الفقيه السياسي: ابن حزم الأندلسي كمعارض لملوك الطوائف
بقلم محمد صلاح قاسم
جمع ضخم من أهل إشبيلية لم يُشهَد مثلَه لسنواتٍ طويلة، خاصة مع شدة وتعسف ملك إشبيلية المعتضد بن عباد، الذي كان يقبض على الأمور بقبضة حديدية منذ حوالي ربع قرن، ويمنع أي بادرة تحركات شعبية أو حتى إصدار آراء شخصية، قد يُفهَم منها إظهار المعارضة له، ولا يتوانى عن الفتك بكل من تسوّل له نفسه محاولة الوقوف ضد أطماعه وسلطانه، مثلما قتلَ بيده أحد فقهاء إشبيلية الذي جهر بانتقاد جوْره.
تبدو على وجوه المحتشدين العديد من المشاعر المحتقنة، التي يغلب عليها الحزن والألم، والذي يجاهد أكثرهم لكتمانها حتى لا تشي بصاحبها أمام المئات من جند الطاغية ابن عباد المتحفزين. كذلك يقف جمهرة من فقهاء إشبيلية، يبدو على وجوههم الرضا والحبور، وبعض من نشوة الانتصار، وهم يرقبون المئات من كتب وصحائف الإمام أبي محمد بن حزم الأندلسي وهي تلقى بين أنياب النار المندلعة في وسط الميدان،وجلُّ هؤلاء من خصوم الإمام، الذين كثيرًا ما أفحمهم في المناظرات، وألجمهم الحجة بسياط كلماته وأساليبه التي لا تعرف المداراة أو المواربة، فما كان من ضعاف النفوس منهم إلا أن ألَّبوا عليه العوام، وأوعزوا إلى طاغية إشبيلية بأنه – الإمام – من مثيري الفتنة، وفاسدي العقيدة، والمتآمرين لقلب نظام الحكم .. فكان ما كان.
سيترك ابن حزم الحاضرة الأندلسية التي دفن بأرضها رماد حصاد سنين عمره من العلم والتجربة الحافلة، ليعود إلى مسقط رأس آبائه في قريةٍ صغيرة قرب مدينة لبلة الأندلسية، ليقضي فيها شهوره الأخيرة قبل وفاته، لكن لم يمنعه هذا المنفى الإجباري الاختياري من أن يواصل واجبه الأسمى في نقل العلم إلى من كان يغشاه هناك.
رغم ما وصلنا من عشرات المصنفات مما أبدع ابن حزم في مختلف العلوم والمعارف؛ فقد نجحت المحرقة في إفناء الكثير من مصنفاته، فلم يصلنا منه إلا الاسم، أو وصلتنا شذرات عن طريق المستشرقين والمكتبات الأوروبية التي وصلها بعضه تهريبًا. لكنها – المحرقة – أثبتتْ اسمه في ثبت العظماء من أهل العلم والعمل، ودافعي الأثمان الباهظة في سبيل الصدوع بالحق الذي يرونه.
ابن حزم الأندلسي: جذور النشأة
في أسرةٍ ذات باع طويل في ميادين العلم والسياسة في الأندلس، نشأ الإمام ابن حزم المولود في جوهرة الدنيا آنذاك قرطبة، في آخر أيام شهر رمضان المبارك عام 384هـ. كان والده من الوزراء المقرَّبين من رجل الجزيرة الأول الملك المنصور بن أبي عامر، الذي ساد دولته العامرية فوق صرح الدولة الأموية الأندلسية التي أسسَّها عبد الرحمن الداخل قبل قرنيْن ونصف، ثم وزر لعبد الملك بن المنصور عندما خلف أباه بعد وفاته.
يقول الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام ابن حزم في موسوعة «سير أعلام النبلاء»:
هو الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف. أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير الظاهري صاحب التصانيف.
تلقى ابن حزم علومَ عصره منذ نعومة أظفاره في جوامع قرطبة، خاصة الفقه والمنطق والحديث النبوي. ولم يهنأ ابن حزم كثيرًا بأيام الأندلس النضِرَة، إذ لم يكد يغادر صباه إلى الشباب، حتى انهارت الدولة العامرية القوية بعد أعوامٍ سبعة فحسب من وفاة المنصور، وشهور قليلة من تولي عبد الرحمن بن المنصور مقاليد الأمور بعد أخيه عبد الملك.
