مقالاتمقالات المنتدى

الغزالي مجدد العقول والأقلام!

الغزالي مجدد العقول والأقلام!

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

 

ارتقت روح الشيخ محمد الغزالي إلى الرفيق الأعلى منذ ٢٦ عاما، ففقدت الأمة برحيله فرقداً من فراقد الفكر الوسطي وداعية من دعاة الاستنارة الأصيلة، مما زاد من الآثار السلبية لغياهب التغرب والتطرف في مجتمعاتنا، وها هي الوقائع في واقعنا المزدحم بحوالك التقليد الأعمى، تُشعرنا بحجم الفقدان لعَلَم بحجم الغزالي، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر!
وفي مثل يوم وفاته (٩مارس) ينبغي أن نتذكر ذلك الفارس المغوار الذي اعتلى صهوة الفكر الجاد وحمل بيرق الدعوة المستقيمة إلى سبيل المؤمنين، بعيدا عن سبل التقليد التاريخي والاغتراب الثقافي!
ينبغي أن نتذكر عبقريا اعتلى به فكره نحو آفاق القيم الحضارية في الإسلام، وسعى به إخلاصه في فيافي الدعوة إلى الله، متنقلاً بين أقطار المسلمين حتى صار بحركته الدائبة وفاعليته المباركة أمة في إهاب رجل!
ولأن التصرفات تولد من رحم التصورات؛ فقد كان ذا موسوعية عجيبة في فكره وفقهه اللذين وسّعا كثيرا من الدوائر التي ضيقها أرباب الأمية الفكرية، ولأنه قرأ باسم ربه الذي خلق فقد صار صاحب عرفان مشرق في مجاهداته ومكابداته الروحية، ثم صار فارسا في مناشطه وتحركاته الإصلاحية، ومجددا في كتاباته ورسائله وفي دروسه وخطبه.

ولقد ظل دائب الحركة ودائم الاستقامة بفضل بوصلة العلم الرباني، وظل ممتلئاً بالحيوية بفضل حرارته الإيمانية، ولم يتخفف يوما من عشقه الشديد للإسلام، ولم يكل من العمل المثمر كتابة وتأليفاً، خطابة وتدريساً، توجيهاً وتعليما، وظل يتدفق عطاء كنهر النيل الذي عاش في أكنافه واكتسب أفضل طباعه، حتى أن ملك الموت حينما زاره جاءه وهو واقف كالنخلة، حيث كان يتكلم في إحدى القاعات بمدينة الرياض ويرد على بعض المتنطعين الذين يحتكرون الحق والحقيقة ويسفهون من يفوقونهم علما وإدراكا وإخلاصا وعملا وتأثيرا، كما هي عادة الأقزام في مواجهة العمالقة!

ومن يقرأ كتبه ومقالاته الثرية فسيرى بوضوح أن يراعَه جمع بين عمق المفكر وإشراقة الأديب، وأن أسلوبه قد مزج بين أناة المعلم وحُرقة الداعية، وظل خلال بضعة عقود ينساب فكرا زلالاً ويتدفق عاطفة جياشة، ولم يفصل أبدا بين عمق التفكير وسلاسة الأفكار، بفضل روح الأديب التي تسكنه ومنحته مقدرة عجيبة على الجمع بين الإقناع والإمتاع، مما كتب لأفكاره الذيوع والانتشار في ربوع المعمورة، حتى أن أغلب كتبه طبعت عشرات الطبعات وترجمت إلى عدد من أهم اللغات.

إنه رجل أمة من طراز فريد، فلم يتوقف نظره عند حدود الأقطار والأعراق، ولم تقيد حركتَه أغلالُ الطوائف والمذاهب، ورغم أنه انتمى إلى حركة الإخوان المسلمين وترقى في أطرها القيادية حتى صار عضوا في أعلى هيئة قيادية وهي مكتب الإرشاد، إلا أنه ظل عابرا للحدود بين الجماعات الدعوية، وتجاهل كل الدوائر الضيقة مكتفيا بدائرة الأمة، وذلك بفضل انسلاخه من سائر الأفهام البشرية الضيقة وانسلاكه في فلك الإسلام الذي منحه وعيا صافيا من الشوائب والأكدار، ومن ثم فقد عُرف بحمله لآلام الأمة في عقله وقلبه، واشتهر بتجسيده لحاجاتها في أفكاره وأفعاله، وبمهارته في زراعة الأمل وبث مشاعر الرجاء.
ولأنه كان عملاقاً في علمه وأخلاقه وباسقاً في دعوته ومعاملاته؛ فإن القوالب التنظيمية لم تتسع له رغم مرونتها النسبية، فطفق يدعو إلى الله بطريقته المتميزة التي استوطنت العقول والقلوب.

ولم يقبل السكوت على قهر الطغاة لشعوبهم كما فعل كثير من أصحاب العمائم الذين لم يقبلوا السكوت فقط بل وقبَّلوا أيدي الظالمين، ولم يمارسوا دور الشيطان الأخرس فحسب بل صاروا شياطين تنطق بما يريد الطغاة وتفتي بما يأمر الفراعنة، بل وتتشوف لمعرفة ما يحب الكبراء حتى تذهب إليه قبل أن يُطلب منهم! وكان الشيخ الغزالي يحمل أنفاً ذا أنفةٍ وما فتئ يعاني من حساسية شديدة تجاه روائح الغطرسة والفرعنة، حتى إنه ليشمها من مسيرة أيام، مهما تلبست بالثياب الناعمة وتلفعت بأردية الصلاح، واستخدمت من مساحيق التجميل، ومهما استثمرت من أولي العلم في التسويق والتأصيل وفي إغواء الجماهير عن الحق وإغرائها بالباطل!

وبالجملة فإنه لم يداهن الأوضاع الظالمة أو يهادن التقاليد الراكدة أو يصمت عن علل التدين ويحابي من سماهم بأهل التدين المغشوش، ولم يغض الطرف عن ممارسات الظالمين والمستبدين، حتى أنه واجه في حياته حراب الظالمين وسهام الفاسدين وتعرض لكثير من الابتلاءات!
ولأنه كان من المتقين، فنحسب أن الله لم يفقده في مواضع الأمر ولم يجده في مواضع النهي، وقد أثبتت الأيام أنه كان نورا للحيارى والباحثين عن الحق، وناراً على المتحيّرين المتنطعين، وأنه كان بلسماً للمنكسرين وسُمّاً زعافاً ضد المستكبرين.
وقد دفع ثمن إبائه وشجاعته غالياً من صحته، لدرجة يمكن القول معها بأنه ذهب شهيداً في معاركه مع ذوي التطرف والتنطع، لكنه كسب رضى الخالق وحب المخلوقين!

تقبله الله تعالى في زمرة المتقين ورفع درجته في أعلى عليين، وكتب الله لأفكاره الفاعلية والخلود إلى يوم الدين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى