مقالات مختارة

الفكر الإسلامي المعاصر وأزمة المعرفة

بقلم مهنا الحبيل

في أوج بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قلب مواجهته مع النظام المشرك المستبد في مكة، والذي نجحت دعاياته وخطابه الإعلامي في محاصرة الرسالة الإسلامية أول الأمر، لم تغب عن الصحابة في أحاديثهم وأدبهم ووجدانياتهم أشعار الجاهلية، حكمتها ورومانسيتها ورثائياتها.

وحتى الأغراض الشعرية التي رفض الإسلام تعظيمها كالفخر العشائري، والنزعة الاستعلائية الغبية في أحيان كثيرة، والتي تورد المهالك في حروب على قطيع من الأنعام أو سبق لفرس، ظلت هي الأخرى حاضرة في أروقة الصحب الأول، وهم يستحضرون كرامة الإسلام للإنسان.

واستمر أدب الجاهلية، كإشارة تسمية لعهد الجهل بمعاني الفطرة، ورسائل الأنبياء عن قصة الخلق وتوحيد العبادة، لمساواة جميع الخلائق أمام رب معبود واحد ترادفت كل أدلة الشرع والعقل وصيحات الوجدان على وجوده وأحقيته بالتوحيد، ولكن هذا الجهل لم يمنع كل الأجيال المسلمة من إبقاء أدب الجاهلية لقرون غضا طريا، يستفيدون من حكمته، ومن مسألة صفاء العقل العربي الأول من أزمات الفلسفة، والذي تجلّى عند أول إسقاط لخرافة الأصنام والشرك الجاهلي.

فهذا العربي يحمل نبض الوحي وقصة الإنسان، ويُبلّغ معالم العدالة. والعدالة والفضيلة بحسب نص المشرّع هما مسارا الرسالة في الخليقة مع توحيد المعبود، والتعامل الإنساني في حق الرافض سلميا للرسالة، وتنظيم حقوقه قانونيا. وقد كانت تلك قاعدة الدعوة الإسلامية، قبل أن يجور السلاطين عليها، وقبل أن يُعد التاريخ المنحرف عن التشريع الإسلامي، جزء من رسالة الإسلام ودعوته.

وتتابعت العهود الإسلامية وخاصة في عهد الدولتين الأموية والعباسية على اعتماد أدب الجاهلية والمشتركات الإنسانية فيه كمادة حيّة ومتفاعلة، ثم نقل من آداب الفرس والهند والإغريق ما استوعبته الحالة العربية قبل انتقال عاصمة الدولة الإسلامية المركزية للعثمانيين في الأستانة.

ومع ضمور قيم العدالة والشورى وفشو الصراعات السياسية، فإن أروقة بغداد ودمشق والمدينة النبوية ذاتها وأكناف الحجاز وما وراء النهر، ظلت تمارس حراكا فكريا وتبادلا أدبيا لم يُسجّل عليه مطلقا، ولم يُنعت بأدب المشركين أو العلمانيين أو المرتدين إطلاقا، ولم يُعلن عن آداب للإسلاميين تفرز جملة من المسلمين، بأدب مفرد دون غيرهم، أو للمسلمين دون بقية العرب ما بين تُقاتِهم ومسرفيهم، مسلميهم ومسيحييهم..الخ. لم تكن هناك أصلا جزرُ عزل بين الآداب والأفكار في العهود الإسلامية، وإن بقيت أو دُشنت آداب الزهد والوعظ، والحياة الآخرة، ودُمجت في العهد الأول كما هو في زهديات أبي العتاهية.

إن الفكرة الأساسية هنا، ومن خلال تتبع الفكر والآداب في عهد الرسالة وما تلاها في خطاب الشرق الإسلامي يقود إلى مسار تصحيحي وإصلاحي جديد للفكر الإسلامي المعاصر، والذي خضع كما بيّنا سابقا إلى عنصري ضغط غيّرا فلسفة العقل المسلم في جذور الوعي وعند دعاة نهضته، وخاصة في مدرسة مالك بن نبي والشيخ محمد الغزالي. وهذان العنصران هما التخندق وعزل الذات بعد المواجهة الأمنية التي تعرضت لها الحركة الإسلامية مع نُظم الاستبداد، وهيمنة الصحوة الخليجية أو ضغطها على منابر الفكر الإسلامي المعاصر.

وبالتالي أُعلِنت حرب ثقافية شرسة ترتد ذخيرتها على أتباع المدارس الإسلامية الفكرية ووعيهم الإنساني بل والعقلي والوجداني، تحجب الشاب عن ثقافة العالم العربي والإنساني، ومتابعة خطاب الفكر والنهضة في أروقة الوطن العربي، كانفتاح معرفي ونقدي، وليس تقليدا مطلقا.

