الفوائد البنكية اليسيرة.. إبعاد الوهم وتقريب الفهم
بقلم د. محمد طلال لحلو
رجعت قضية الربا الى واجهة المشهد الاقتصادي والسياسي منذ بروز الفتوى الأخيرة للشيخ الريسوني. وقد ظهر لي من الضروري الرجوع لهذا النقاش بأسلوب مركز ومنظم ليستطيع المتتبع إحسان التصور. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. فحسن التصور مطلوب شرعا، ومع الأسف لم يحسن التصور من حاول تسويغ القروض بنسبة 2%. كيف؟
الواقع أن سوء التصور يتجلى من خلال عدة أمور التي اعتمدها من رخص في هذه القروض بكيفية مفاجئة. وهنا أبرز التعليلات التي جاء بها من بادر إلى الترخيص :
1. نسبة الفائدة يسيرة:
وهذا لا يصح ولا يستقيم. فاليسر في هذا المجال نسبي. وعلى سبيل المثال فالمغرب اقترض من الخارج المليارات بنسبة 1.5%. وهذه النسبة عادية في الأسواق المالية العالمية، بل هناك دول تقترض بنسبة 1% أو أقل. وقروض السكن في أوروبا تقريبا 1%. وهي نسبة عادية. فنسبة 1% على 100 مليار جد مربحة. ثم إن اليسر نسبي كذلك من باب أن معياره غير واضح. فالذين تعللوا باليسر لم يعطوا لنا ما معيار اليسر من الكثرة. وخلاصة هذا التعليل أنه لا يستقيم البتة نظرا لنسبة الفائدة العالمية السائدة اليوم، فنسبة 2% تعتبر نسبة جد عادية بل مربحة. وأخيرا فاليسر لا يعتبر في الربا، خلافا للغرر الذي يباح فيه اليسر تبعا. وقد أدهشنا وفاجأنا من شبه الربا بالغرر، من شبه واحدة من أكبر الكبائر والسبع الموبقات بمخالفة شرعية ليست من الكبائر. وقد جاء عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه: “أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا، وتدخل في بيت. ثم قال: إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا”.(البخاري.3814). فالربا حرام كثيره وقليله.
2. هناك نفقات وطوارئ وتضخم تجعل هذه النسبة قد لا تبقي ربحا، والقرض كأنه حسن.
هنا نقول أن الفتوى الحق لا تبنى على قد وكأن ويظهر وممكن وتكاد. بل تبنى على حسن التصور والدقة. ومع الأسف أخطؤوا في هذه التعليلات كلها. فالتضخم أولا ليس بتعليل للرد بالزيادة كما قرره العلماء. فالتضخم عام والاحتياجات متفاوتة، وهناك مدن فيها تضخم ومدن تتراجع فيها الأسعار. لذلك جاء في قرار المجمع الفقهي (مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي): “العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل، وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيّاً كان مصدرها بمستوى الأسعار”.(عدد 5 ، ج3 ص 1609). وهذا ما اتفق عليه جمهور العلماء من المذاهب الأربعة. ثم لنبين أن هذا التصور مغلوط، فالتضخم في المغرب الآن 0,2%، فلا علاقة له بنسبة 2% المطلوبة. أما تكاليف دراسة الملف فقد أكد لي من هو داخل المنظومة البنكية لعقود أنها لا تتجاوز 200 درهم كمعدل، وهذا ما فاجأني لكن أكد لي أن الأمر قطعي يقيني. فالتكاليف الحقيقية هي فقط ما لا يترك أي ربح للبنك. أما الطوارئ المتمثلة في خطر عدم السداد التي تعلل بها البعض، فمنعدمة هنا حيث تضمن الدولة حالات الإفلاس. وهي أصلا ليست بحجة تبيح الربا لأن العقوق متعلقة بذمم مستقلة، ولا تزر وازرة وزر أخرى. فنستخلص أن هذه التعليلات الثلاثة التي أريد من تراكمها إقناع المستمع أن نسبة 2% لا تربح منها البنوك، علل متروكة كلها وبعيدة عن الواقع الحقيقي ولا تستقيم لحظة واحدة أمام المعطيات التفصيلية.
3. القروض كأنها حسنة:
الواقع في قضية الربا أن القرض إما حسن أو ربوي، لحرمة الربا اليسير، بآية فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وبما أن المؤسسات إما خيرية أو ربحية، فنتيقن هنا أن المؤسسات ربحية فنتيقن أن القروض ربحية، إذا ربوية، دون أدنى شك. وإلا فكان على المؤسسات أن تعلن أنه عمل خيري غير ربحي وتكتفي بتكلفته الحقيقية وتخضعه لمراقبة المجلس العلمي الأعلى ليجيزه. وهذا ما لا وجود له.
4. الترخيص للطبقة الفقيرة للحاجة:
نقول هنا ان الرخصة تعطى عند غياب البديل عن الأصل. أما والمالية الإسلامية في نمو كبير في العالم، والبدائل الشرعية في بداية ظهور محتشم وصعب وجب تشجيعه وتقويمه ومساندته، فلا مبرر البتة للكلام عن الحاجة للرخصة. وهذه القروض هدفها الترويج الاقتصادي، فلا حاجة خاصة فيها منضبطة، والربا أصلا لا يباح للحاجة خلافا للغرر، بل يباح للضرورة، وهنا تعللوا بتعليل آخر
5. الحاجة اذا تنزل منزلة الضرورة:
وحقيقة الأمر أن التفصيل واجب هنا، وإلا صار كل من عطش واحتاج الماء، دون تعرض محتمل للهلاك، رخص له في شرب الخمر، ولصار كل من جاع واحتاج الطعام دون تعرض للهلاك، جاز له أكل الخنزير والميتة، ولا أعلم عاقلا يقول بهذا. إذا فالقول ليس على اطلاقه البتة. ولذلك فمن شروط الحاجة ابتداء في الأصول “ألا يكون الأخذ بمقتضى الحاجة مخالفا لقصد الشارع”. ومن شروطها العموم وعموم البلوى عند الكثير، قال إمام الحرمين في غياث الأمم:
“بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر فان الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدى الضرورة في حق الآحاد فافهموا ترشدوا”. وقال الشاطبي “ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا هل يكره على أصل الإباحة بالنقض أولا هذا محل نظر واشكال” وليس كذلك هنا اذ القروض محدودة ب8 مليار درهم ولا هلكة عامة في تركها. بل الواقع كما قال الزركشي: “الضرورة : بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم. والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم “.انتهى.
الآن وقد فصلنا في عدم إمكانية قبول أي من الحجج العامة التي تعللوا بها، وجب إيضاح مخاطر هذا التعليل على المدى البعيد ومن الناحية العامة، الذي قد يظن من علله أنه يحسن صنعا.
1. لم يذكر لنا أصحاب التعليل أن هذه القروض فيها موانع أصلية لا يجيز الدخول فيها علماء من المذهب المالكي، وهي فوائد التأخير، أي ربا الجاهلية، من باب قاعدة ما أفسد الجزء أفسد الكل في العقد. وهذا كنا ننتظر التعليل فيه أيما انتظار.
2. نسبة 2% هي نسبة سنوية وليست نسب عامة. يعني من أخذ قرضا على مليون درهم ل 20 سنة، فان مجمل ما سيؤديه من فوائد هو تقريبا 22,3% أي تقريبا 223 120 درهم بالحسابات المالية. فهل يعقل أن هذا القرض بنسبة فائدة 22,3% كما يقال في أوروبا للتوضيح le TEG (taux effectif global)، الذي على البنوك قانونيا التصريح به، هل هذا إحسان؟ هل هذا للتكاليف، التي لا تتجاوز 200 درهم في الملف؟
وحتى تكتمل الصورة، من اللازم الوقوف على الخلل المقاصدي الذي يرافق هذا التعليل، من وجوه عدة وبالنظر إلى المآل
1. هذا التعليل للفوائد اليسيرة هو نوع من التطبيع مع الحرام، وتيسير لسبل الممنوع وتقليل من خطورة الربا في أعين الناس، وهي من أكبر الكبائر الموجبة للحرب من الله ورسوله والعياذ بالله.
2. هذا التعليل يزيد من التضييق وتهميش البدائل من المالية الإسلامية والمعاملات الشرعية مثل المضاربة والمشاركة لتقاسم الأرباح والخسائر، والقرض الحسن الحقيقي المجاني. فلا ندري لماذا لم يذكر من علل هذه الفوائد البدائل الشرعية على الأقل؟
3. هذا التعليل يزيد من قوة نظام ربوي متسلط، عريق، قوي، محكم القبضة على الفقراء في العالم قاطبة، ممتص لدماء الشعوب وميزانيات الحكومات، والذي أغرق العالم في الحروب والأزمات المالية والبنكية والمجازفات والمقامرات… ومن نتائج 4 قرون من الممارسات البنكية الربوية : مليار ونيف من الفقراء، و50 أزمة مالية في ظرف نصف قرن، ونصف مليون طفل يموت سنويا في الثمانينيات بسبب برامج التقويم الهيكلي الموضوعة لتسديد الفوائد الربوية، وأكثر من مليون أمريكي متشرد مزاح من بيته بعد أزمة 2008 ومواطنون يونانيون يلقحون أنفسهم بالإيدز لأن الحكومة أوقفت كل المساعدات سوى لمن هو مصاب بالإيدز بعد أزمة 2011… ثم اليوم يجد مستندا في علماء الأمة، وهنا يبدأ حدادنا.
فالربا مؤذن بحرب من الله ورسوله، وملعون آكله وموكله وكاتبه وشاهداه، ومن أكبر الكبائر ومن السبع الموبقات، ومن أسباب الظلم والخراب… وهذا كاف للابتعاد منه بعد السماء عن الأرض.
(المصدر: هوية بريس)