مقالاتمقالات مختارة

الفتوحات الإسلامية .. حقائق وشبهات

بقلم الشيخ العلامة يوسف القرضاوي – موقع الشيخ القرضاوي

الذي أراه ويراه المحققون المتدبرون للتاريخ، الذي يقرأونه قراءة صحيحة غير سطحية ولا معتسفة: أن الفتوح الإسلامية كان لها أهداف عدة:

1-أنها أرادت كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة، التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى كلمة الإسلام، دعوة القرآن، التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، وتريد أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير. وهو ما عبر عنه القرآن على لسان فرعون قديما حينما أسلم سحرته، وأمنوا برب موسى وهارون (قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم… فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف لأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) (طه:71).

هذا كان حكم الأكاسرة والقياصرة والملوك في ذلك الزمن: حاجزا حصينا دون وصول الدعوة العالمية إليهم. ولهذا حينما بعث رسول الإسلام برسائله إلى هؤلاء الأباطرة والملوك، يدعوهم إلى الإسلام: حملهم– إذا لم يستجيبوا للدعوة – إثم رعيتهم معهم. فقال لكسرى: “فإن لم تسلم فعليك إثم المجوس” وقال لقيصر: “فعليك إثم الإريسيين” وقال للمقوقس في مصر “فعليك إثم القبط”.

الناس على دين ملوكهم

وهذا يؤكد المثل السائر في تلك الأزمان: الناس على دين ملوكهم. فأراد الإسلام أن يرد الأمور إلى نصابها، ويعيد للشعوب اعتبارها واختيارها، فلا يختارون هم بأنفسهم لأنفسهم. ولا سيما في هذه القضية الأساسية المصيرية، التي هي أعظم قضايا الوجود على الإطلاق: قضية دين الإنسان، الذي يحدد هويته، ويحدد غايته، ويحدد مصيره.

ومن هنا كانت الحرب الموجهة إلى هؤلاء الملوك والأباطرة، لهدف واضح، هو (إزالة الحواجز) أمام الدعوة الجديدة، حتى تصل إلى الشعوب وصولا مباشرة، وتتعامل معها بحرية واختيار، لمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيا عن بينة. دون خوف من جبار يقتلهم أو يصلبهم في جذوع النخل.

2- حرب وقائية لحماية الدولة الإسلامية: وهناك هدف آخر، مكمل لهذا الهدف، وهو: أن هذه الدولة الوليدة الفتية التي أقامها الإسلام في المدينة، هي دولة عقيدة وفكرة، دولة شريعة ورسالة، وليست مجرد سلطة حاكمة، فهي بتعبير العصر (دولة أيديولوجية) تحمل دعوة عالمية، للبشر جميعا، وهي مأمورة بتبليغ هذه الدعوة، التي تمثل رحمة الله للعالمين، ومن شأن هذه الدولة: أن تقاوم وتحارب من قبل القوى المتسلطة في الأرض، التي نرى في رسالة هذه الدولة ومبادئها خطر عليها. فإذا لم نحاربها اليوم، فلا بد أن نحاربها غدا، كما علمتنا تجارب التاريخ، وكما تقتضيه سنن الله تعالى في الكون والمجتمع؛ ولهذا كانت هذه الحروب: نوعا مما يسمى الآن (الحرب الوقائية) حماية للدولة من المخاوف والأطماع المتوقعة من جيران يخالفونها في الأيديولوجية ويناقضونها في المصالح، ويعتبرونها مصدر قلق لهم، بل خطر عليهم.

3- حروب تحرير للشعوب المستضعفة: وإلى جوار هذين الهدفين الواضحين: يتبين لنا أن هناك هدفا آخر لهذه الحروب أو الفتوح، ولا يخفى على دارس يعرف ما كان عليه العالم قبل الإسلام. هذا الهدف هو: تحرير شعوب المنطقة من ظلم الحكام الذين سلطوا عليها فترة من الزمن، فقد كان العالم في الجاهلية تتنازعه دولتان عظيمتان: دولة الفرس في الشرق ودولة الروم في الغرب، أشبه بما عرفناه وعايشناه في عصرنا من دولة الروس، ودولة الأمريكان، أيام الحرب الباردة بين الطرفين.

وقد سيطرت كل منهما على بعض البلاد، واتسعت رقعة تلك الدولة حينا على حساب الآخر، وانحسرت حينا آخر، كما نص القرآن علينا ذلك في أوائل (سورة الروم) : (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) (الروم:2) وكانت دولة الفرس تملك بعض ديار العرب في العراق، وكانت الروم تملك بلادا أخرى في الشام، كما تملك مصر وغيرها في شمال أفريقيا. وكان هذا لونا من ألوان الاستعمار المتسلط المستكبر في الأرض بغير الحق، وكان على الإسلام مهمة -باعتباره رسالة تحرير للعالم من عبودية البشر للبشر- أن يقوم بدور في إنقاذ هذه الشعوب.

وقد رأينا رسالة نبي الإسلام إلى قيصر والمقوقس وغيرها تختم بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) فهذه الدعوة عامة إلى التحرير. وكان لا بد من مساعدة هذه الشعوب على التحرر من هذا المستعمر الغريب عنها، وهذا ما جعل هرقل يقول بعد دخول جيوش المسلمين إلى الشام: سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده..

وقد كان الروم يعتبرون مصر بقرة حلوبا لهم، يحلبون ضرعها، وإن لم ترضع أولادها، ولهذا رحب الشعب المصري بالفاتحين الجدد، وفتح لهم صدره، وذراعية، واستطاع المسلمون بثمانية آلاف جندي فقط أن يفتحوا مصر، ويحرروها من سلطان الروم إلى الأبد.

السيف لا يفتح قلباً

ونقول لأصحاب دعوى انتشار الإسلام بالسيف: إن السيف يمكنه أن يفتح أرضا، ويحتل بلدا، ولكن لا يمكنه أن يفتح قلبا. ففتح القلوب وإزالة أقفالها: تحتاج إلى عمل آخر، من إقناع العقل، واستمالة العواطف، والتأثير النفسي في الإنسان. بل أستطيع أن أقول: أن السيف المسلط على رقبة الإنسان، كثيرا ما يكون عقبة تحول بينه وبين قبول دعوة صاحب السيف. فالإنسان مجبول على النفور ممن يقهره ويذله.

ومن ينظر بعمق في تاريخ الإسلام ودعوته وانتشاره: يجد أن البلاد التي فتحها المسلمون، لم ينتشر فيها الإسلام إلا بعد مدة من الزمن، حين زالت الحواجز بين الناس وبين الدعوة، واستمعوا إلى المسلمين في جو هادئ مسالم، بعيدا عن صليل السيوف، وقعقة الرماح، ورأوا من أخلاق المسلمين في تعاملهم مع ربهم، وتعاملهم مع أنفسهم، وتعاملهم مع غيرهم: ما يحبب الناس إليهم، ويقربهم من دينهم، الذي رباهم على هذه المكارم والفضائل.

وانظر إلى بلد كمصر، وقد فتحت في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، ولكن ظل الناس على دينهم النصراني عشرات السنين، لا يدخل فيه إلا الواحد بعد الواحد. حتى أن الرجل القبطي الذي أنصفه عمر، واقتص لابنه من ابن والي مصر: عمرو بن العاص، لم يدخل في الإسلام، رغم ما شاهد من عدالة ما يبهر الأبصار.

والله أعلم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى