الفتوحات الإسلامية.. بين حقائق التاريخ وأكاذيب المستشرقين
بقلم مصطفى يعقوب
لقد كانت الفتوحات الإسلامية مثلا حيا لقصر نظر المستشرقين وسوء قصدهم حيال الإسلام. وعلى الرغم من ذلك الكم الهائل من المراكز والمؤسسات العلمية التي تعنى بدراسة الإسلام في الغرب، فإنها وقعت فريسة لتلك النظرة العدائية حيال الإسلام وأهله. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون دراسة الإسلام مجردة من الهوى وعلى أسس من الموضوعية والحيدة، وقراءة الوثائق التاريخية قراءة خالية من التعصب العرقي والمذهبي.
يقول الدكتور مصطفى السباعي: “لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول إلى الاستشراق، وهو الدافع الديني. وهؤلاء -يقصد المستشرقين- كان يهمهم أن يطعنوا في الإسلام، ويشوهوا محاسنه، ويحرفوا حقائقه ليثبتوا للغرب المسيحي أن الإسلام -وقد كان يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين- دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج ولصوص وسفاكو دماء”.
الهدف الديني للمستشرقين
ولأن هؤلاء المستشرقين هم جند مجندة لخدمة دينهم وأوطانهم، فقد كان من الطبيعي أن يصدوا سبيل شعوبهم عن ميزة أو حسنة عن الإسلام وأهله؛ خشية أن يقع أهل ملتهم في أسر هذا الدين الذي دانت به ممالك العالم القديم طواعية واختيارا، بل وأصبح في قلب أوروبا. وفي هذا يقول الدكتور إسحق موسى الحسيني: “إن الهدف الديني هو مقصد المستشرقين الأوائل في القرون الوسطى بوجه خاص، وهذا يعلل كونهم من اللاهوتيين في الغالب. فقد أرادوا من دراسة الإسلام أن يدفعوا عن بني دينهم الاستسلام لهذا الدين الجديد الذي ذاع ذيوعا سريعا في البلدان التي كان معظم سكانها يدينون بالمسيحية”.
وقد تبارت مؤلفات المستشرقين على اختلاف مذاهبهم، العرقية والدينية، في الطعن في الإسلام كعقيدة، وعلى العرب كأمة. ولعل الدليل الحي على ذلك هو دائرة المعارف الإسلامية بكل ما فيها من مطاعن وأكاذيب ومغالطات، والتي تولى تحريرها جمهرة كبيرة من المستشرقين. غير أن مترجمي الدائرة قد هالهم هذا الكم الكبير من المطاعن والأكاذيب والمغالطات، فأوكلوا إلى عدد من علماء المسلمين الرد والتعقيب على ما ذكره المستشرقون في هذه الدائرة. غير أن القراءة العابرة لمواد الدائرة سوف تكشف عن أن مواضع التعليق والتعقيب أكثر ما تسود في تلك المواد التي تتعلق بكل ما يمت إلى الإسلام كشريعة بصلة.
ففي مادة «الله» -على سبيل المثال- التي كتبها المستشرق الإنجليزي ماكدونالد MacDonald، بلغت التعليقات والتعقيبات من الكثرة حدا غير مألوف بأقلام نفر من علماء المسلمين، ولم تكن هذه الكثرة سوى درء مطاعن هذا المستشرق.
يقول الأستاذ أحمد محمد شاكر عن هذه التعقيبات “وقد تكفل الكاتبون الكرام والعلماء الكرام بنقد كثير من أخطاء الكاتب، وبيان وجه الحق فيما عمد إلى العدول به عن وجهه الصحيح فجزاهم الله أحسن الجزاء. وبقي مما هاجم به الكاتب الشريعة الإسلامية أن عمد إلى أساس من أقوى دعائمها -وهو الأحاديث النبوية- يحاول هدمه بالتشكيك فيه.
وقد كان الرأي تأخير هذا الرد ليكتب في موضعه، عند الكلام على الحديث، ولكن رأى إخواني أن أبادر بالكتابة في هذه المناسبة، احتياطا من الأثر السيئ لكتابة الكاتب عند نشر أقواله باللغة العربية، وذيوع آرائه بين أبناء العروبة في مختلف الأقطار الإسلامية”.
وهكذا شاءت أهواء هؤلاء المستشرقين، وسوء نيتهم حيال الإسلام والمسلمين أن يختلقوا الأكاذيب لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، محاولين، جهد طاقتهم، أن يجردوا الإسلام والمسلمين من كل فضيلة أو ميزة. غير أن أمرا واحدا استعصى على التبرير أو التفسير فلم يملكوا حياله سوى التسليم المطلق من البعض، وكابر البعض الآخر، فكذب وادعى واختلق ما شاء له الاختلاق فلم يقنع أحدا بدعواه. وهذا الأمر الواحد الذي وقف أمامه المستشرقون طويلا هو الفتوحات الإسلامية.
الفتوحات الإسلامية وقوانين التاريخ
والحقيقة أن فريقا من مؤرخي الغرب قد رأوا في تلك الفتوحات خروجا على قوانين التاريخ.. فها هو شعب غارق في البداوة، لا قبل له بالفنون العسكرية، ولا يملك جيشا منظما، بل كل ما يملكه عقيدة قد رسخت في وجدانه، يخرج من صحرائه ليقاتل في سبيل الله ويفتح البلاد، بلدا إثر بلد، بل ومن العجيب في الأمر أن الكثير من البلاد قد فتحت صلحا من دون قتال، لتدخل شعوبها في دين الله أفواجا. ولم يملك هذا الفريق من المؤرخين سوى التسليم المطلق بقدرة هذا الدين في نفوس العرب.
وعلى سبيل المثال يقول ه. ج. ويلز H. G. Wells : “لو أن هاويا للتنبؤ في التاريخ استعرض أحوال العالم عند مستهل القرن السابع الميلادي، لأمكنه أن يستنتج بحق أنه لن تنقضي قرون حتى تقع أوروبا وآسيا بأكملها في قبضة المغول. أما النقطة التي ربما تعرض فيها ذلك المتكهن للخطأ فهي تجاهله للقوى الكامنة في الصحراء العربية، إذ إن بلاد العرب ربما لاحت لعينيه على صورتها التي دامت عليها منذ أزمان سحيقة القدم، حيث كانت مرتعا لقبائل صغيرة من الرحل، وقد انقضت آنذاك أكثر من ألف سنة لم ينشئ شعب سامي في أثنائها إمبراطورية واحدة.
ثم ما لبث نجم البدو أن سطع بباهر الضياء مدة قرن واحد حافل بالأبهة والفخامة، مدوا في أثنائه حكمهم ولغتهم من بلاد الأندلس حتى حدود الصين، ومنحوا العالم ثقافة جديدة، وأقاموا عقيدة لا تزال إلى اليوم من أعظم القوى الحيوية في العالم”.
ولأن الفتوحات الإسلامية كانت خروجا على حركة التاريخ، إذ لم يمض سوى أقل من قرن من الزمان حتى وسع ملكها قارات العالم القديم من حدود الصين شرقا إلى الأندلس غربا، فليس من العجيب أن يصف ويلز هذه الفتوحات بقوله: «إنها أعجب قصص الفتوح التي مرت على مسرح تاريخ الجنس البشري». أما ول ديورانت W. Durant فيصفها في كتابه الشهير «قصة الحضارة» بأنها «أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله».
شبهات حول الفتوحات الإسلامية
ولقد عز على جمهرة كبيرة من المستشرقين والمؤرخين أن يجدوا في المسلمين فضيلة من الفضائل، وهي الإيمان المطلق بالإسلام، والاجتماع على كلمة الحق التي أوحى بها الله تعالى إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأرادوا أن يسلبوا المسلمين هذه الفضيلة، فلم يجدوا في جعبتهم سوى أن يفسروا الفتوحات الإسلامية تفسيرا غاية في الغرابة من دون سند من منطق أو عقلانية. ويتلخص هذا التفسير في أن العرب بعد إسلامهم قد ضاقت الأرزاق عليهم لجدب بلادهم فأغاروا على ما جاورهم من البلاد!
يقول المستشرق الألماني يوسف هل J.Hell: «إن السبب في ميل الشعب العربي إلى الهجرة هو جفاف بلادهم. وقد اقترن هذا الجفاف بظهور الإسلام مما أدى إلى ذلك الانقلاب في التاريخ العالمي». ولم يكتف يوسف هل بهذا التلميح، بل أكده في صراحة لا مواربة فيها فاستطرد قائلا: «وإذا كانت بلاد العرب قد غزت نفسها -يقصد بذلك حروب الردة- فإن ذلك جر عليها الضنك الذي تجلبه الحروب عادة، حيث استنفدت موارد البلاد الضئيلة بطبيعتها، فرأى البدو أن قطعانهم قد هلكت، على حين وجد أهل المدن أن حقولهم قد خربت وتجارتهم قد بارت. ولذلك ظهر الآن الحافز الذي كان يدوي منذ زمن بعيد مناديا بعبور شبه جزيرة العرب والنزول في البلاد المغرية التي تجاورها”.
وعلى الرغم من أن ول ديورانت أثنى على الحضارة الإسلامية، ورأى أن القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) من أزهى عصور العلم في تاريخ البشرية، فإنه أخطأ أشد الخطأ في تفسير الفتوحات الإسلامية. ولعله كان مدفوعا بآراء من سبقوه من المؤرخين، فزعم أن من أسباب الفتوحات الإسلامية انهيار نظم الري في جزيرة العرب «فضعفت من جراء ذلك غلات الأرض الزراعية، وحاقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار. ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الغزو والفتح».
أما ستانلي لينبول S.Lane- Poole، وهو مستشرق إنجليزي، فقد غالى في تقدير العامل الاقتصادي، إذ جعل من المغانم الدافع الأساسي للغزو، على حد زعمه. ولم ينس، كغالبية المستشرقين، أن يغمز بصورة مستترة من الخلق العربي فيقول: “وما أكثر ما طمع -يقصد بذلك العربي- في البلاد الغنية التي تحيط ببلاده المجدبة، إلا أنه كان يحتاج إلى أمرين يحفزانه إلى التوسع في الفتح، هما: الوحدة الوطنية والدافع القوي، حتى جاءه بهما محمد النبي العظيم، فجمع شمل العشائر المتنافسة المتناحرة وألّف بينها، وجاءهم بدين يقاتلون من أجله. على أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الدين كان السبب الأساسي لفتوحات العرب الساحقة، مهما كانت دعوته قوية ملزمة. كان هناك حافز أكثر وضوحا، هو الشهوة الجامحة الطبيعية للحصول على المغانم، فقد كانت أمامهم إمبراطوريتا الفرس والروم الغنيتان اللتان شاختا، ولم تقو إحداهما على أن تبدي من المقاومة سوى أقصرها وأفشلها. ووجد بدو الصحراء أنفسهم في مدى عشرين عاما سادة على الممتلكات الواسعة التي كانت من قبل تحت إمرة قيصر وكسرى…الخ”.
حقائق وشواهد
تلك كانت بعض الآراء التي راجت لدى جمهرة المستشرقين والمؤرخين. وهي آراء يغلب عليها الطابع العدائي حيال الإسلام والمسلمين، والقراءة الظالمة للتاريخ الإسلامي. غير أن هناك عددا من الحقائق والشواهد التي غابت -قصدا- عن هؤلاء المستشرقين والمؤرخين، والتي تبين فساد الأساس الذي بنيت عليه تلك الآراء.
أولا – إذا كانت جزيرة العرب، في مجملها، لم تكن في خيرات الشام أو فارس أو مصر، فليس معنى هذا أن العربي قد جال في فكره غزوها طمعا واستلابا لخيراتها، بل على العكس تماما فقد ألف العربي الحياة في هذه الصحراء بكل ما فيها من جفاف وجدب، طواعية واختيارا، لا عن إجبار وإكراه، ليس هذا فحسب، بل بلغت ألفة العربي لتلك البيئة الجافة حد الافتنان بها لا الهجرة منها. وتزخر كتب التراث بالشواهد والأقاصيص الدالة على هذا الافتنان وتلك الألفة اللذين لا نظير لهما بين الإنسان وبيئته. فهل نذكر قول ذلك الأعرابي الذي قيل له: كيف تصنع بالبادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟! يمشي أحدنا ميلا، ويرفض عرقا، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى.
ولعلنا نذكر قول ذلك الأعرابي الذي دخل الحضر فاشتاق إلى باديته عازفا عن ترف الحضر ومباهجه قائلا:
لعمري لنور الأقحوان بحائل *** ونور الخزامى من ألاء وعرفج
أحب إلينا يا حميد بن مالك *** من الورد والخيري ودهن البنفسج
وأكل يرابيع وضب وأرنب *** أحب إلينا من سماني وتدرج
ولعلنا نذكر أيضا ذلك الشاعر الذي رحل إلى بغداد وكانت وقتها حاضرة الدنيا، فتشوق إلى باديته فأنشد يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بسلع ولم تغلق علي دروب
فإن شفائي نظرة إن نظرتها *** إلى أحد والحرتان قريب
وللدلالة على مدى حب العربي، رجلا كان أم امرأة، لبيئته الصحراوية، وهي، كما هو معروف، بيئة قاسية على أهلها، تلك الأبيات التي سارت مسرى الأمثال، وهي أبيات قالتها ميسون الكلبية، وقد تزوجها معاوية -رضي الله عنه-، وهو خليفة المسلمين في ذاك الوقت، لكنها حنت إلى باديتها:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحب إلي من نقر الدفوف
وكلب يتبع الأظعان صعب
أحب إلي من هر أليف
هذا هو حال الأعرابي الذي لا يرضى بغير بيئته الصحراوية بديلا، رغم قلة خيراتها، ويغزو بلادا لمجرد الطمع في خيراتها. إذن لم يترك الأعرابي صحراءه عن جفوة لقلة عطائها، أو رغبة في الاستيلاء على خيرات غيره، وإنما تركها مقاتلا في سبيل الله وفي سبيل نشر راية الإسلام.
ثانيا – من المحقق أن العرب الفاتحين لو كان همهم من الفتح مجرد الحصول على الغنائم والأسلاب، لكان الخلفاء أوفر الناس ثروة وثراء، غير أن شواهد التاريخ تثبت عكس ذلك تماما، فلم يملك المستشرقون والمؤرخون سوى الاعتراف بهذا الأمر. يقول المستشرق الفرنسي الشهير ل. سيديو edillot S: “وأوائل الخلفاء هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم يسكرهم سلطانهم، فلم يبحثوا عن النفائس والثراء، بل ظلوا أوفياء لحياة الزهد الورع التي كان محمد قدوة لهم فيها. فسار عمر ابن الخطاب إلى القدس ليتسلمها فسافر من المدينة إلى فلسطين من غير حاشية أو حرس، وتوفي أبو بكر فلم يترك لورثته سوى ثوب وعبد وجمل، وكان علي يتصدق على الفقراء في كل جمعة بما عنده من النقود…الخ».
إذن فالعامل الاقتصادي كسبب للفتوح الإسلامية، إنما هو محض افتراء لا سند له من شاهد أو دليل.
ثالثا – من الثابت أن الغالبية العظمى من المستشرقين قد عز عليهم أن يكون صدق العقيدة هو الدافع الرئيسي في الفتوح الإسلامية، فوجدوا ضالتهم في العامل الاقتصادي. فمن أغرب الآراء، وأشدها مجافاة للحقيقة، قول ستانلي لينبول، في تأكيده على أهمية العامل الاقتصادي، عن الخلفاء الأمويين إنهم: “كانوا مسلمين متهاونين، أدركوا أنه كلما اعتنق شخص الإسلام كان هذا معناه خسارة في ضريبة الرؤوس -يقصد الجزية- ولهذا تركوا الشعوب المحكومة تتمتع بحرية عقيدتها ووجهوا اهتمامهم لجباية الضرائب”.
وأغلب الظن أن سوء القصد هو الذي أملى على هذا المستشرق ذلك الرأي البالغ التهافت، لأن الإسلام قد أباح حرية العقيدة كما ورد في آيات شتى كقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256). أما ما يدعيه عن خسارة الخلفاء الأمويين للجزية كلما اعتنق شخص الإسلام، فهو محض افتراء على هؤلاء الخلفاء، إذ إنه لم يقرأ التاريخ الإسلامي على وجهه الصحيح، بل أخذ من هذا التاريخ ما يوافق رأيه، ثم فسره على هواه. ولعله يشير إلى ما حدث من بعض الولاة في العصر الأموي، فقد ورد في «البداية والنهاية» لابن كثير قوله: «وعزل عمر بن عبدالعزيز الجراح بن عبدالله، عن إمرة خراسان بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها. فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: “إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا”.
إذن فهذا المستشرق كاذب في دعواه، كما كذبه في ذلك مستشرق آخر قد أنصف خلفاء المسلمين، يقول المستشرق الفرنسي سيديو في معرض حديثه عما قام به الخلفاء حيال مصر: “كان الخليفة ينفق معظم الجباية على الأعمال النافعة للبلاد، فأمر بإنشاء قناة القلزم القديمة التي كانت تصل النيل بالبحر الأحمر، وأنجزت بفضل تلك الحكومة الصالحة مشاريع عظيمة فأعادت مصر شبابها في زمن قصير”.
رابعا – من الواضح أن العامل الديني كان بعيدا عن أذهان هؤلاء المستشرقين، الذين لم يتخيلوا مدى رسوخ الإسلام في بداياته، في أفئدة المسلمين ونفوسهم، وكيف جعل هذا الدين من قبائل العرب المتنافرة والمتناحرة والتي كان يحارب بعضها بعضا لأوهى الأسباب، أمة واحدة، كأنها قلب رجل واحد، تدين بعقيدة واحدة.
ومن بين الأقاصيص الكثيرة في كتب التاريخ التي تفسر الفتوحات الإسلامية عبر صدق إسلام العرب الأوائل وشدة بلائهم في سبيل نصرة الإسلام، سوف نختار واحدة منها، وهي قصة أبي محجن الثقفي أثناء وقعة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، الذي حبسه لأنه كان يقول شعرا في الخمر. جاء في «مروج الذهب» للمسعودي: «كان أبو محجن الثقفي محبوسا في أسفل القصر، فسمع وقع الحديد وشدة البأس، فتأسف على ما يفوته من تلك المواقف. فصعد إلى سعد يستشفعه ويسأله أن يخلي عنه ليخرج، فزجره سعد ورده. فنظر إلى سلمى بنت حفصة، زوجة سعد، فقال لها: هل لك في خير؟ فقالت: وما ذاك؟ تخلين عني وتعيريني البلقاء -يقصد فرس سعد- ولله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في القيد. فقالت: وما أنا وذلك؟ فرجع يرسف في قيده وهو يقول:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا *** وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد فأغلقت *** مصاريع من دوني تصم المناديا
فلله عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، فاقتاد بلقاء سعد وركبها، حتى إذا كان بحيال ميمنة المسلمين كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فأوقف ميسرتهم وقتل رجالا كثيرين منهم. وحمل على ميمنة القوم فأوقفهم، لا يبدو له فارس إلا هتكه، ووقف بإزاء قلب المشركين ففعل مثل أفعاله في الميمنة والميسرة، وأوقف القلب حتى لم يبرز منهم فارس إلا اختطفه، وحمل عن المسلمين الحرب، فتعجب الناس منه وقالوا: من هذا الفارس الذي لم نره في يومنا؟ وأبو محجن كالليث الضرغام قد هتك الفرسان كالعقاب يجول عليهم. وجعل سعد يفكر ويقول: “والله لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلما انتصف الليل تحاجز الناس وتراجعت الفرس على أعقابها، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ورد البلقاء إلى مربطها وعاد في محبسه ووضع رجله في القيد”.
فهذا رجل دائم السكر، لكن عز عليه ألا يقاتل في سبيل الله، فكيف يكون الأمر بمن لم يشرب الخمر قط؟! هذه قصة من ألوف القصص التي تزخر بها كتب التاريخ، لعلها تسقط العامل الاقتصادي من آراء المستشرقين.
خامسا – وفي سياق هذا الإطار نسوق قصة ذات دلالة ومغزى كبيرين، وبطل هذه القصة هو الدكتور عمر فروخ عندما كان مبعوثا في ألمانيا لنيل أطروحة الدكتوراه، والذي نسوق على لسانه الراوية التالية: «وسألني يوسف هل J.Hell -وهو المستشرق الألماني الذي أشرف على أطروحة الدكتوراه- عن الموضوع الذي كنت أفكر فيه لرسالتي. كنت يومذاك (1935) في عنفوان الشباب فقلت له: مدى القومية العربية – عظمة الشاعر المتنبي – أثر العرب في الثقافة العالمية… وأشباه ذلك. استمع إلي بصبر فلما سكتُ قال لي: احتفظ بهذه الموضوعات. فإذا أنت رجعت إلى بيروت فاكتبها وانشرها في الجرائد. ثم قال لي: هنالك موضوع مهم ما زلت أعرضه على الطلاب الألمان الراغبين في الاستشراق منذ عشرين عاما، فلم أجد الهمة عند أحد لمتابعته، مع أن نفرا منهم بدأ بتجميع مواده ثم تخلى عن الاستمرار فيه، إنه موضوع يحتاج إلى رجل عربي سريع المضي في المصادر العربية. هذا الموضوع هو المشكلة التالية:
يرى نفر من المستشرقين أن الإسلام لم يستقر في نفوس المسلمين إلا في العصر العباسي (قياسا على أن النصرانية لم تبدأ في الانتشار بين الناس إلا في القرن الرابع الميلادي). فهل تستطيع أنت أن تعالج هذا الموضوع وتضع هذه المشكلة على أحد جانبيها؟
بدأت العمل وجمعت عشرة آلاف بيت شعر مؤرخة بالسنوات، منذ السنة الأولى للهجرة (622م) إلى موت الخليفة عمر بن الخطاب سنة 23 ه (644م).
دخل في رسالتي أربعمئة بيت من تلك الأبيات، دلت، بجزم ووضوح، أن تعاليم الإسلام كانت تستقر في نفوس المسلمين (ونطاق الرسالة كان منذ الهجرة) في الوقت الذي كانت تلك التعاليم تفرض عليهم أو ينزل فيها وحي”.
وإذا كان لهذه الرواية أكثر من دلالة تتعلق بنظرة المستشرقين حيال الإسلام، وحيرتهم الشديدة حيال سرعة انتشاره في عقود قليلة من الزمان، فإن الدلالة التي يمكن الخروج بها في إطار ما توهموا عن أسباب الفتوحات الإسلامية، هي أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت بغرض الطمع في خيرات الأمم المجاورة، لأن الإسلام بدأ ضعيفا، كما حاول “يوسف هل” أن يرسخ هذا المفهوم الخبيث في ذهن الطالب -وقتها- عمر فروخ. غير أن الطالب النجيب أبى أن يساير أستاذه فيما أراد، بل وأطاح بفكرته من أساسها، ليظل نشر الإسلام هو الدافع الأساسي في الفتوحات الإسلامية.
(المصدر: الوعي الإسلامي / مجلة المجتمع)