كان عبد الرحمن يتصف بالسفاهة والتهور، فدخلت الأندلس بسببه منذ منتصف عام 399هـ في عصر من الفتنة العارمة، والتي كان المسرح الرئيس لمحنها ومآسيها هو العاصمة قرطبة نفسها. واستمرت الفتنة حتى عام 422 هـ، ولم تنتهِ إلا وقد جعلت الأندلس أشلاءً ممزقة، لتدخل إلى عصر ملوك الطوائف، وقد استحالت الدولة القوية الزاهية إلى أكثر من 20 دويلة تتنافس على فتات المادة الأندلسية العامرة.
في أتون ذلك المشهد السياسي والحربي المضطرب، استكمل ابن حزم دراساته وطلبه للعلم، لكنه لم ينعزل عن محاولة المشاركة بدور فعال في الأحداث الكبرى التي كانت تدور في فضاء الأندلس آنذاك. كان ابن حزم يؤيد بشدة عودة الخلافة الأموية لتقبض على زمام الأمور في الأندلس التي أحاطت بها سهام الفتنة من كل جانب، وذلك قبل أن يكون من وزراء المرتضى الأموي الذي حاول عام 409 هـ انتزاع خلافة قرطبة من البربر الذين سيطروا عليها آنذاك. ونجح البربر في هزيمة المرتضى وقتله في معركة شرسة قرب غرناطة، أٌسر فيها ابن حزم، ثم أطلق سراحه بعد سنوات.
قبل ابن حزم منصبًا وزاريًا في عهد المستظهر الأموي الذي بويع بقرطبة عام 414 هـ بعد أعوامٍ من هيمنة البربر على قرطبة، وتعسفهم ضد أهلها، إلا أن المستظهر لم يلبثْ أن قُتل بعد أسابيع في ثورة جديدة بقرطبة التي كانت كالأتون الملتهب في تلك السنوات العجاف.
خرج ابن حزم إلى شرق الأندلس، وكان تحت هيمنة الفتيان العامريين فلول دولة المنصور، والذين كانوا يتوقون لخلافة أموية شكلية يديرون الأندلس باسمها كما فعل المنصور. وقضى ابن حزم وقتًا في حاضرة الشرق بلنسية، وكان يستغل أوقاته في تحصيل المزيد من العلوم. وعندما استقرت الأمور نوعًا ما في مسقط رأسه قرطبة، بعد إلغاء الخلافة الأموية تمامًا عام 422 هـ، وغُدُوّ قرطبة دويلة مستقلة من ضمن دول الطوائف؛ عاد ابن حزم إليها.
ابن حزم: لسانٌ بتار كالسيف
إنها لفضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا هذا مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، وهم: خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام المؤيد بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بن حمود بمالقة، وإدريس بن يحيى بن حمود بببشتر.
الإمام ابن حزم ساخرًا من كثرة مدعي الخلافة في فترة ملوك الطوائف
كان ابن حزم في بداية مسيرته العلمية شافعي المذهب، لكنه ما لبث أن تبنى مذهب داود الظاهري في الالتزام بظواهر النصوص، وأضاف إليه الكثير، حتى نُسِب إليه المذهب، فقيل ابن حزم الظاهري، وظاهرية ابن حزم.
كان ابن حزم معتدًّا بآرائه معتزًّا بها، ويؤخذ عليه الحدة الزائدة في الدفاع عن آرائه، وله جدالات عديدة مع فقهاء عصره خاصة المالكية الذين كان مذهبهم الغالب على الأندلس لقرنيْن ونصف. لكن لا يعنينا هنا تتبع كامل حصيلة حياة ابن حزم العلمية الحافلة.
اشتهر به الإمام ابن حزم بسطوة لسانه، ومُضاء كلماته، في انتقاد حكام زمانه الذين مزَّقت أهواؤهم وأطماعهم الأندلس إلى أشلاء مبعثرة، وفقهائه الذي دار أغلبهم في ركاب الملوك، وباعوا ما حملته ظهورهم من العلم مقابل فتات موائد الحكام. كان الشغل الشاغل لابن حزم على أرض الواقع هو ضرورة بعث الخلافة الأموية الموحدة مجددًا في الأندلس، متمثلةً في حكومة قوية تلملم ما تبعثر من الجزيرة، ومن هنا كانت حملاته الشديدة على ملوك الطوائف الأشداء على بعضهم، الخاضعين للعدو المسيحي في الشمال، وكذلك على مُدَّعِي الخلافة الذين لا مؤهلات لهم سوى الطمع.
يقول عنه المؤرخ ابن حيان الأندلسي: «فلم يكُ يلطّف صدعَه بما عنده بتعريض، ولا يزفُّه بتدريج، بل يصُكُّ به معارضه صك الجندل .. فينفر عنه القلوب، ويوقع بها الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنَّعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه».
على أن البعض يرمون ابن حزم بالتناقض في هذا الباب، إذ كيف ينكر مظالم الحكام المستبدين، وهو المدافع العتيد عن كل تراث بني أمية شرقًا وغربًا، وهم أول من أسَّس دولة الاستبداد في الإسلام؟!
لكن قد يُعتَذر عنه بأن الدافع الرئيس لذلك هو الفارق الشاسع بين ما رآه بأم عينه من حكومات الطوائف الذليلة، وما طالعه – وتاقت نفسه إليه – كمؤرخ متبحر من قوة بعض الدول الأموية كدولة معاوية، وكالدولة الأموية الأندلسية في عهود الداخل وابنه هشام، وعبد الرحمن الثاني، والناصر، والحكم المستنصر. لكن عمومًا يحسب لابن حزم شجاعة الجهر بالحق دون خوف من بطش طغاة الطوائف الذين لم يكن أيسر عليهم من التنكيل بمعارضيهم.
في فصل «خواص عصر ملوك الطوائف» من موسوعة دولة الإسلام في الأندلس للأستاذ محمد عبد الله عنان، لم يجد الكاتب أفضل من كلمات وآراء ابن حزم الصريحة في الصفحات من ـ 420 إلى 423، ليستدل بها على طبيعة تلك الأيام التعيسة، حيث ينقل الكاتب رد ابن حزم الصارم عندما سُئِل عن فتنة الطوائف، فاجاب بأن حكام الطوائف محاربون لله ولرسوله، ومفسدون في الأرض، يفرضون الضرائب الباهظة على شعوبهم لجمع الأموال لينفقوها في الإغارة على غيرهم من المسلمين، وفي الإنفاق على بذخهم وشهواتهم.
وكثيرًا ما فنَّد ابن حزم الأدلة المتهافتة التي يبرر به الحكام وشيوخهم فرض تلك الضرائب غير الشرعية عن الناس، وجعل فرضها نقضًا لشرائع الإسلام، وحلًّا له عروة عروةً، ويعتبرها بمثابة خلق دين جديد ما أنزل الله به من سلطان.
في سياقٍ متصل؛ نجد ابن حزم يمطر حكام الطوائف بلعناته، جزاءً على استنصارهم بالممالك المسيحية ضد بعضهم البعض، وبذلهم الجزية وتنازلات عديدة مقابل ذلك، ويزيد قائلًا: «والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، وربما أعطوْا المدن والقلاع للنصارى طوعًا، فأخلوها من الإسلام، وعمروا بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلَّط عليهم سيفًا من سيوفه».
كذلك في رسالة «التلخيص لوجوه التخليص»، أثخن ابن حزم في شيوخ السلطان، الذين جرؤوا الحكام الطغاة على استبدادهم، فباؤوا بإثمٍ مضاعَف، فقال مخاطبًا قراءَه: «لا يغُرَّنّّكم الفساق المنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلد الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرَّهم، الناصرون لهم على فسقهم».
من أجل كل ما سبق، لم يكن مستغربًا أن يتحالف الطرفان ضد الرجل، وما تمثله كلماته من سطوةٍ للحق يخشونَها، لكنِّهم ما فعلوا سوى أن زادوا كلماته سطوةً، ومنحوها خلود التضحية، بعد أن خلَّدَها صاحبها بإقامة علمه عملًا.
عجباً لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم .. إن كل العلماء عيال على ابن حزم
الخليفة الموحدي المنصور أبو يوسف يعقوب، أثناء مروره على قبر ابن حزم بقريته الصغيرة، عائدًا من غزو البرتغال عام 587 هـ.
(المصدر: موقع “إضاءات”)