّؤ صلاح الدين الأيوبي أعماله الرسمية ، فقد فصل لنا ابن الفرات ذلك بقوله: ولم يزل صلاح الدين في كنف والده؛ حتى ترعرع ، فلمَّا تملك الملك العادل نور الدين دمشق؛ لازم الأمير نجم الدين أيوب ولده يوسف بخدمته ، وكانت مخايلُ السَّعادة على صلاح الدين لائحةً ، ومنه تعلَّم صلاح الدين طريق الخير ، وفعل المعروف ، والاجتهاد في أمور الجهاد؛ حتى ظهر للسير مع عمِّه أسد الدين شيركوه إلى الدِّيار المصرية ، ولم يزل أسد الدين امراً ناهياً بالدِّيار المصرية ، وابن أخيه صلاح الدين يباشر الأمور بنفسه بكل عنايةٍ ، وحسن رأي ، وسياسة. (الشرق الأدنى في العصور الوسطى ص54)
ثانياً: الرَّصيد الخلقي لصلاح الدين: تقواه وعبادته:
تميزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي برصيدٍ أخلاقيٍّ كبير ، ساعده على تحقيق أهدافه العظيمة ، والتي من أهمِّها: الشجاعة ، والكرم ، والوفاء ، والتسامح ، والحلم ، والعدل ، والعفو ، والمروءة ، وشدَّة لجوئه إلى الله ، ومحبته للجهاد ، وصبره ، واحتسابه ، وحرصه على العلم ، والتواضع… إلخ. وأذكر في هذا المقال أهم صفات صلاح الدين المتعلقة بتقوى الله وعبادته إياه:
1 ـ عقيدته:
وكان رحمه الله ـ حسن العقيدة ، كثير الذِّكر لله تعالى ، قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم ، وأكابر الفقهاء ، فتحصَّل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التَّشبيه ، غير مارق سهم الظر فيها إلى التَّعطيل ، والتَّمويه ، جارية على نمط الاستقامة ، موافقة لقانون النظر الصحيح ، مرضية عند أكابر العلماء ، وكان ـ رحمه الله ـ قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدِّين النَّيسابوري ـ رحمه الله ـ عقيدةً تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب ، وكان من شدَّة حرصه عليها يعلِّمها الصَّغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصَّغر ، ورأيته وهو يأخذ عليهم ، وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه ، رحمه الله!.
2 ـ الصلاة:
وأما الصلاة: فإنَّه ـ رحمه الله ـ كان شديد المواظبة عليها بالجماعة ، حتى إنه ذكر يوماً أنَّ له سنين ما صلَّى إلا جماعة ، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحدَه ويكلِّف نفسه القيام ، ويصلِّي جماعة ، وكان يواظب على السُّنَن الرَّواتب ، وكان له ركعات يصلِّيها إذا استيقظ بوقت في الليل ، وإلا أتى بها قبل صلاة الصُّبح ، وما كان يترك الصَّلاة ما دام عقله عليه ، ولقد رأيته ـ قدَّس الله روحه ـ يصلِّي في مرضه الذي مات فيه قائماً ، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيَّب فيها ذهنُه ، وكان إذا أدركته الصلاة؛ وهو سائر؛ نزل ، وصلَّى. (سيرة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، ص58)
3 ـ الزكاة:
وأما الزكاة ، فإنه مات ـ رحمه الله تعالى ـ ولم يحفظ ما وجبت به عليه من الزكاة. وأما صدقة النَّفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال ، فإنَّه مَلَك ما ملك ، ومات ولم يخلِّف في خزانته من الذَّهب ، والفضة إلاسبعة وأربعين درهماً ناصريَّةً ، وجُرماً واحداً ذهباً صُورياً ، ولم يخلِّف مُلكاً ، ولا داراً ، ولا عقاراً ، ولا بستاناً، ولا قريةً ، ولا مزرعةً ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك ، رحمة الله عليه!.
4 ـ صوم رمضان:
فإنَّه كان عليه منه فوائت بسبب أمراضٍ تواترت عليه في رمضانيات متعدِّدة ، وكان القاضي الفاضل قد تولّى ثبت تلك الأيام ، وشرع ـ رحمه الله ـ في قضاء تلك الفوائت، و ذلك بالقدس الشَّريف في السَّنة التي توفي فيها ، وواظب على الصَّوم مقداراً زائداً على شهر ، فإنَّه كان عليه فوائت رمضانين ، شغلته الأمراض ، ومُلازمة الجهاد عن قضائها ، وكان الصَّوم لا يوافق مزاجه ، فألهمه الله تعالى الصَّوم بقضاء الفوائت، فكان يصوم ، وأنا أُثبتُ الأيام التي يصومها؛ لأنَّ القاضي كان غائباً ، والطبيب يلومه ، وهو لا يسمع ، ويقول: (لا أعلم ما سيكون) فكأنه كان مُلهماً ببراءة ذمته ـ رحمة الله عليه! ـ ولم يزل حتى قضى ما كان عليه.
5 ـ الحج:
فإنه كان لم يزل عازماً عليه ، وناوياً له ، سيَّما في العام الذي توفي فيه ، فإنَّه صمَّم العزم عليه ، وأمر بالتأهب ، وعُملت الرِّفادة ، ولم يبق إلا المسير ، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت ، وفراغ اليد عمَّا يليق بأمثاله ، فأخرَّة إلى العام المقبل ، فقضى الله ما قضى ، وهذا شيءٌ اشترك في العلم به الخاصُّ ، والعامُّ. (سيرة الناصر صلاح الدين ، ابن شدَّاد ص59)
6 ـ سماعه للقرآن الكريم:
وكان رحمه الله ـ يحبُّ سماع القران العظيم ، حتى إنَّه كان يستخير إمامه ، ويشترط أن يكون عالماً بعلوم القرآن العظيم ، متقناً لحفظه ، وكان يستقرئ من يحضره في الليل ـ وهو في بُرجه الجُزئين ، والثلاثة ، والأربعة، وهو يسمع، وكان يستقرئ في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الاية ، والعشرين ، والزائد على ذلك ، ولقد اجتاز على صغيرٍ بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن ، فاستحسن قراءته ، فقرَّبه ، وجعل له حظاً من خاصِّ طعامه ، ووقف عليه وعلى أبيه جُزءاً من مزرعة ، وكان ـ رحمه الله تعالى ـ رقيق القلب ، غزير الدمعة إذا اسمع القران؛ يخشع قلبُه ، وتدمع عينه في معظم أوقاته.
تميزت شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي برصيدٍ أخلاقيٍّ كبير، ساعده على تحقيق أهدافه العظيمة التي استطاع من خلالها أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه ، وأن يكوِّن لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع ، وعسكري متمكن ، ومسلم واعٍ؛ أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبين.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
• كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418 هـ 1997م. صلاح الدين ، عبد الله علوان ، دار السلام مصر.
• الكواكب الدرية في السيرة النورية ، تقي الدين أحمد بن قاضي شهبة ، تحقيق ، محمود زايد، طبعة أولى ، بيروت 1971 م.
• الشرق الأدنى في العصور الوسطى، السيد الباز العريني.
• صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، د. علي محمد الصلابي.