كما عُزل الشباب عن وعي الثقافة والفكر وحراكها الحيوي المهم في مراحل الزمن المتغيرة والمتصاعدة، والتي دوّنت فيها شخصيات كبرى في الوعي خلاصة تجربتها ومعرفتها وفلسفتها التي بعضها يوافق الشريعة، وبعضها يخالفها مصادمة أو تأولا، أو هي نتاجٌ ضمن مساحة الحياد الكبرى للفكرة الإنسانية.

وقد قُطع شريان المعرفة عن الشباب الإسلامي الجديد حين أُعلن أن كل ما حوله إلا نزرا هي مكتبات الفكر العلماني المرفوض قراءته، وسقط نظام التعامل الإسلامي السلس للسلف بمعناه التاريخي والتشريعي لا المذهبي المغلق، واستُبدل بمفهوم يقول إن الغزو الفكري يحاصرك في كل مكان وإن العقل الذي وهبك الله إياه لن يعي فرز الحقيقة من الخطيئة، وإن قيم المعرفة لا يوجد لها مشتركات مشاعة بين العالم، فلا لابد من عزل العالم بالمطلق النسبي، وإعادة صياغة الفكر الإسلامي بـ”طهرانية”، قد يقرّرها واعظ لا يُحسن أبجديات الفكر ولا قيم المعرفة.

ولسنا نقصد بذلك إلغاء الحاجة إلى التدرج في ميدان القراءة، أو التأني في فهم خلاصة الرأي بل تلك ضرورة للوصول إلى حقيقة المعنى للقارئ، لكن المصيبة هي أن عزل عقل الشباب عن مشتركات الإنسانية، وخطاب المعرفة في النهضة العربية خارج دائرته الأيديولوجية قلّص مصادر الوعي الأولي والمعرفة الأساسية.

وتوسعت لديه صحراء الجهل بالأساسيات، فصعب عليه فهم أين تتفق هذه القيم والمبادئ مع رسالة الإسلام ومساحته المدنية الضخمة وأين تختلف، لأنه كان تحت ضخ مستمر بأن هناك شريعة مفصّلة لكل حادثة وفضاء فكري، حتى ولو لم يُلقنّها لفظيا فقد آمن بها في ضميره.

وهذا الفهم نقيض للشريعة لا يرضاه الله ولا يقره رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الرسالة خاتمة عهد البشرية، وروح الاجتهاد والاستيعاب قضية مركزية فيها، تتصل بالعدالة السماوية.

هذا المفهوم “الحصاري” الشرس تم تطويره بعد ذلك ليُطارد ذات مفكري النهضة الإسلاميين، وإخضاعهم لمحكمة تفتيش عقائدية تصدر بعدها لوائح تصفيات دورية بضلالهم، وبالتالي عزل مكتبتهم وآرائهم عن وعي أولئك الشباب، فلا هم قرأوا لأقطاب الفكر العربي الحديث خارج الإسلاميين، ولا اطمأنوا للإسلاميين “المختلين عقائديا” بحسب محاكم التفتيش، خاصة مع وجود لعبة أمم، واستبداد عربي حرص على هذا التجهيل وفتح أبوابه لمصالح السلطة.

وبالتالي كان من الطبيعي أن يفتقد أولئك الشباب القاعدة الأولية في المعرفة، وكان استفزازهم من بعض النخب العلمانية التي تحالفت مع الاستبداد والمشروع الغربي، عنصر تأزيم جديد، وعائق ولوج لدرب المعرفة الكبير، وفراغا يُملأ بسهولة من التطرف المدني أو العسكري.

إنه من الصعوبة بمكان تصحيح آثار أخطاء الماضي، لكن هذه العودة الجديدة للشباب العربي بتوجهه الديني الفطري، أو حتى مراجعات القاعدة الدعوية للشباب الإسلامي التي تزايد لديها رفض الوصاية، هي رسالة تحمل عزيمة قوية لدى شباب التيار الإسلامي للانفتاح على المعرفة والتيارات العربية، ومن ثم صقل أفكارهم، وبناء المشتركات واحترام منتج الثقافة العربية، ونقدها بقواعد التأصيل المعرفي لا التضليل الرغبوي، وهي مصالحة مع المعرفة قبل التيارات، ومن لم يقتنع بمصالحة المعرفة، فلا يطرح منافسة في حوار الحضارات، وقد يخسر معركة ذاته قبل رسالة إسلامه.

المصدر: الجزيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى