مقالاتمقالات مختارة

الفقهاء والثورة.. أزمة النخبة الفكرية في مناخ سياسي متقلِّب

الفقهاء والثورة.. أزمة النخبة الفكرية في مناخ سياسي متقلِّب

بقلم د. العربي إدناصر

عرف المجتمع الإسلامي حالاتٍ من الصدام بين فواعله، وخاصةً بين القوى الساعية إلى امتلاك السلطة، بما هي عنوان التحكُّم في المجتمع. وقد كانت السلطة السياسية منبعَ قلقٍ لثلَّة من الجهات، خصوصًا المشتغلة في حقل المعرفة، التي هي بدورها تمثِّل نوعًا من السلطة المعنوية التي تطمح إلى قيادة المجتمع. من هنا، وقع صراعٌ بين النخبة المثقفة وبين رجل السلطة، سواء كان سلطانًا أو ملكًا أو أميرًا أو خليفة.

ومن جهة المثقفين، فقد تشابك الفيلسوف والفقيه والمحدث والمؤرخ والشاعر وغيرهم مع غريمهم في السلطة، وهو السياسي الذي يمتلك السلطة العملية الفعلية في مقابل السلطة العلمية النظرية التي يحوزها المثقفون.

وإذا استحضرنا بأن “كل طرق المعرفة في الإسلام تؤدي إلى السياسة”[1]، فبالنتيجة يجد المثقف المسلم نفسَه في مواجهةٍ مستمرة ومبدئية مع السلطة الفعلية، التي بدورها تستند – فيما تستند إليه – إلى مرجعية نصيَّة تؤكِّد على ضرورتها وعلى أحقيتها بالطاعة والاعتراف[2].

إلا أن نصيب المثقف من هذا الصراع بينه وبين السياسي هو المحنة، التي لازمته في كل صور المواجهة مع خصمه التقليدي، وقد جمع أبو العرب التميمي نماذجَ الكثير منها في كتابٍ سمَّاه “المحن”. وقليل من المثقفين هادنوا السلطة السياسية، واستطاعوا أن يحفظوا لأنفسهم مساحةً للتعبير والبوح، والاحتفاظ برمزية السلطة، التي يقابلها الرضوخ لإملاءات السلطة السياسية والسعي في دروبها دون معارضة، مقابل السماح لهم بممارسة نشاطهم الفكري في المجتمع. وربما لجأ بعضهم إلى الاشتغال بأنواعٍ من المهن المرموقة التي تغطي على خلفياتهم المعرفية وأفكارهم الغريبة، مثلما حصل لنخبة من الفلاسفة المسلمين والمسيحيين الذين اشتغلوا بالطب ومداواة السلاطين والأمراء كالرازي مثلًا، بما يسمح لهم بدخول قصورهم والاطلاع على خططهم وأسرارهم، ثم تمكينهم من بثِّ بعض أطروحاتهم، وترويجها بجواز الطب الذي يجلب لهم عطفَ السياسي وحمايته.

وينضاف الفقهاء وبعض المحدثين إلى هؤلاء الفلاسفة، في رضوخهم لبطش السلطة وتماهيهم مع تقلباتها وانعطافاتها، مقابل إبقائهم ضمن حاشية السلطان وخَدَمه الذين يستمدون منه الهيبة والقوة، التي يحتاجونها في المحافظة على مراكزهم أو ما تبقى منها، حتى لا تلحق بهم المعرَّة وشظفُ العيش والغربة في الأوطان، وبالأحرى لكي لا يزج بهم في سراديب السجون والمعتقلات، أو يُنفَوا من الأرض مذلولين.

ويمثِّل الفقهاء أساسًا الحالةَ الأكثر شيوعًا ضمن نظيراتها من الصور، التي تعرَّض لها المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، بحيث إن المهمَّة الجسيمة والحساسة التي يزاولها الفقهاء جعلت منهم موضعَ شكٍّ من قِبل السلطة السياسية، ويشكِّلون الخصم الحقيقي لهم، بوصفهم جهةً لا تمارس التنظير فقط في المجال العلمي، بل إن دورها مركزيٌّ في المجال العملي أيضًا، بما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع الغريم التقليدي: رجل السياسة.

فمهمَّة الإفتاء والقضاء كافيةٌ لجلب الوجاهة والسلطة المعنوية التي يريد السياسي الاستفراد بها، في محيطٍ لا يعرف إلا الاضطراب والقلاقل، بما يحتاج إلى علاقات تفاهمٍ أو إخضاعٍ تمكِّن من إحكام القبضة على المجتمع وعلى روَّاده.

الفتوى في عمقها ومدلولها قولٌ في الشأن اليومي، أما إذا تعلَّقت بشيء من أمور السياسة العامة للدولة، فهي أشبه ما تكون بقرار سياسيٍّ استباقيٍّ

فالفتوى في عمقها ومدلولها قولٌ في الشأن اليومي، أما إذا تعلَّقت بشيء من أمور السياسة العامة للدولة، فهي أشبه ما تكون بقرار سياسيٍّ استباقيٍّ، وبالتالي تحوز صفة السلطة العامَّة والمنفعة العامَّة، التي هي من اختصاص السياسي، الذي يرفض أن يشاركه فيها طرفٌ آخر، وخصوصًا إذا كان يستمدُّ هيبته من المقدَّس الديني.

أما القضاء فقد شكَّل دومًا محكًّا لمدى استجابة الفقهاء لإملاءات السلطة السياسية من عدمها؛ لأن القضاء يمثِّل الجانب الإلزامي في السلطة العلمية في الفضاء العام، بحكم انبناء المعاملات والأقضية على الفقه والشريعة، مما يُخشى على هذا المنصب أن يخضع للتحكُّم والتوجيه من الخارج؛ ولذلك لطالما تهرَّب الفقهاء من تولي هذه المهمَّة الجليلة، مخافة السقوط في شرك السلطة السياسية، وابتغاء الخلوة والتزكية في مقامٍ تحفُّه المكاره.

وهذا هو فتيل الأزمة بين المكونين، بحيث يناور رجل السلطة من أجل حجب المثقف عن الشأن العام، والدفع به إلى الاقتصار على أمور الأفراد في الإفتاء والوعظ، بحسبان أن الأمور العامَّة هي من اختصاص المؤسسات والهيئات العامَّة، التي تتبع إداريًّا وسياسيًّا للقصر.

لكن الأمور الخاصَّة عادةً ما تنتهي في أيلولتها الجدلية إلى حديثٍ في الشأن العام، فما يُفْرد من أسئلة تتعلَّق بالأشخاص إذا عمَّت بها البلوى تتحوَّل إلى قضية عامَّة وشائكة، وعلى أساسها يتحوَّل الفقيه من إفتاء في مسألة خاصَّة إلى إبداء الرأي في موضوعٍ عام، بما يجعله ينافس الجالس على السلطة ويزاحمه في موقعه المعنوي.

وبذلك يحصل الاشتباك وتتقاطع المهام، وينقلب التنازع على الاختصاص إلى حالٍ من الافتراس، بحيث يندلع الصراع من أجل الغَلَبة وفرضِ الشوكة، وعادة ينتصر السياسي على المثقف؛ لأنه مسنودٌ بالجند والعتاد والمكْر، فيستولي بذلك الأول على نفوذ الثاني وينزع عنه مفاتيح القوة، ويضعها في يد من يأمن بأسه من المتزلِّفين والقانعين بأدوار إضفاء الشرعية على الواقع لا غير، ويُتهم هؤلاء عادة بأنهم وعاظ السلاطين؛ لأنهم عملاء في صورة علماء[3].

وثمة فقهاء أعلنوا عن نوايا سياسية في ثوراتهم ضد السلطة، وأبانوا عن طموحٍ زائدٍ عن أغراض الفكر والتنوير، نحو إعلان إرادة الهيمنة وحيازة السلطة السياسية والحكم، كما في ثورة “ابن أبي محلي”[4]، الذي كان له مشروع سياسيٌّ يتمثَّل في إعادة إحياء أمجاد “سجلماسة”، وقيل إنه ادعى أنه المهدي المنتظر، وأعلن الجهاد على السلطان المغربي المولى زيدان عام 1020هـ – 1612م، وانتصر عليه في ثلاث معارك أوصلته إلى الاستيلاء على مراكش.

ويشكِّل هذا الفقيه نموذجًا من النماذج القليلة التي كُتب لها النصر والتمكين والغلبة على السلطة، في حين تعثَّرت أسماء وأعلام أخرى في إحراز التمكين؛ إمَّا بسبب ضعفها وقلَّة حيلتها، وإمَّا بقصد حقن الدماء وعدم الخروج على الإمام والجماعة وإثارة الفتنة. وهو الأمر الذي يسجِّله التاريخ للأئمَّة أبي حنيفة ومالك وابن حنبل؛ فالأول رفض تولي القضاء وامتُحن لأجله مرتين زمن الأمويين والعباسيين، والثاني رفض الإفتاء بفتوى سلطانية تحت الإجبار، والأخير ارتبط اسمه بمحنة خلق القرآن.

وكلُّهم رغم مكانتهم وعُلو شأنهم وبُعدهم عن الخوض فيما يتعلَّق بالتدبير السياسي، تعرضوا للتهديد والتنديد، بل والتنكيل لرفضهم مجاراة رغبات السلطة، وهو أمر يُفهم من كونهم يدشنون لنوعٍ آخر من الثورة الهادئة، وهي ثورة المعرفة التي تنحو منحى الاستقلال عن السلطة.

وهذه الاستقلالية هي التي يحاكيها عنوانٌ لمؤلَّفٍ معروفٍ لابن قيم الجوزية، وهو يحمل هذا الهمَّ الأخلاقيَّ وسمَّاه: “إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين”، للدلالة على فصل الفتوى والقضاء والوعظ عن الأغراض الدنيوية، وعن الطموحات السياسية التي تنافي حيادية العالم واستقلالية رأيه عن أولي الأمر.

لكن كيف يصنع الفقيه وهو المأمور شرعًا بنقد انحرافات المجتمع والدولة معًا، وهو مؤتَمن على سلامتهما دينيًّا ودنيويًّا، فلا مندوحة من أن يجد نفسه ضمن إشكالاتٍ لها أبعاد مركَّبة لها علاقة بجهاتٍ متعدِّدة، وضمنها السلطة السياسية. فهو بهذا موجود بالقوة في تجلياتها ومجالاتها، وكلُّ ما يسطِّره ويصدر عنه يزكِّي وجودها فيها بالفعل، فحياده إذن محفوف بالمخاطر من جهة صلته بحفظ الدين، ومن جهة صلته بحفظ الأمن الفكري للمجتمع، فهو في هذا المقام وريثُ النبوَّة وسليل الأنبياء برابطة البلاغ والبيان للناس.

هذا إذا استحضرنا أن أسلاف الفقهاء كانوا هم الأمراء والخلفاء أيام العصر الراشدي (وكما حصل لاحقًا في تجربة عمر بن عبد العزيز والعز بن عبد السلام وعبد الله بن ياسين وابن تومرت)، ولم تكن السلطة الدينية والسلطة السياسية قد انفصلتا بعدُ، لكن لمَّا افترقتا أصبح صعبًا على الفقيه أن يظلَّ حبيس سلطته الدينية؛ لأنها ما وجِدت إلا لتقول كلمتها في ما يجري على الواقع من معضلاتٍ ونوازل وقضايا.

فالسكوت عن القول كتمانٌ للحقِّ وثلمة كبيرة، وهو مذموم بنصِّ الوحي؛ لأن فيه ظلمًا للخلق وفسادًا في الدين[5]، لكنه في الوقت ذاته مفضٍ إلى الكلام في أمور ليست من اختصاصه، مع ما يستتبع ذلك من مساءلة سياسية يوقعها رجال السلطة عليه، فهو إذن بين حالين متناقضين: المصارحة أو المصارعة، مما ينمُّ عن أزمة واقع لدى الفقيه؛ فإمَّا أن يركن إلى الضمير الذي يستحضر به مخافة الله، وإمَّا أن يخضع للظهير الذي عُيِّن به من قِبل الحاكم.

فهو حتمًا مجبور على الولاء لإحدى الجهتين، وتصعب المهمَّة إذا تبادرت تباشير البطش السياسي، الذي أرعب الفقهاء من الوقوف في وجه السلطة، وهو ما يفسِّر ظهور أدب النصيحة كتعبيرٍ عن مخرجات اللاتصادم، وكتنفيسٍ عن كربة السكوت المطلَق والمطبِق.

فراجت كتابات نصيحة الملوك، وأدبيات الآداب السلطانية، التي تتوخَّى جانب اللِّين واللُّطف مع الجالسين على العرش، كاختيارٍ يقي المجتمع من الفتنة ويحافظ على الحدِّ الأدنى من السلطة المعنوية لأهل المعرفة، وتطبيقًا للحكمة التي تقول: “ما لا يُدرك جلُّه لا يُترك بعضُه”.

وحتى ما كُتب تحت عنوان السياسة الشرعية جزء كبير منه يدخل ضمن التكييفات التي يُجريها الفقهاء على أفكارهم، تنقيحًا لها أمام جبروت السلطة وأمام تعنُّت الواقع السياسي؛ لأن آداب الروم وفارس تغلغلت في مفاصل السياسة زمن الأمويين والعباسيين، وصار عصيًّا الإبقاء على روح الخلافة الراشدة، اللهمَّ إلا من بعض حروفها التي اختلطت بمداد الإمبراطوريات المجاورة.

ثم إن للشوكة والغلبة التي نزل بثقلها الحكَّام على المجتمع مفعولًا كبيرًا في تقليص نفوذ أي معارضة كيفما كانت، ما عدا إذا صاحبتها تعزيزات عسكرية مكافئة. لكن كل سلطة تعود لتأسيس كيانها الخاص الذي يشكِّل الفقهاء جزءًا منه، يضعونهم للمشورة وتزيين مجالس الحكَّام، فيما تظلُّ الاستقلالية عن النفوذ السياسي حالاتٍ شاردةً لا يُقاس عليها.

ولذلك عاب ابن خلدون على العلماء خوضهم في السياسة وهم أبعد عنها، لقلَّة تجربتهم وتعويلهم في أنظارهم على القياس أولًا، ثم لضعفهم وزهد بضاعتهم في مجلس الحاكم الذي يَستأنس بهم فقط[6].

ولكل هذه المحاذير قلما يصادم الفقيه غريمه السياسي، حتى لا يصادر موقعه ويرميه بخلع الطاعة؛ ولذلك لانَ جانبُ المعرفة في حضرةِ السلطة، وظهر ذلك في مواقف الفقهاء من شروط الوليِّ الشرعيِّ، التي تنازعتها آراؤهم وشهدت مواقفهم بشأنها اضطرابًا كبيرًا، إلى أن تهاوت الواحدة تلو الأخرى بشكل تراجيديٍّ، حتى أعلن بعضهم قوله: “من اشتدَّت وَطْأَتُه وجبت طاعتُه”[7]. واشتهر الرأي الفقهي الذي يدعو إلى تنصيب إمامٍ عادلٍ بدل الإمام الشرعي، استبقاءً لرسوم الشريعة في حفظ الأحكام وتطبيق الحدود التي ترسخ الأمن والعدل.

فبدل أن ينقل الفقهاء الثورة إلى الميادين والأسواق والقصور، للاحتجاج على رؤوس السلطة التي لا تلتزم بضوابط الخلافة والولاية، أنجزوا ثورةً على أنفسهم من خلال تكييف آرائهم مع جبروت السلطة، ثم برفع الملام عن الأئمة الأعلام فيما لا تجري به الأحكام عند السلطان.

ومع ذلك، يحفظ لنا التاريخ واقعةً شهيرةً خرق فيها أهلُ العلم هذه القاعدةَ الاجتماعية والسياسية، ولعل ثورة ابن الأشعث على نظام حكم الأمويين في شخص الحجاج بن يوسف الثقفي ثم بعد ذلك الانقلاب على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان من أكبر سوابق الثورة في الإسلام، حيث جرى التوتُّر بين الجمهور ورأس الدولة، وحدث تغييرٌ في تكييف مفاهيم الطاعة والجماعة إزاء المشكلات المجتمعية الطارئة، ولا يضاهي هذه الثورة العارمة إلا ثورة الحسين بن علي في كربلاء التي استشهد فيها.

وإن كان بعض المؤرخين يستعملون بعض الأوصاف بخصوص ثورة ابن الأشعث كنوعٍ من النقد الخفيِّ والامتعاض بشأنها، حيث يُعَنون ابن كثير مثلًا هذه الحادثة “بفتنة ابن الأشعث”،
وربما يرجع هذا الوصف إلى السبب المباشر في اندلاع هذه الثورة من أساسها، والذي كان شخصيًّا بين زعيمي هذه الواقعة.

فيذكر ابن كثير في سبب هذه الفتنة: “أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه، وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه”[8]. ورغم أن هذه الثورة تشكِّل انقلابًا سياسيًّا بين زعيمين سياسيين: الحجاج وابن الأشعث، فإنها مسنودةٌ برأي أهل العلم الذين يشكِّل الفقهاء عمدتهم، فقد خلعوا بيعة الحجاج وثاروا عليه، لِما ظهر منه من الفساد والزيغ عن الحقِّ، وأعلنوا بيعة ابن الأشعث وساروا في دربه القاصد إلى الإطاحة بالحكم الإقليمي للحجاج ثم الحكم المركزي لعبد الملك.

يقول ابن كثير: “ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بها وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف، وقال لهم ابن الأشعث: ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك لنقاتله، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقرَّاء والشيوخ والشباب”[9].

شكَّلت فتاوى الفقهاء ردحًا من الزمن مانعًا من موانع التغيير أمام حركة المجتمع

وأمام قلَّة هذه النماذج الثورية، فقد شكَّلت فتاوى الفقهاء ردحًا من الزمن مانعًا من موانع التغيير أمام حركة المجتمع، الذي يصبو إلى الحرية والانعتاق من الاستبداد، باسم الوحدة والجماعة والطاعة لوليِّ الأمر[10]، فصار الخوف من الفتنة بل التخويف منها أحد أهم كوابح إنجاز دولة الحقِّ والقانون والشريعة[11]، إلى أن ضُربت رمزية المؤسسة الفقهية نفسها وتهاوت أمام جبروت السلطة[12].

فترسيم هذه المؤسسة وجعلها جهازًا إداريًّا تابعًا للبلاط، أفرغها من محتواها الاجتماعي والعلمي والنضالي، وأبطل فيها مفعولَ المقاومة لمساوئ الزمن، ولم تنفلت من هذه الرقابة إلا أسماء خارج المؤسسة الرسمية، التي اختارت أن تستقلَّ برأيها فضلًا عن تمويلها الذي تجنيه من عوائد الكتب وغيرها.

وقد برزت حكاية العلاقة بين الفقه والسلطة من جديدٍ في إطار ظروف ما يُسمَّى بالربيع العربي، حيث تذبذب الموقف الفقهي من الحراك الاجتماعي بين مناصر ومعارض، بدعاوى قديمة بالجنس حديثة بالنوع؛ إنها تصف حالة الأولية التي يقيمها الفقيه في تدبير الصلة بين الدين والدولة.

إنها إشكالية حاجة الدين للدولة من حاجة الدولة للدين، وبحكم أن الفقه السياسي السلطاني ظلَّ في مرحلة من مراحله أسير التقليد السياسي الفارسي، فإنه لم يستطع الخروج من مأزق توأمية الدين والدولة التي نظَّر لها العهد الأردشيري[13]، وظلَّ الفقيه الكبير الماوردي ينافح عنها بتبريراتٍ فقهية واجتماعية[14].

ومشكلة الفقهاء المعاصرين أنهم سقطوا في فخٍّ جديد، فهم إمَّا أنصار «دولة الإسلام السياسي» التي نادت بها الحركات الإسلامية المعاصرة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وتؤمن بالإسلام باعتباره نظاما سياسيا للحكم. وإمَّا أنصار الدولة السلطانية التي لم تتخلَّص من أَسْر التقليد الفقهي الفارسي، ولم تنقدح صورة الدولة الوطنية الحديثة في ذهنية هؤلاء وأولئك، مما أسهم في توسيع الشقَّة بينهم في النظر إلى مآلات المجتمع المدني المعاصر.

فـ«دولة الإسلام السياسي» التي هي دولة قابعة في ذهنية تجريدية هلامية تتنازعها مفاهيم وصور متعدِّدة (الخلافة على منهاج النبوة، والشورقراطية، والديمقراطية المتدينة، ودولة مقاصد الشريعة)، فهي خليط بين ما هو تاريخي وما هو راهني، وتعبِّر عن أزمة أو مأزق التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والتجارب المحتشمة للإسلاميين في الحكم تؤشر على طبيعة هذه الإشكالية، النابعة من صدمة اللقاء مع الغرب في مسألة الدولة الحديثة (آخرها فشل تجربة إخوان السودان المتحالفة مع العسكر).

فأصحاب نظرية «دولة الإسلام السياسي» جعلوا من الحاكم رأسَ المشكلة، فطالما هو في السلطة فلا تغيير يرجوه أهل الإسلام ما لم يتزحزح رأس الدولة من مقامه؛ بينما أصحاب نظرية الدولة السلطانية جعلوا جماع الأمن والسلامة في هذا الرأس الذي تُسْتَدرُّ به المصالح العاجلة والآجلة، فأيما مساس به هو تصرُّف بالمفسدة في حقِّ المجتمع[15].

وهنا يعاكس الفريقان قانون التغيير بسرعتين مختلفتين، في جعلهما مناط التغيير في الحاكم المتوحد، بينما تكْمُن مشكلة السلطة السياسية في حقيقتها الجوهرية، أي في بنيتها التكوينية، بحيث لم تدخل أدبيات المواطنة والحقوق السياسية بمفهومها الكوني مجال التداول في الحكم، وظلَّت الثقافة السياسية رهينة الآداب السلطانية والأدبياب الإخوانية.

وهو ما يجعل تغيير الأنظمة أسرعَ من تغيير العقليات؛ إذ تهوي رؤوس سياسية كبيرة لكن بنية السلطة التحكُّمية تظل قابعةً في الأذهان، وفي النُّظم التربوية، وفي الفضاء العام؛ لأن الثورة تغييرٌ في الأسباب قبل النتائج، وعملٌ يمسُّ النواة قبل القشرة.


الهوامش:

[1]  عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1/1994، ص9.

[2]  من بينها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (سورة النساء الآية 59). وحديث: “السلطان ظلُّ الله في الأرض” رواه البيهقي في: شعب الإيمان، تحقيق أبي هاجر زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/2000، رقم الحديث 7373، 6/17-18. وحكم الألباني بوضعه في: سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، مكتبة المعارف بالرياض، ط1/1993، تحت رقم 475، 1/678. والحديث الذي نصه: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية” رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، رقم الحديث 1850.

[3]  انتقد تاج الدين السبكي هذه النماذج في شهادة خاصَّة بقوله: “فكم رأينا فقيهًا تردَّد على أبواب الملوك فذهب فقهُه ونسي ما كان يعلمه…”. معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق جماعي، دار الكتاب العربي بمصر، ط1/1948، ص68.

[4]  القصة أوردها أحمد بن خالد الناصري في كتابه: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، باب نهوض ابن أبي محلي إلى سجلماسة ودرعة واستيلاؤه عليها ثم على مراكش بعدها. وللتوسُّع في فهم حركة الفقيه الثائر ابن أبي محلي، يُرجى مطالعة أطروحة الدكتور عبد المجيد قدوري المعنونة والمنشورة باسم: ابن أبي محلي الفقيه الثائر ورحلته الإصليت الخريت، الرباط، منشورات عكاظ، 1991.

[5]  من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (سورة البقرة، الآية 159). وقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، الآية 42). وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة البقرة، الآية 140).

[6]  انظر: مقدمة ابن خلدون، وهي الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المسمَّى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس الأستاذ خليل شحادة، مراجعة الدكتور سهيل زكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 1421/2001، الفصل الثاني والأربعون: في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، ص745-746.

[7]  لخَّص فقهاء المالكية الكلام في الإمامة في جملة واحدة وهي: “من اشتدَّت وطْأَتُهُ وجبت طاعتُه” انظر ذلك في: محمد عليش، شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، وبهامشه حاشيته المسمَّاة تسهيل منح الجليل، دار صادر، باب في بيان حد وأحكام الباغية، ج 4، ص456. والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام المالك لأحمد الدردير، وبهامشه حاشية أحمد الصاوي، إخراج وتنسيق مصطفى كمال وصفي، القاهرة، دار المعارف، باب البغي، ج 4، ص426.

[8]  ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود، دار الكتب العلمية ببيروت، الجزء التاسع، ط1/2008، 9/37-38.

[9]  ابن كثير، البداية والنهاية: 9/40.

[10]  إن الخلل في علاقة الحرية بالطاعة يشكِّل مرضًا مفصليًّا في كل الحركات المجتمعية التي تنادي بالتغيير، وهو نوع من البنية المارقة التي تتسرب إلى كل التنظيمات مهما ادَّعت نشدان الثورة والإصلاح. ومن هنا يُعاب على الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة التي تريد تغيير الأنظمة والمجتمع أنها “بالغت في ترويض أعضائها على طاعة القيادات، أكثر مما دربتهم على محاسبة ونقد وتقويم هذه القيادات، وليس يكفي أن يقال إنها طاعة في غير معصية؛ ذلك أن الخلل في علاقة الطاعة بالحرية على النحو الذي لا ينمِّي في الأعضاء ملكات النقد والفحص وشجاعة الاعتراض عند توفر دواعيه، إن هذا النمط في تربية أعضاء هذه الحركات هو بالقطع معصية من معاصي التربية في هذه الحركات، لأنها تثمر – وقد أثمرت – وحدانية الرأي، رأي المرشد والأمير والإمام”. محمد عمارة، من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، ضمن كتاب الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم عبد الله فهد النفيسي، مكتبة آفاق للنشر والتوزيع بالكويت، ط1/2012، ص346-347.

[11]  لعل عبارة “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم” تمثِّل أقدم فتوى ترجِّح كفَّة الاستبداد على الفتنة تفضيلًا للأمن على العدل. وهذا الأثر رواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن عمرو بن العاص إذ قال لابنه عبد الله: “يا بني، سلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم”. انظر: محمد بن مكرم المعروف بابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الفكر بدمشق،  ط1/1988، 19/251.

[12]  وهذا هو رأي الأشعري الذي تشكِّل آراؤه مجمل عقائد أهل السنة، إذ يقول: “ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة”. الإبانة عن أصول الديانة، بيروت، 1985، ص23.

[13]  عهد أردشير، نشر إحسان عباس، بيروت، 1967، ص54.

[14]  الأحكام السلطانية، مصر، نشرة مكتبة الحلبي، 1966، ص5.

[15]  يمثلِّ هذا الاتجاه المرجعية الفقهية ذات النزعة التقليدية من السلفيين والصوفيين معًا، وتشكِّل حالة مصر نموذجًا على ذلك؛ إذ لا يتطرق هؤلاء في آرائهم الجذرية لتغيير الحاكم مخافة منازعته فيما ليس لهم.

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى