مقالاتمقالات المنتدى

العوامل الثمانية للابتهاج بالعبادة

العوامل الثمانية للابتهاج بالعبادة

بقلم أ. د. فؤاد البنا

لا شك بأن العبادة منظومة من التعاليم المتكاملة التي تستوعب تفاصيل العلاقة مع الله ومع الكائنات في هذا الوجود بشقيه المادي والمعنوي أو الشهودي والغيبي، ومن المؤكد أن جملة العبادات ثقيلة على النفس التي تعشق الانفلات في قوارع الشهوات وتهوى الانحطاط نحو جاذبية الأرض، ولهذا فقد قال الله لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}؛ فالقرآن ثقيل بتعاليمه التي تلزمك بالقيام بواجباتك نحو الخلق والخالق، وبأغلاله التي تمنعك من الانطلاق مع الأهواء والعصبيات الترابية، لكنه ليس تكاليف بحتة بل فيه حقوق للجسم والعقل والروح، ويثوي في تكاليفه الشاقة منهج متكامل للسعادة والابتهاج في هذه الحياة، وقد قرر الله هذه الحقيقة حينما خاطب حبيبه محمدا بقوله عزّ وجل: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.

ومن يتأمل نصوص هذا الدين سيجد أنها تتضمن عددا من العوامل التي تساعد المسلم على التلذذ بالشعائر التعبدية والابتهاج بتطبيق الأوامر والانتهاء عن المناهي، وأهمها ثمانية على النحو الآتي:
١- الاستيعاب التام للرؤية الإسلامية في تصورها الكلي للوجود، مع توطين النفس على الشعور بالفخر لمكانتها السامية في هذه المنظومة، وهذا ما يشير إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا”. فقد جعل الله الإنسان كائنا مركزيا في هذا الكون، وسخر له سائر الموجودات، وذلك بعد أن خلقه في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه، وبعد أن أسجَد له ملائكته وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلا.

٢ – معرفة أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى، والتعرف على آلائه التي لا تحصى على الإنسان، ومنها وضعه في مقام الخلافة عنه وتسخير كل ما في الكون من أجله، وصولاً إلى إدراك محبته والسعي للولوج من كل باب إلى تحصيل رضاه، قال صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار”.

٣ – ممارسة الصرامة في الولاء للصالحين والبراءة من الطالحين، كما جاء في الحديث آنف الذكر، فإن من ترك شيئا لله أورثه الله ما هو خير منه ورزقه التمحور حول الأفكار لا الأشخاص، وأعطاه نعمة الابتهاج بالمعاني كما يبتهج الناس بالحسيات وأكثر.
وفي هذا السياق ورد الحديث القدسي الذي يقول الله تعالى فيه: “حقّت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون فيّ على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء”.

٤ – التنقيب عن الأسرار والمقاصد التي تثوي في تفاصيل الشعائر التعبدية، وذلك عن طريق التشبع بمسائل العلم والفكر والتفقه في دقائق الأسرار والغوامض.
ولأنه صلى الله عليه وسلم كان على علم منقطع النظير فقد كان يدرك قيمة الصلاة متلذذا بها، حتى أنه كان يترقب الدقائق شوقا لدخول أوقاتها، وبمجرد ما يقترب وقتها كان يقول لمؤذّنه: “أرِحنا بها يا بلال”، وأخبرنا في حديث آخر بأن الصلاة هي قُرّة عينه.

٥ – التحلي بالإخلاص وإدراك عظمة المخاطب، فإن الله يصب في قلب المؤمن الذي أخلى قلبه من غيره حلاوة القرآن وطعم الإيمان، بل يصبح للحياة بكل تفاصيلها مذاق مختلف، حتى أن ما يتألم له الناس من ابتلاءات ومحن يصبح ذا طعم لذيذ عند من ارتقى ذروة الإخلاص، حيث يصل إلى استعذاب كل ما يناله في ذات الله من غير تكلف كما ورد عن كثير من رجال السلف الذين استعذبوا العذاب في سبيل الله وسعدوا بالمشاق التي واجهتهم.

٦ – استحضار المآلات الدنيوية والعواقب الأخروية، فمن يعمل وهو يستشرف لذة النتائج تصبح المقدمات لذيذة مع الأيام.
ومن يستشرف مآلات الاستخلاف والتمكين في الأرض من عز وقوة ومال، ثم وراثة الجنة والتنعم بآلائها مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ لا شك أن ذلك يُهون من المتاعب والمصاعب، وبالإخلاص والصبر والتوكل قد تتحول المشاق إلى لذائذ.

٧ – التكرار الصارم والصبر والمثابرة في هذا الصعود المتزكي، وكلنا يعلم أن الهوايات المحبوبة عند الناس إنما وصلت إلى هذه الدرجة بسبب المداومة عليها حتى تصبح عادة لا يمكن الانفكاك منها؛ لأنها تستدعي السعادة وتصنع الابتهاج، وإلى هذا المعنى يشير الحديث القدسي الذي قال الله تعالى فيه: “وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يبصر به”، فعبارة “ما يزال” تشير إلى المداومة والدأب وإلى الإرادة والتصميم؛ مما يجعل العاقبة حباً وعشقا وهياما.

٨ – التوسل بالدعاء، فمهما كانت عبقرية الإنسان فإنه يظل كائنا ضعيفا ويحتاج إلى مدد من صاحب القدرة المطلقة، ومن هنا فإن المؤمن يكثر من إطلاق الدعوات التي ترجو الله أن يمنحه الابتهاج بسائر العبادات، ومن هذه الأدعية: “اللهم ارزقنا حبَّك وحب من يحبك وحبا يقربنا إليك”، “اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان”، “اللهم أذقنا طعم الإيمان وحلاوة القرآن”.

خبرة السلف حول التلذذ بالعبادة:
لقد كان سلفنا الصالح يدركون أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه كلما زاد فإن طعمه اللذيذ يهون المصاعب ويغمر الحياة بجو من السعادة والهناء، وقد ظل أعلامهم في سباق دائب في هذا المضمار، إذ ظلوا يسارعون للارتقاء من درجة الإسلام الذي تتمحور العبادات فيه حول الجوارح، إلى درجة الإيمان الذي تتغلغل في ظله العبادات في ثنايا الجوانح وتتحول إلى مشاعر راقية وطاقات دافعة نحو الالتزام بالغياب في مواضع المناهي والحضور في مقامات الأوامر في سائر ميادين الحياة، ثم إن بعضهم لا يشعرون بالطمأنينة حتى يتبوأون قمة الإحسان، حيث يعبدون الله كأنهم يرونه أو يراهم، وكيف لا يذوق حلاوة العبادة من يحس بعمق بأنه يخاطب الله كل يوم خمس مرات عبر الصلوات، ويتلقى توجيهات الله كل يوم عبر قراءة القرآن، ويناجيه في أوقات عدة كل يوم عبر الدعاء، ولا يفتأ يتذكره في سائر أوقاته وأحواله مجتهدا بأن لا يراه الله حيث يكره ولا يفقده حيث يحب؟!

ويُعبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن لذة الابتهاج بالعبادة عند من تحلى بهذه العوامل، فيقول: “لَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إلَّا نَعِيمَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ”.
وحينما تعرّض للسجن في دمشق وتم تعريضه للتهديد والتعذيب أطلق تلك العبارة التي تبرز هذا الابتهاج الذي لا يفارقه، فقال: “ماذا يفعل بي أعدائي؟ أنا جنتي في قلبي، نفيي سياحة وسجني خلوة وقتلي شهادة”، ويقول أيضاً: “إن في الدنيا جنةً، منْ لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة” وهذه الجنة بالطبع هي لذة الطاعة وحلاوة الإيمان.
وقد عبّر أعلام السلف عن هذه الحقيقة بأساليب مختلفة، وهذا أحدهم يقول: “إنّه لتمُر بي أوقات أقول فيها: إنْ كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيشٍ طيب”، ويقول ثاني: “مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها”، ويقول ثالث: “لو علم الملوك وأبناء الملوك بما نحن فيه لجالدونا عليه بحد السيوف”!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى