العمل بالأغلبية في السيرة النبوية
بقلم أ. د. أحمد الريسوني
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس قار محدد الأعضاء لإجراء الشورى معهم بشكل منتظم، ولم يكن هذا الأمر ضروريًا يومئذٍ. لكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا ألا يُمضي أمرًا من أمور المسلمين – مما لا وحي فيه – إلا بعد مشورة المسلمين وموافقتهم. والموافقة تتمثل في إجماعهم أو في قول جمهورهم وأكثريتهم. وهذه نماذج لذلك مما ذكرته كتب السيرة وغيرها.
في غزوة بدر
خرج المسلمون ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض عير لقريش، قادمة من الشام، ومحملة ببضاعة كثيرة. وكانت قريش – كما هو معلوم – قد أرغمت المسلمين على ترك أموالهم وديارهم وأرضهم بمكة، والهجرةِ إلى المدينة فرارًا بدينهم وأرواحهم. فلذلك خرج المسلمون لاعتراض العير والاستيلاء عليها. وعلمَ قائد القافلة التجارية، أبو سفيان بن حرب، بخروج المسلمين إلى قافلته، فبادر بسرعة واستأجر من يخبر قريشًا، فتجهزت قريش، وحركت جيشها للقاء المسلمين وقتالهم. ولم يكن المسلمون قد خرجوا بنية القتال وعلى استعداد له. لكن ها هي قريش قادمة للقتال، فما العمل؟
هنا عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشورى لمعرفة آراء من خرجوا معه، واستطلاع مدى استعدادهم. قال ابن إسحاق: ” وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناسَ وأخبرهم عن قريش، فقال أبو بكر الصديق وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول: امض لما أراك الله، فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، لكنِ اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه…”
فهؤلاء ثلاثة من المهاجرين، بل هم رؤوس المهاجرين، يؤيدون ما ارتآه النبي صلى الله عليه وسلم من مناجزة القوم. ولكن ممثلي الأنصارـ وهم الأكثرية ـ لم يتكلموا بعد. ولهذا لم يكتف النبي بكلام المهاجرين وتأييدهم للقتال، فاستمر صلى الله عليه وسلم يقول: “أشيروا عليَّ أيها الناس”..
قال ابن إسحاق: “وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عددُ الناس” ، أي أكثريتهم. فكان لا بد أن يسمع منهم ومن ممثليهم. ففهم الأنصار ذلك، فقال زعيمهم سعد بن معاذ: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا. إنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. فسِرْ بنا على بركة الله “
قال ابن إسحاق “فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك ثم قال: سيروا، وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم” .
وننتقل من مقدمات المعركة إلى نتائجها.. فقد كان من نتائجها وقوع عدد من أسرى المشركين، في أيدي المسلمين. وهذه أول مرة يحدث فيها هذا، فلم يكن هناك حكم سابق في المسألة، فلجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشورى في شأنهم، وعرض الأمر على المسلمين. وكان في مقدمة من أدلوا بآرائهم أبو بكر وعمر. جاء في صحيح مسلم، من رواية عمر بن الخطاب قال: “فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم … فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلتُ. فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعديْن يبكيان! قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لم أجدْ بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم). وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: 67-69]، فاحل الله الغنيمة لهم”.
فهذه الرواية، وإن ظهر في أولها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ برأي صحابي واحد، هو أبو بكر، فإنها صريحة في آخرها، بأن القول بأخذ الفدية من الأسرى كان قول جمهور الصحابة (أبكي للذي عرض عليّ أصحابك..، ولقد عُرض عليّ عذابهم ….). فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بقول أبي بكر، ليس فقط لأنه هو أيضًا مال إلى هذا القول واستحسنه، ولكن لأنه أيضًا هو الرأي الذي عرضه عليه أصحابه، ويتأكد هذا من كون الآية التي نزلت موافقة لقول عمر، قد تضمنت المؤاخذة لعامة المسلمين، على تفضيلهم واختيارهم الحصولَ على المال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
قال ابن عاشور:” والخطاب في قوله (تريدون) للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء. وفيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، غير معاتَب، لأنه إنما أخذ برأي الجمهور” .
في غزوة أُحد
غزوة أحد جاءت بسبب إصرار قريش على الانتقام ورد الاعتبار، من الهزيمة النكراء التي لحقتها في بدر. وبدأ زعماء قريش يستنفرون كل ما يستطيعون لغزو المسلمين. ونجحوا في رصد الأموال الضخمة التي أفلتت بها القافلة التجارية بقيادة أبي سفيان، نجحوا في رصدها لتمويل حرب المسلمين. ونجحوا أيضًا في التعبئة الشاملة للمقاتلين والمساندين … قال ابن إسحاق: “فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة. وخرجوا معهم بالظُّعُن ، التماس الحفيظة ، وأن لا يفروا.. ” .
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، جمع المسلمين واستشارهم، وعرض عليهم رأيه، وهو ألا يخرجوا لملاقاة المشركين خارج المدينة، وأن ينتظروا حتى يدخل المشركون المدينة – إن هم دخلوا – فيجري القتال داخلها، باعتبار أن هذا الوضع أنسب للمسلمين وأعسر على الأعداء المهاجمين. وقد أيد هذه الفكرةَ عبد الله بن أُبي بن سلول، زعيم المنافقين، وقال موضحًا رأيه: “يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه. فدعْهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا ” .
ولكن جمهور الصحابة فَضَّلوا الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة، باعتبار أن البقاء داخلها سيتيح لقريش أن تعتبر المسلمين قد خافوا، وعجزوا عن المواجهة، فتحصنوا بمدينتهم ودُورهم، وتُشيع ذلك في العرب، فتنحط سمعة المسلمين وهيبتهم في أعين المترقبين. ثم إن بعض الصحابة ممن فاتهم شهود معركة بدر، كانوا أكثر حرصًا على الخروج، لتكون لهم صولة على الأعداء كتلك التي فاتتهم في بدر.
قال ابن العربي: “وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في غيرهم من الأوس والخزرج: أما تخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنَّا كرهنا الخروج إليهم جبنًا، فيكون هذا جرأة لهم علينا؟ وتكلم قوم من الأنصار بمثل ذلك. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم حتى أُجالدهم بسيفي. وقال له النعمان بن مالك: إن البقر المذبحة قتلى من أصحابك، وأنا منهم فلمَ تحرمنا الجنة؟ والله الذي لا اله إلا هو لنَدخلنَّها … ثم قال: فإني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، وتكلم بعض بني الأشهل بمثله، وقال له أبو سعد خيثمة بن خيثمة نحوَه في كلام حسن، وغيْرُه مثله.. ” .
قال ابن إسحاق: ” فلم يزل الناس برسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأمته … ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما ينبغي لنبي إذا لبس لَأمته أن يضعها حتى يقاتل” فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه…” .
وسواء أكان النبي صلى الله عليه وسلم قد غير هو نفسه رأيه، واقتنع برأي أصحابه الداعين إلى الخروج، أو بقي رأيه كما كان، فقد استجاب لرأي جمهورهم وأمضاه.
ومما يجعل احتمال أن يكون النبي نفسه قد غير رأيه، احتمالًا واردًا، هو أنه صلى الله عليه وسلم تمسك بالخروج، رغم ما أبداه الصحابة من تنازل عن رأيهم تأدبًا لرسول الله وتعظيمًا لمكانته. وأيضًا فلربما توجس خيفة من ذلك الحماس الذي أبداه ابن سلول لفكرة البقاء داخل المدينة. فقد كان من الممكن تمامًا أن يعمد رأس المنافقين إلى التآمر مع المشركين، وربما مع اليهود أيضًا، على استئصال المسلمين.
ربما فكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الاحتمال، وهو يرى عدو الإسلام والمسلمين يدافع عن فكرة البقاء بالمدينة، فغير رأيه، وآثر الخروج وتمسك به. وعلى كل، فهذا مجرد احتمال، ويبقى الثابت في جميع الحالات، أن الرسول نزل عند رأي جمهور أصحابه كشأنه في مواطن أخرى.
ومما يزيد في درجة الاحتمال الذي ذكرته، ما وقع من تحرك يهودي، مباشرة بعد أن انتهت معركة أُحُد دون أن تحقق بغية المشركين في القضاء على المسلمين. فقد تحرك زعماء اليهود، وخاصة من بني النضير وبني وائل، إلى محاربة المسلمين في ظل تحالف واسع … فكانت غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب. فلننتقل إليها، ففيها أيضًا ما يدخل في موضوعنا.
غزوة الخندق
روى ابن إسحاق عن جماعة من الرواة: ” قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود – منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم – خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله …” .
ومضى هؤلاء النفر من اليهود يحزبون الأحزاب، ويعقدون حلفهم على فكرة واحدة، هي استئصال محمد وأصحابه. فأدخلوا في هذا الحلف كلًا من قريش وغطفان، وبني قريظة، بالإضافة إلى بني النضير وبني وائل.
ولا أريد الدخول في تفاصيل هذه الغزوة، فذلك معروف، مسطور في مظانه. ولهذا أنتقل إلى الشاهد عندي في وقائعها. فبعد أن نفذت الأحزاب اتفاقها، ولجأ المسلمون إلى حفر الخندق، مما حال دون دخول المشركين المدينة، حوصر المسلمون ما يقرب من شهر. فاشتد ذلك عليهم، وبدأ الخوف والوهن يتسلل إلى بعض النفوس، وبدأ المنافقون يرفعون عقيرتهم بالطعن والتثبيط …. قال ابن إسحاق يصور الموقف الذي أصبح عليه المسلمون: “وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين … ” .
في هذا الظرف العسير، لجأ القائد الحكيم، صلى الله عليه وسلم، إلى خطوة ليخفف بها عن أصحابه، ويكسر بها طوق أعدائهم. فأجرى اتصالات سرية مع قائدي غطفان: عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وتوصل معهما إلى اتفاق يقضي بانسحاب غطفان من الحلف، ورجوع مقاتيلها عن المسلمين، مقابل أن يعطيهم المسلمون ثلث ثمار المدينة.
وقبل أن يصبح العقد نهائيًا وملزمًا، عرض صلى الله عليه وسلم الأمر على زعيمَي الأنصار وممثلَيْهم: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ” فقالا له: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، وكَالَبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما). فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قِرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأنت وذاك). فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا” .
وهكذا، تخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن تدبيره، لِما أبداه زعيم الأنصار من رأي، ومن استعداد للمجالدة والتحمل. ولم يعترض على ذلك صاحبه سعد بن عبادة. وإنما استشار رسول الله هذين دون غيرهما، وخاصة من كبار المهاجرين كأبي بكر وعمر، لأن هذين هما زعيما الأوس والخزرج (الأنصار)، والثمار التي كانت ستعطى لغطفان هي ثمار الأنصار أهل المدينة. فلهذا كان لا بد من استشارة السعدين، وكان موقفهما كافيًا. فأخذ به الرسول وعدل عن فكرته صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فهذه نصوص القرآن الكريم، وهذه تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشهد لصوابية الاعتداد برأي الأغلبية، إذا كانت في مواضعها، وفي نطاق حقها واختصاصها. وها هو رسول الله خيرة خلقه وأكملهم عقلًا وأسَدُّهم نظرًا، المؤيد بالعصمة وبالوحي، ينزل عند رأي أصحابه، ويمضي ما عليه جمهورهم، فيما لا وحي فيه.
وليس في النصوص التي قدمت كلام عن (الأغلبية) و(الأكثرية)، ولكن العبرة بالمضامين والدلالات، لا بالألفاظ والعبارات. وقد أصبحت أحكام الشرع أصولًا وفروعًا، مصوغة بألفاظ ومصطلحات ظهرت عبر العصور، لم يستعملها الرسول، ولم يعرفها الصحابة. فالصيغ التعبيرية، والأشكال التنفيذية، لم تتوقف يومًا عن التقلب والتغير، لا سيما في الجوانب المتغيرة من الحياة. ولهذا لا يضيرنا أن لا نجد في الكتاب والسنة مصطلح (الأغلبية)، ولا ألا نجد أيضًا بعض الأشكال التنفيذية التي نراها اليوم. فحسبنا أن نجد الشرع، وخاصة تطبيقاته النبوية، قد اعتبر وقدر رأي الأمة، ورأي علمائها، ورأي قادتها. وأن الرسول كان ينزل عن رأيه لرأي هؤلاء، ويُمضي وينفذ ما قال به جمهورهم، أو مجموعهم.
فإذا كان المبدأ مقررا معتبرًا، فللتفاصيل شأن آخر. وسيأتي بعضها قريبًا بحول الله عز وجل.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)