العلوم الإسلامية وتهمة تأجيج العنف
بقلم محمد بوالروايح
هناك غارة قديمة جديدة على العلوم الإسلامية يقودها فريقان: فريقٌ يعدُّها ضربا من الإيديولوجيا ومن ثم يرى أنها كغيرها من الإيديولوجيات لا تصلح لبناء المنظومة التربوية التي يجب –حسبهم- تحييدها وإبعادها عن الأدلجة، وفريق يتهمها بأنها مصدر التطرف الفكري، ويحمِّلها وزر ضعف المستوى التعليمي. إن العلوم الإسلامية ليست ضربا من الإيديولوجيا، إنها الهوية في أجل معانيها وأكمل مقاصدها، إن أصولها مستوحاة من روح الإسلام، ولا يضرها في ذلك اشتمالها على بعض الآراء العقدية، فقد تعرَّض علماء الشريعة لهذه الآراء ووضعوها في إطارها التاريخي وعرضوها على محك النقد وميزوا بين ما يوافق أصول الدين وما يخالفها.
إن الغارة على العلوم الإسلامية قد تكون فعلا مؤسَّساتيا ممنهجا، وقد تكون إيعازا أو عملا معزولا، ولكن كل هذا يصب في اتجاه واحد وهو محاربة العلوم الإسلامية وإعاقتها عن أداء دورها التنويري في المجتمع. إن الذين يحاربون العلوم الإسلامية ينطلقون من مقاربة خاطئة مفادها أن العلوم الإسلامية تشتمل على نصوص تحرِّض على العنف والكراهية، ويسوِّقون لتبرير هذه الاتهامات وتمرير هذه الترهات نصوصا مقطوعة عن سياقها، تُظهر النبي صلى الله عليه وسلم في صورة القائد الثائر على المجتمع المكي، الذي يستبيح كل شيء من أجل فرض سلطته على الآخرين وسوقهم إلى المشانق، وتُظهر الصحابة في صورة جماعة من مصاصي الدماء وقطاع الطرق المهووسين بالولاء لقائدهم، الذين يستحلون قتل من يخالفهم في العقيدة لا يفرِّقون بين محارب وقائم في المحراب، وتُظهر الإسلام على أنه امتدادٌ للعصور الظلامية التي يتمتع فيها القائد الديني بسلطات مطلقة.
إن هذه المقاربة الخاطئة هي التي دفعت كثيرين إلى شيْطنة العلوم الإسلامية وتصنيفها على أنها العدو الأول للمنظومة التربوية ولذلك لم يتوانوا في زحزحتها بكل الوسائل، يعينهم على ذلك كل ناعق ومنافق.
إن العلوم الإسلامية بريئة من هذه الصورة المقرفة المرعبة، فالغزوات لا تشكل إلا جزءا يسيرا من السيرة النبوية، وهي علاوة على ذلك ليست قائمة على فكرة الإبادة الجماعية وعلى مبدأ التصفية العرقية، وليست قائمة على غريزة الانتقام من الآخر. إن آيات الجهاد التي يتذرع بها المحاربون للعلوم الإسلامية لا تشرِّع لما يسمى في عرف هؤلاء “الحرب المقدسة” ولا تشرعن العدوان على الآخر. إن الذين يتهمون العلوم الإسلامية بإشاعة العنف والكراهية وهي براء منهما تجدهم في المقابل يحشون الكتب المدرسية بفلسفة “نيتشه” وفلسفة “فرويد” و”الكوميديا الإلهية” لدانتي، وروايات ألف ليلة وليلة الخيالية وحكايات “جحا” ومغامرات “أبولو” ثم لا يجدون حرجا في ذلك مع أنها تعمل على إيجاد جيل خرافي يؤمن بالخرافة أكثر من إيمانه بالحقيقة.
إن مشكلة العلوم الإسلامية الأولى إنما هي في كُتَّابها وليس في كِتابها، فقد اطلعت على بعض الكتب المدرسية لمادة العلوم الإسلامية فأصبت بالذهول لكثرة ما وجدت فيها من أخطاء ومن أفكار نشاز ومن صياغات وسياقات وعبارات قُطعت من دابرها وفُصل أوَّلُها عن آخرها، دُوِّنت على طريقة حاطب الليل وقدِّمت لأبنائنا على أنها خلاصة دراسات وخبرات علمية وبيداغوجية لخبراء في هذا الميدان لا يُشق لهم غبار.
إن الكِتاب الذي تستمد منه العلوم الإسلامية قوتها هو كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما تستمد قوتها أيضا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، ولذلك يجب أن لا نحمِّل الكتابَ والسنة أوزار من أخطأوا ولا أن ننسب إلى العلوم الإسلامية غريب الأفكار التي صاغها جاهٌل بطبيعة العلوم الإسلامية وبأصولها ومصادرها.
إن تقليص الحجم الساعي للعلوم الإسلامية في بعض الأطوار ينبغي أن لا يُؤوَّل على أنه توجُّهُ دولة بل هو نتاج ما سُمي ظلما “اجتهادات” بعض القائمين على شؤون المنظومة التربوية، وتتحمل لجان العلوم الإسلامية في ذلك جزءا من المسؤولية إما لسكوتها أو لضعفها في الدفاع عن العلوم الإسلامية أو لغلبة العمل النقابي عليها أو لاشتغالها ببعض الشكليات وتفريطها في الأساسيات.
إن العلوم الإسلامية عنوان للهوية، وبناء عليه، فكل تقزيم لها هو تقزيم للهوية، أليس من المفارقة أن تجد لدى الصينيين حرصا على تدريس تعاليم “كونفوشيوس”، ولدى اليابانيين حرصا على تدريس تعاليم “أماتير اسو”، ولدى اليهود حرصا على تدريس تعاليم التلمود، ولدى الفرنسيين حرصا على تدريس سيرة “نابليون بونابرت”، في حين نهجر نحن العلوم الإسلامية ونضرب عنها الذكر صفحا مع أنها تمثل بشهادة الغربيين أسمى ما جاءت به الديانات والفلسفات منذ فجر التاريخ؟
لقد كانت الشريعة الإسلامية في نظر الغربيين عنوانا لـ”الظلامية” و”الرجعية”، ولكن دار الزمان دورته فلم يجد هؤلاء مخرجا من أزماتهم المالية التي سبَّبتها المعاملات المالية إلا في الشريعة الإسلامية فبادروا باعتماد الصيرفة الإسلامية، وفي المقابل سيدرك الغرب وبعض العرب المولعين بالثقافة الغربية بأن أصلح العلوم لحماية الهوية وبناء الشخصية المتوازنة هي العلوم الإسلامية لأنها لا تجعل من متعلمها راهبا ناسكا منعزلا في ديره ولا بطلا سينمائيا معجبا بنفسه ولا عبدا لشهواته ونزواته بل تجعل منه إنسانا سويا يوازن بين الأشياء ويتعامل معها وفق قاعدة “لا إفراط ولا تفريط”. أليس من المفارقة أن تجد علوم اللاهوت أو العلوم الدينية بصفة عامة مادة إجبارية في كل الجامعات الأمريكية بحجم ساعي يضاهي الحجم الساعي المخصص للعلوم الأخرى في حين يقلص الحجم الساعي للعلوم الإسلامية عندنا إلى الحد الأدنى؟
إننا نناشد رئيس الجمهورية أن ينصف العلوم الإسلامية وأن يعيد لها الاعتبار وأن يخلصها من ظلم سُلط عليها تحت ذريعة “إصلاح” المنظومة التربوية. إن إصلاح المنظومة التربوية لن يتحقق إلا بتطوير العلوم الإسلامية، التي ينبغي أن لا تظل رهينة نزوات فكرية وحسابات إيديولوجية.
إن تقليص الحجم الساعي للعلوم الإسلامية سيؤدي لا محالة إلى تضاؤل حظوظ الخريجين من جامعة الأمير عبد القادر والكليات والمعاهد الإسلامية الأخرى، وهذا سيدفع كثيرين إلى الإعراض عن العلوم الإسلامية لأنها في نظرهم تخصُّصٌ لا طائل من ورائه إلا أن يهيئ صاحبه لبطالة محققة.
حينما ندعو إلى إعادة الاعتبار للعلوم الإسلامية فإن هذا لا يعني أننا ننغلق على أنفسنا أو نُكره الآخرين على الإقبال عليها، فلسنا مهووسين بفوبيا الثقافات كما ينعتنا الآخرون لأننا ببساطة نملك من فنون الرد وأساليب النقد وأدوات التفكير وطرائق التمييز ما لا يملكه غيرُنا. إن الغارة على العلوم الإسلامية ينبغي أن تواجَه بالغيرة عليها من جانب أهلها، غيرة تقدم الحجة على الاحتجاج، وتعتمد على الحوار لإيصال رسالتها وإسماع موقفها، غيرة يدفعنا إليها تمسُّكنا بالهوية لا حب الانتصار للأفكار.
في برامج الجامعات الأمريكية ربط بين الدين والسياسة الخارجية، وذلك لإيمان المشرفين على هذه البرامج بأن للثقافة الدينية تأثيرا واضحا على إدارة الشؤون الخارجية، ولكن للأسف هذه المعادلة البرامجية -إن صح التعبير- مغيبة في جامعاتنا إلا في نطاق محدود، وأذكر في هذا الصدد أنني درَّست مادة “إدارة الأديان والسياسة الخارجية” بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية وقد لقيتُ قبولا واسعا من الطلبة، فأرجو أن توسَّع هذه التجارب بإحياء دور العلوم الإسلامية ونصرتها في معركتها ضد المتآمرين عليها وعلى مواد الهوية.
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الاكترونية)