الفقيه الحنفي المفسر الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني
كاتب الترجمة محمد ميسر بشير المراد
بعد مرور ثماني سنوات على رحيلك سيدي، أجد لزاماً علي أن أنشر الكلمة التي ألقيتها في اليوم الثاني للعزاء مع الترجمة الكاملة في يوم الجمعة / 12 / ربيع الآخر / 1434 هـ / الموافق 22 / 2 / 2013 م
في صالة برج البوخمسين بالشارقة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، القائلِ في كتابه العزيز: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)، والقائلِ لحبيبه ومصطفاه: (إنك ميت وإنهم ميتون)، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على مَنْ خيرَه ربُّه بين الحياة الدنيا الفانية، وبين الحياة الأخرى الباقية فاختار الخالدة الباقية (بل الرفيقَ الأعلى) صلى الله عليه وعلى آله الطيببين الطاهرين، وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
رحمك الله شيخنا ووالدنا الغالي أبا نور الدين، كنتَ لنا والداً شفوقاً رحيماً، وعمَّاً عطوفاً وأخاً كبيراً حنوناً، بعد فَقْدِ والدنا ونحن في ديار الغربة.
حقاً لقد كنتَ من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضيتَ نحبكَ ولم تبدِّل ولم تغير شيئاً، ما عُرفَ عنك هفوةٌ ولا كبوةٌ، وما عُرفَ عنك سقطةٌ أبداً، فقد كنتَ رجلاً عالماً عاملاً ناصحاً، وقَّافاً عند حدود الله، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بلطفٍ وأدبٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، كنتَ متقياً لله حق تقاته، ورعاً – أحسبك كذلك ولا أزكي على الله أحداً – زاهداً في هذه الدنيا الفانية، كنتَ قوَّاماً في الليل، حريصاً على أداء النوافل بَلْهَ الفرائض في جماعة المسجد، كنتَ كثير الذِّكر لله رب العالمين، كثيرَ تلاوة الأوراد اليومية، فكان لسانك لا يفتُرُ عن ذكر الله تعالى، وهذا حال الصالحين من هذه الأمة.
تَعَلَّمْنا منك الأدبَ الرفيع الجمَّ مع الكبار والصغار، مع العلماء والجهال، تعلمنا منك التواضعَ والسكينةَ ومحقَ الذات، تعلمنا منك الصبرَ على الشدائد في المُلِمَّات، تعلمنا منك الصمتَ حين ينفع الصمت، والكلامَ حين ينفع الكلام، فكنتَ لا تتكلم إلا بما هو مفيد نافع ممتثلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، تعلمنا منك الحرصَ على الوقت، فكنتَ لا تُضيع لحظةً واحدةً ولا ثانيةً إلا استفدتَ منها بقراءة أو كتابةٍ أو موعظةٍ، وكنتَ حريصاً على العلم الشرعي وطلبه في كل وقت، حاثّاً ومشجعاً عليه بهمةٍ عاليةٍ، وكم كنتَ تسألني عن رسالة الدكتوراه وأين وصلت، وتحثُني على الإسراع بها، وكم فرحتَ حينما علمتَ بأن ولدي إبراهيم قد دخل كلية الشريعة وحمدت الله كثيراً، وشجعتَه على طلب العلم الشرعي بقولك: ” إن العلماءَ لا تصيبهم فاقةٌ ولا فقرٌ، فهم لا يحتاجون لأحد من الخلق بل الخلق محتاجون لهم “
لا أنسَ أنك عرَّفتني على أمهات كتب الفقه الحنفي التي لم أكن أعرفها من قبل، وآخر كتاب تكرَّمتَ علي وراجعتَه لي وأنت – في مرضك – هو (الأربعون المرادية) شرحٌ لواحدٍ وأربعين حديثاً كان قد جمعها جدي العالم الفقيه الشيخ أحمد بن الشيخ محمد سليم المراد رحمه الله وكم فرحتَ به وعلقتَ عليه، وطلبتُ منك تقديماً له لكن لم يقدِّر الله ذلك فعاجلتك المنية.
عرفتك سيدي منذ الصغر صهراً لعائلتنا (آل المراد) حينما كنت تأتي زائراً لنا في حماة قادماً من المدينة المنورة أو بعدها من دمشق، ثم عرفتك أكثر في المدينة المنورة أثناء دراستي فيها وقد التزمت معك بدرس في الفقه الحنفي في كتاب ” اللباب في شرح الكتاب ” مع بعض الأحبة والأقارب في بيت ابن عمي الشيخ مصطفى المراد، وكنت تأمرَني بقراءة العبارة الفقهية – حتى أتعلم – ثم تشرح أنت، ثم عرفتُك أكثرَ وأكثرَ حينما قدِمْتَ الإمارات وعملتَ في كلية الدراسات الإسلامية والعربية، حيث التزمتُ معك بدرس في كتاب ” الاختيار ” في الفقه الحنفي وذلك في بيتك العامر بالشارقة، وكم كنت تهتم بالدليل للمذهب الحنفي، لذلك عندما وصلت إليك رسالة دكتوراه لأحد تلامذتك الألبانيين وهي بعنوان ” التعريف والإخبار بتخريج أحاديث الاختيار ” لمؤلفها ” قاسم قطلوبغا الحنفي ” طلبت مني أن أخرِجَ كلَّ حديث وأنقلَ تخريجه على هامش كتاب الاختيار وأقرأَه عليك أثناء الدرس معك.
كيف أنساك سيدي وقد كنت لي والداً بعد والدي كيف أنساك؟؟؟ رحمك الله وجزاك عني وعن المسلمين أحسن الجزاء.
أيها الاخوة الكرام: أجد لزاماً علي ووفاءً ببعض حق شيخنا علي أن أقدم كلمةً موجزةً تُعَرِّفنا بشيخنا وبمراحل حياته، فقد عشت مع الشيخ وهبي – رحمه الله – سنيناً غيرَ قليلة، وكانت تربطني به أكثرُ من رابطة، منها الرابطة العائلية، ومنها الرابطة العلمية إذ تلمذت له، وصحبته، وجالسته، فرأيت فيه العالمَ الصالحَ الورعَ، الذي لا يألو جهداً في نُصرة الدين وخدمة العلم والمسلمين، غيرَ أنا نجهل الكثير من تفاصيل حياته.
ومما درج عليه الناس أن لا يكتبَ عن العالِم إلا بعد وفاته، وإذا ما وقعت قاموا يبحثون هنا وهناك عن تفاصيل حياته ومؤلفاته وما يتعلق به، وقد تسعفهم المعلومات أو بعضها وقد لا تسعفهم، وكنتُ قد استقيت هذه المعلومات، وما يعرفنا به وبجهوده – على كرهٍ شديدٍ منه – مباشرة من فمه في بيته بالشارقة عندما أكرمنا الله وأقمنا له حفل تكريم ووداع في دبي عام / 2001 م، ثم بعد سنوات كتب – رحمه الله تعالى – ترجمة مختصرة عن حياته وتفضل علي بنسخة منها فأضفتها إلى ما عندي من معلومات. فكانت هذه المعلومات التي أتشرَّف بذكرها بين أيديكم.
مولده ونشأته:
هو الشيخ وهبي ابن الشيخ سليمان ابن الحافظ خليل
ولد الشيخ في بلدة اشقودرة في شمال ألبانيا في شهر حزيران سنة / 1342 هـ – 1923 م /، وهي ذات أغلبية مسلمة من بين باقي بلدان ألبانيا، تربى في كنف والده الفقيه الحنفي الشيخ سليمان بن خليل غاوجي، حيث كان الوالد يجمعهم ويقْرئُهم القرآن الكريم ومبادئ الإسلام، وفي سن الخامسة من عمره أدخله والده الكتَّاب، وفي سن السابعة دخل المدرسة الابتدائية الحكومية، وكان في استراحة الظهيرة يذهب إلى الكتَّاب ليتابع تعليمه للقرآن الكريم، وهكذا كان يفعل في الصيف، وتعلم قراءة القرآن وبعض مبادئ الإسلام فيما يسمى (علم الحال) العقائد – العبادات – وبعض مكارم الأخلاق.
بعد انتهائه من المرحلة الابتدائية سنة / 1936 / م لم يتابع الدراسة لأن الملك أحمد زوغو كان قد أصدر أمراً بسفور النساء عن وجوههنَّ، وبوضعِ الطلاب والموظفين لـ (البرنيطة) على رؤوسهم – تشبُّهاً بالكفار – فمنعه والده من متابعة الدراسة وكان خيراً له.
هجــرته وطلبه للعلم:
وفي سنة /1937/أعد والدُه الشيخ سليمان وأخوه الشيخ محمد مع العائلة العدةَ لترك البلاد والهجرة إلى بلاد الشام فراراً بدينهم، وكان ذلك خيراً والحمد لله.
وفي صيف / 1937 / كانت الهجرة بحراً من ألبانيا إلى بلاد الشام، وكان عمر الشيخ آنذاك ثلاثَ عشرة سنة، واستقر والده في دمشق في حي الديوانية، حيث تولى إمامة مسجد العمرية نائباً عن المفتي الشيخ محمد شكري الأسطواني.
بعد وصولهم إلى الشام بشهرين عرض عليه والده رحمه الله تعالى الذهاب إلى الدراسة في الأزهر الشريف لتعلم العربية وتلقي العلوم الشرعية فيه، وكان قد سبقه أخوه الكبير شوكت إلى الدراسة فيه.
وفي الشهر العاشر من سنة / 1937 / م سافر الشيخ إلى الأزهر وعلم بإجراء امتحان قبولٍ في اليوم الثاني، فدخل الامتحان الذي كان في (تلاوة القرآن) ونجح وأصبح من اليوم الثاني من إقامته في مصر طالباً في معهد القاهرة الذي يكون بعد الابتدائية.
وفي سنة / 1939 / م أتيحت للشيخ فرصةٌ للدخول في كلية الشريعة فتقدم إلى الامتحان كالأجانب أي – غير المصريين – فنجح ودخل كلية الشريعة.
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: وكانت لغتي ضعيفةً، وهمتي لطلب العلم وفيرةً، ونجحت في سنوات كلية الشريعة الأربعة بانتظام والحمد لله وكان ذلك سنة /1945/ م وانتسبت إلى تخصص القضاء الشرعي الذي ألغاه فيما بعد عبد الناصر، وتخرجت فيه بعد سنتين أي سنة / 1947 / م. وهكذا نال الشيخ الشهادة العالمية الأزهرية التي تعادل الدكتوراه في زماننا فكانت مدة دراسة الشيخ بالأزهر كلُّها عشرَ سنين.
ثم أضاف الشيخ قائلاً: ورجعت إلى سورية وكان الوالد رحمه الله تعالى يرغب أن أدخل القضاء الشرعي، ولم يرد الله ذلك لي فلم أتولَّ القضاء، وتقدمت بعد ذلك بسنة أي سنة / 1949 / م للقبول مع مدرسي التربية الإسلامية في وزارة المعارف، فنجحت والحمد لله وعُينت للتدريس في حلب في مدرسة للبنات وأخرى للبنين، ثم أُفردت بمدرسة البنات، وبعد خدمة ثلاث سنوات في حلب نقلت إلى دمشق.
وخلال فترة تدريسه في حلب تعرف على العم الشيخ محمد علي المراد رحمه الله تعالى وقويت الصلة بينهما إلى أن تزوج الشيخ وأخوه من شقيقتي الشيخ محمد علي المراد.
يقول الشيخ وهبي رحمه الله: وتزوجت سنة /1951 / من بيت علم ودين (عائلة المراد) في حماة، وبقيت أُدَرِّس في دمشق في المدارس الرسمية وأُدَرِّس دروساً تطوعيةً في بيوت الله تعالى، وربما بلغت هذه الدروس ثمانيةَ دروس في الأسبوع، ومنها درس التفسير في جامع الروضة والذي استمرّ عشر سنوات والحمد لله.
استقر الشيخ في دمشق إلى سنة / 1965 م، وخلال هذه الفترة دَرَّسَ في كلية الشريعة بجامعة دمشق سنة واحدة، وكان من جملة طلابه سنة / 1961 / الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي حفظه الله، ثم بدأ في هذه الفترة يكتب المقالات الإسلامية في المجلات والصحف الموجودة: المنار – الأيام – التمدن الإسلامي.
في الأربعين من عمره بدأ في التأليف فألف: أركانَ الإسلام الخمسة في خمسة كتب، وأركانَ الايمان وغيرها، حتى بلغت/ 40/ كتاباً، وكلها مطبوعة ولله الحمد.
وفي سنة / 1966 / م سافر إلى الرياض للتدريس في كلية الشريعة بجامعة محمد بن سعود الإسلامية، لكنه عُينَ في المعهد العلمي الثانوي التابع للجامعة ولم يعَينوه في الكلية مع أنَّ العقد معهم على كلية الشريعة لكنهم لم يوَفّوا بعقدهم، وبقي الشيخ فيه سنة واحدة، وأثناءها فاوض الجامعة على التنازل عن ثلث راتبه وبدل السكن الذي يعطى للمدرسين مقابل نقله إلى المدينة المنورة فوافقت الجامعة – كل هذا من كثرة حبه الشديد وشوقه العظيم إلى المدينة المنورة وساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام – وانتقل إلى المدينة المنورة مدرساً في المعهد المذكور، وبقي فيها خمسَ سنوات، ثم عاد إلى دمشق سنة / 1972 / م وبقي مدرساً في ثانوياتها إلى سنة / 1980 / م حيث أحيل إلى التقاعد، ثم هاجر إلى المدينة المنورة فعمل مدرساً في المعهد الثانوي في الجامعة الإسلامية فترة قصيرة، ثم نقل إلى مركز البحث العلمي في الجامعة، وكان خيراً له حيث كانت فيه ثلةٌ من العلماء الصالحين على رأسهم العالم الفقيه الأديب اللغوي الشيخ أحمد قلاش رحمه الله تعالى، والدكتور زهير الناصر، والعالم المحدث الشيخ محمد عوامه، والأستاذ نعسان عرواني رحمه الله تعالى، والشيخ محمد صالح المراد، وبعد فترة من الزمن ضويق الشيخ في الجامعة بسبب كتابه / أركان الإيمان / فقدَّم استقالته، وقُبلت في المرة الثانية وخرج من الجامعة.
بقي في المدينة المنورة قرابة سنة بدون عمل، ثم سافر إلى الأردن واستقر في عمان، وخلال هذه الفترة ألف كتابه ” التعليقَ الميسر على ملتقى الأبحر ” في الفقه الحنفي، وكتابه ” الإيمان بالله تعالى ” وفي سنة / 1986 / م قدم إلى دبي وعمل مدرساً لمادة الفقه في كلية الدراسات العربية والإسلامية، وعمل كذلك نائباً للمدير ورئيساً لقسم الفقه لمدة سنة، واستمر يدرس في الكلية إلى سنة / 2001 م.
وقد أكرمني الله تعالى مع بعض الإخوة أحبة الشيخ أن أقمنا حفل تكريم وتوديع لشيخنا وفاء ببعض حقه علينا في بيت أخينا الأستاذ زياد كحالة بدبي وذلك يوم الخميس / 22 / ربيع الأول / 1422 هـ الموافق / 14 / 6 / 2001 / م وقد اجتمع عدد كبير من العلماء وأحباب الشيخ وتلامذته، وكان على رأسهم الشيخ الفقيه الأستاذ الدكتور إبراهيم السلقيني رحمه الله تعالى والأستاذ الدكتور محمد عجاج الخطيب والأستاذ الدكتور محمد الزحيلي والأستاذ الدكتور مصطفى مسلم وشيخنا الشيخ عبد الكريم تتان والدكتور عبد الرزاق الكيلاني والدكتور مأمون الشقفة رحمهما الله والأخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس وغيرهم، ولقد تكلم كلُّ من ذكرت بكلمات طيبة جميلة في حق الشيخ رحمه الله تعالى، وألقيت بعض القصائد الشعرية من قبل الدكتور مأمون الشقفة والدكتور عبد الحكيم الأنيس، ومن جملة ما قاله الدكتور مأمون شقفة:
صدقوني أني أشعر بأني أقل بكثير من أن أتكلم في هذا المقام، ثم أضاف قائلاً: سأحكي لكم حكاية:
من زمن وأنا في هذا البلد، كان هناك رجل كبير في السن لحيته بيضاء وجهه منوَّرٌ، كلما رأيتُه في المسجد أو في الطريق أجد لهفةً ومحبةً في قلبي له وحينما أسلم عليه أحاول أن أقبِّل يده، فمرةً أنجح ومراتٍ لا أنجح، ومرت السنون وسمعت بمجيء الشيخ وهبي سليمان غاوجي إلى الإمارات، فلما التقيته فإذا هو الشخص الذي أحببته وكنت أحاول تقبيل يديه، فأمام الشيخ الجليل اسمحوا لي أن أقول هذه الأبيات:
لو كان ظلُّكَ يشترى يا سيدي لشريتُه بالمال كلِّه
ولزمتُه طولَ الحياة كظلِّه أو ظلِّ ظلِّه
إنا نعيش بعالمٍ فيه القليل من الجواهرْ
ما للكنوز النادراتِ إذاً تسافرْ
سافر فإنك ههنا في كلِّ قلبٍ من قلوب العاشقينْ
جاؤوا إليك مكرِّمين مودعينْ
يتأملون النورَ في هذي العيونْ
يارب ما هذا الجمال على وجوه العابدين الذاكرينْ
هيا انظروا في وجهه شيخٌ كبيرٌ واهنٌ
لكنه والله أجمل من نساء العالمين
ومن الحدائق والزهور ونزهة المتنزهين
يا سيدي ارفع يديك إلى السماء
امنن علينا بالدعاء
من أعذب الألحان في الدنيا دعاء الصالحين.
رجع الشيخ – رحمه الله – إلى دمشق، واستقر بها وبدأ يدرِّس في معهد الفتح الإسلامي مادة الفقه الحنفي من كتاب ” الهداية ” للإمام المرغيناني.
شخصيته:
كان رحمه الله جميل الصورة، أبيض البشرة، حسن الهيئة، تعلوه نظرة أهل الفقه، ونور العلم، كث اللحية، طويل القامة، مهيب الطلعة، متميزاً بأناقته وحسن لباسه وطيب رائحته، متمثلاً للأخلاق النبوية حريصاً على السنن، حريصاً على أداء الصلاة جماعةً في المسجد مهما كانت ظروفه، ملتزماً بآداب الإسلام في جميع أموره، متواضعاً يكره المتعالمين والمتكبرين، ويكره التشبه بالكافرين للكبار والصغار، وقد أخذ عمن دونه في العلم والسن، ولا يذكر نفسه بصيغة الجمع كما يفعل بعضهم، ولا يرى نفسه في جنب علماء الإسلام وأئمة السلف بل يعتبر نفسه طالب علم فقط، حلو الحديث، عذب المنطق، رشيق العبارة، لا تفارقه الابتسامة، قريباً من قلوب جلسائه، يأسرهم بطيب حديثه، سريع البديهة، القلوب تتعلق به حتى من مخالفيه، حليماً كثير العفو والصفح، أديباً حيياً لا يؤذي أحداً بكلامه، لا يخرج الكلمة حتى يزنها، لا يغضب إلا لله، ولا يحمل حقداَ على أحد، ولا يقوم بالأمر حتى يزنه بميزان الشرع الدقيق، ظريفاً خفيف الروح يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ذواقاً إلى حد بعيدٍ في ملبسه ومشربه وكتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، سريع الدمعة كثير العبرة يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، شديد المحبة والتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة المنورة.
مؤلفاته:
ألف الشيخ – رحمه الله – في اللغتين العربية والألبانية.
– ففي العربية كتب أربعين كتاباً: في الفقه الحنفي والتوحيد وفضائل القرآن والشخصيات والسيرة النبوية، وكان آخرها كتابَ:
(محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم الذي أهدانيه ومهره بتوقيعه الكريم.
– وفي اللغة الألبانية كتب ثلاثةً وعشرين كتاباً في الفقه والتوحيد والسيرة.
-شارك في تأليف كتب في الفقه الحنفي للمدارس الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف السورية.
– كتب قريباً من / أربعمائة / مقال في مجلة حضارة الإسلام الدمشقية، ومجلة التمدن الإسلامي، وجريدة المنار، بالإضافة إلى مقالات نشرت في مجلة منار الإسلام في أبو ظبي، ومجلة الضياء، ومجلة كلية الدراسات العربية والإسلامية في دبي.
– زار الشيخُ الدكتورَ مصطفى السباعي – رحمه الله تعالى – في مرضه الأخير وأعطاه مقالاً في الرد عليه في موضوع الاشتراكية، فنشره بحاله كما هو ولم يغير فيه شيئاً، وهذا من أخلاق الإسلام التي تخلق بها، فقد كان الشيخ السباعي- رحمه الله تعالى – صاحبَ خُلُقٍ وصاحبَ غَيرةٍ وحرقةٍ على الإسلام، وكان عالماً. كما قال الشيخ وهبي رحمه الله تعالى
– قدَّم لتفسير / نسمات القرآن /، ولبعض كتب الدكتور عبد الرزاق الكيلاني رحمه الله، ولكتاب / شرح جوهرة التوحيد / لشيخنا الشيخ عبد الكريم تتان حفظه الله تعالى.
– كتب مقالةً عن كتاب / تربية الأولاد في الإسلام / فجعلها الشيخ عبد الله علوان رحمه الله تعالى في مقدمة الكتاب.
– راجع كتابي / الله – الإسلام / للشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى.
– شارك في لجنة الفتوى في دائرة الأوقاف في دبي.
– له مجلدان للفتاوى في كلية الدراسات العربية والإسلامية بدبي.
دروسه وخطبه:
– كان يخطب الجمعة في جامع الأرناؤوط في دمشق، وكان يدرِّس في جامع الإيمان، وجامع الروضة، وجامع البعيرة، دروسَ الفقه والتفسير.
– حين حُررت يوغوسلافيا من الحكم الشيوعي سافر الشيخ رحمه الله تعالى إلى ألبانيا ست مرات في ست سنوات متتابعة في العطلة الصيفية منذ عام / 1991 م للدعوة إلى الله تعالى، فكان يلقي الدروس في مساجد اشقودرة – مسقط رأسه – وغيرها، وقد بدأ الدرسَ بشخص أو اثنين إلى أن امتلأ المسجد والحمد لله، وكان يمضي كل وقته في المسجد للتعليم و عمره قريباً من / 70 / سنة، وكان يدرس كتبه فيها باللغة الألبانية: أركان الإسلام – أركان الإيمان – الحلال والحرام – وسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان تاج الكتب الألبانية كتابَ (الرحمة المهداة) وهي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد طبعت أكثر من مرة، ويبلغ ما كتب الشيخ رحمه الله تعالى باللغة الألبانية أكثر من /20/ كتابا هي مطبوعة والحمد لله.
شيوخه وإجازاته:
أما شيوخه – رحمه الله – فقد أخذ عن والده الشيخ سليمان بن خليل غاوجي، وعن الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت الشهير بـ (الحافظ) وعن الشيخ أبو اليسر عابدين، وحضر على الشيخ حسن حبنكة الميداني، ومن شيوخه في الأزهر: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محسن أبو دقيقة، والشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد علي السايس وغيرهم،
وأما إجازاته: فقد أجازه والده الشيخ سليمان بسنده عن شيوخه في ألبانيا، وأجازه الشيخ عناية الله نابي الشهير بـ (الأسكوبي) بسنده عن شيوخه في مقدونيا، وأجازه الشيخ محمد علي المراد، وعن الشيخ محمد زاهد الكوثري، وأجازه الشيخ محمد شفيع العثماني مفتي باكستان، وولدُه الشيخ محمد التقي العثماني، وأجازه الشيخ محمد الحامد، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وأجازه الشيخ السيد محمد علوي المالكي، والشيخ محمد عاشق إلهي البرني مفتي الباكستانيين في المدينة المنورة رحمهم الله والشيخ سعد الدين المراد
أقوال العلماء فيه:
قال عنه الشيخ عبد الكريم الرفاعي شيخ دمشق وفي مرضه الأخير في أوائل السبعينات من القرن الماضي:
الشيخ وهبي سليمان غاوجي فقيه دمشق في الفقه الحنفي.
ولقد صدقَ بهذه المقولة، فالعلماء والأولياء والصالحون والعارفون يعرفون بعضهم فإذا لم يكن الشيخ وهبي – وهو المتواضع الخفي البعيد عن الأنظار الذي لا يحب الظهور وخصوصاً في دمشق وهذا خلق وطبع فيه بدون تكلف – فقيه دمشق في المذهب الحنفي فمن يكون إذاً؟؟؟؟ والله لقد وجدت في كتبه بعض الدقائق والمسائل العويصة التي لا توجد إلا عند كبار المحققين في المذهب وهذه شهادة أمام الله تعالى.
قال عنه العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (رحمه الله):
“الأخ الكريم المفضال الأستاذ الشيخ وهبي سليمان غاوجي حفظه الله ونفع بعلمه وفضله العباد والبلاد” (الرياض 9-3-1390 هـ).
قال عنه الدكتور مصطفى سعيد الخن (رحمه الله): “لقد عشت مع الأخ الكريم الشيخ غاوجي حقبة من الزمان في مجالات متعددة فلم أر فيه إلا الرجل الصالح الناصح الداعية إلى الله على علم وهدى ونصيحة…”.
وفاته:
بقي شيخنا رحمه الله في دمشق إلى ما قبل شهرين تقريباً من هذا التاريخ حيث خرج منها عن طريق مطار بيروت وهناك في المطار تعمَّد تأخيره عن السفر جماعة من حزب الشيطان قرابة / 12 / ساعة وفاتَه موعد الطائرة، والشيخ مريض يعاني من ضعف شديد في القلب ومن امتلاء الرئتين بالماء ومن ضعف عام في الجسد، وفي اليوم الثاني الذي وصل به إلى الإمارات أدخل المستشفى وفي قسم العناية المشددة، وبقي فيها أكثر من أسبوع، ثم خرج من المستشفى، وبعد قرابة الشهر أدخل مرة أخرى بحالة إسعاف لضيق تنفسه وأدخل العناية المشددة واكتشف الأطباء بوجود التهاب حاد في الرئة اليمنى وبقي يتعالج أسبوعين، لكن الله أراد أن يسترد وديعته ويأخذ أمانته وينهي حياة هذا العالم المجاهد من هذا البلاء الذي هو فيه، وبعد رحلة طويلة امتدت تسعين عاماً أمضاها في علم وتعلم ودعوة إلى الله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وحث على طلب العلم وترغيب فيه، وبعد مغرب يوم الثلاثاء / 9 / ربيع الآخر / 1434 هـ / 19 / 2 / 2013 م فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها تاركة وراءها الحسرة والألم واللوعة بين أهله وتلامذته ومحبيه. وقد غُسل وكفن وصُلي عليه ودُفن في مقبرة القوز بدبي بعد صلاة عصر الأربعاء / 10 / ربيع الآخر / 1434 هـ / 20 / 2 / 2013 م، وقد أمَّ الصلاة عليه فضيلة شيخنا الشيخ عبد الكريم تتان حفظه الله في جمع غفير من أحباب الشيخ وأصحابه وتلاميذه وأقاربه.
ومن عجيب التدابير الإلهية أن شيخنا توفي في هذا الشهر /شباط -فبراير / وهو نفس الشهر الذي حصلت فيه مجزرة حماة الكبرى وراح ضحيتها أكثر من أربعين ألفاً ومنهم (علماء عائلة المراد) أصهار الشيخ وذلك في سنة / 1982 م أي قبل / 31 / سنة.
رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جنانه وعوضنا الله عنه خيراً وألهمنا وأهله الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)