بقلم د. حذيفة عكاش
في القرن الخامس عشر الميلادي دخلت الطابعة من أوربا إلى ديار المسلمين، فصدرت الفتاوى بتحريمها، بحجج مختلفة كالخوف على المصحف والكتب الشرعية من التحريف، وخوفاً من اعتماد العلماء وطلاب العلم على الطباعة فيتركون النَّسْخَ اليدوي وبالتالي ينسون العلم، والخوف على مصير من يعملون بنَسْخِ الكتب، وبالمقابل سُمِحَ لغير المسلمين باستخدام الطابعة؟!! وبعد مئتي سنة سُمِح باستخدام الطابعة!!
مئتا سنة ونحن محرومون من الطابعة بسبب فتوى مَنْ يخشَون من الطابعة!! حياتنا مليئة بالوسائل التي يمكننا استخدامها بالحلال والحرام، فكلّ أعضاء جسدنا يمكن أن نستخدمها بالحلال أو بالحرام، والكأس يمكن ملؤه بالماء أو بالخمر، السيارة نذهب بها للمسجد أو للسرقة، المطبعة يمكن أن أطبع بها كتاباً نافعاً، ويمكن أن أطبع بها خرافاتٍ وكفراً، السينما يمكن أن نمثّل بها فِيلماً هادفاً مسلياً، ويمكن أن نصوّر بها فِيلماً يدعو للمحرمات.
فالوسائل من حيث الأصل هي مباحة، واستخدامها في الحلال حلال واستخدامها في الحرام حرام. مع الأسف، أغلب الوسائل الجديدة تأتينا من الغرب، لأننا أمة مستهلِكة لما ينتجه غير أبنائها، والسيناريو الدائم الذي يتكرر مع كل وسيلة جديدة هو: أننا نقاوم الجديد بفتاوى التحريم لأن كثيرين يستخدمونها بالحرام مثل: المطبعة والتلفاز والسينما والإنترنت.. ثم يغلبنا الواقع ويستمر الناس باستخدامها، ولا يلتفت لفتاوى التحريم سوى الملتزمون، وتحت ضغط الواقع الغلاب تخف لهجة الإنكار، ثم يُسكت عن الموضوع، ثم تظهر فتاوى التحليل لعموم البلوى، وعندها يكون بعض الخيّرين قد اقتحموا تلك الوسيلة واستخدموها بالخير فيكون ذلك (حُجّة) لبعض المفتين أن يحلّلوا هذه الوسيلة ويوجّهوا نحو استخدامها بالخير.
وكان الصواب أن نوجّه الناس لاستخدامها بالخير من أول لحظة، بدلاً من دخول هذه المتوالية المتكررة: (وسيلة جديدة ثم تحريم ثم قهر الواقع ثم سكوت ثم تحليل وتوجيه) فالتوجيه لاستخدام هذه الوسيلة بالخير يأتي في هذه المتوالية بعد سنوات من ظهور الوسيلة الجديدة ودخولها لواقعنا، فيكون المفسدون قد سيطروا على تلك الوسائل وملؤوها بفسادهم.. وربما أصبحت تلك الوسائل “موضة قديمة” وظهر غيرها، فيوجّه العلماءُ الناسَ للاستفادة منها بنشر الخير.. لكن الأوان يكون قد فات أو أوشك أن يفوت، كما يقول المثل: “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”.. فالمفسدون قد سبقوا وتصدّروا المشهد وملؤوا الساحة.. وأهل الخير مهما أسرعوا فلن يلحقوا بالمفسدين أو ينافسوهم، فضلاً عن أن يسبقوهم!
بعض المفتين كلّما جاءه أمرٌ جديد وقف منه شاكّاً مرتاباً، وتهيّب الحكم بالحلّ والإباحة، فيحكم عليه بالحرمة احتياطاً! مع أنّ الاحتياط يكون بــ”التوقّف” وليس الاحتياط
وهكذا فالفتاوى أغلبها التحاقي بالواقع، تتبع الواقع، وتأتي بعده، بدلاً من توجيه الواقع وسبقه وإرشاده. كيف نسبق الواقع؟ -مثلاً- بالتوجيه لصناعة وسائل جديدة.. لكن بما أننا ما زلنا مستهلكين لما يصنع غيرنا، فعلى الأقل نوجّه لاستخدام الجديد في نشر الخير، بدلاً من تحريم تلك الوسائل.. والدخول بالمتوالية المتكررة.. (تحريم، الواقع لا يستجيب، تحليل وتوجيه).
صحيح أن الوسائل الحديثة تسهّل الحرام، لكنها أيضاً تسهّل الحلال، فلماذا نأخذ السيناريو الأسوأ دائماً؟!! وعلى أية حال، فالذي سيرتكب الحرام، سيرتكبه بأية وسيلة متاحة، ويبقى إثمُه عليه، لأنه هو استخدم هذه الوسيلة الجديدة بالحرام، لكن لا نحرّم الوسائل الجديدة لإمكانية استخدامها بالحرام، وإلا فيتوجّب علينا قَلْعُ أعيننا لأننا ربما ننظر بها للحرام، ونقطع أيدينا لأننا ربما نستخدمها بالحرام وهكذا.. وما دمنا محافظين على هذه المتوالية فسيسيطر المفسدون على مواقع التأثير ويكثر شرُّهم وينتشر، ولو وجّهنا بفتاوينا وإرشادِنا نحو اقتحام الخيّرين للواقع في كلّ الميادين، لكان وجود أهل الخير يخفّف من الشرّ ويكثِّر الخير..
بعض المفتين كلّما جاءه أمرٌ جديد وقف منه شاكّاً مرتاباً، وتهيّب الحكم بالحلّ والإباحة، فيحكم عليه بالحرمة “احتياطاً”!! مع أنّ الاحتياط يكون بـ”التوقّف” وليس الاحتياط “بالتحليل” ولا “بالتحريم”، لأنّ الأصل بالأشياء الإباحة، فالورع ليس بتحريمها بل بتركها على أصل الحلّ، حتى تثبت علةُ التحريم (إن وُجدت). والإسلام قد هدّد من “يحرّمون الحلال” ومن “يحلّلون الحرام”، قال تعالى “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ” واختصّ الإسلامُ “المحرّمين للحلال” بحملة أشدّ وأعنف، نظراً لما في هذا الاتجاه من تضييق على البشر لما وسّعه الله تعالى.
قال تعالى “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ” وقال سبحانه وتعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” أما الورع والاحتياط فهو تصرّف شخصي يأخذ به المرء نفسَه بترك ما يرتاب فيه خوفاً من الوقوع بالمحرّم، وليس فتوى تعمّم على الناس. الفقه الانسحابي عن الحياة والاعتزالي عن الواقع، لن يُخرج أمةً فاعلة حاضرة في كل ميدان.. نريد الفتاوى الإيجابية الاقتحامية التي تجعل الصالحين يشتبكون مع الواقع، ويسخّرون الوسائل الحديثة بالخير وللخير، يمشون بنور قوله تعالى: ” قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ رب العالمين”.
(المصدر: مدونات الجزيرة)