مقالاتمقالات مختارة

العلمانيون في زمن الإمام الغزالي

بقلم د. محمد الأمسمي – مدونات الجزيرة

تعرف دائرة المعارف الأميركية العلمانية، بـ: الدنيوية: وتفسر ذلك بأنها حركة تريد أن يعيش الناس على المبادئ الطبيعية التي تتعامل مع الأشياء والحياة بدون نظر أو اعتماد على أن وراء ذلك خالق أو مدبر أو آمر أو ناهي، أو عقاب أو ثواب، وأن الغيب كله لا يعني الإنسان في هذا الوضع الطبيعي، وهي إذ لم ترد أن يؤخذ عليها الإقرار بالإلحاد لهذا التوجه جعلت أن للمرء أن يتدين أو يختلف مع الناس في نظرته للدين أو التدين بدون أن يذكر ذلك في (الدنيوية).

ونفهم من حوار الإمام الغزالي للباحثين عن الحق في كتابه: (المنقذ من الضلال) والذين يسميهم هو بأصناف الطالبين الذين حصرهم: في الباطنية، الذين يزعمون أنهم المخصوصون بالتعليم من الإمام المعصوم، والصوفية الذين يدعون أنهم المخصوصون بالمشاهدة والمكاشفة، والمتكلمون الزاعمون أنهم أهل الرأي والنظر، ثم الفلاسفة الذين يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان، وهم الموصوفون في العصور الحديثة عندنا بالعلمانيين الذين يحكمون على الأشياء بعقولهم وفكرهم دون الرجوع إلى الدين أو اعتماد الوجدانيات والذوقيات.

ويقول الإمام الغزالي عن أهل زمنه: إن هناك من بين المفكرين أو الفلاسفة الإسلاميين من يميل إلى هذا التوجه الدنيوي في الحياة، بحيث يريد أن يعتمد في أوضاعه وممارساته الحياتية على التجارب العقلية، والتجارب العملية، ويعتقد أن الأديان جاءت ليخاطب بها العوام ومن في حكمهم بهدف ضبط أخلاقياتهم ومنعهم من التهارش، والاعتداءات، وأن العقلاء والمفكرين والفلاسفة، بعلمهم وفكرهم وقوة ضبطهم لأخلاقياتهم في مأمن من الانجراف وراء الحيوانية، والأعمال السبعية التي يدفع إليها الغضب، أو النفوس الأمارة بالشر، وأنهم في سبيل ذلك لهم أن يشربوا الخمور تداويا لا تلهيا، وأن يستمعوا لما تميل إليه نفوسهم من الموسيقى وغيرها مما يجدون فيه راحة نفسية، أو يوفر لهم متعة بدنية.

وأن أحد كبار هؤلاء الفلاسفة العقلانيين قيل له: لماذا تصلي مع المسلمين وتدخل معهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية؟ فقال: لرياضة البدن، ولعادة البلد، وحفظ المال والولد… فإن أحرج بأن دلائل الشريعة صحيحة، قال: نعم، الشريعة صحيحة والنبوة حق، وهنا يمسك عليهم الغزالي هذا الإقرار ليثبت لهم أن اعتقادهم بخصائص الأشياء المادية هو الذي يؤمنون به، ويثقون فيه، ويتبعونه، لأنهم جربوه أكثر من مرة فوجدوه قانونا ثابتا لا يتخلف، وأنهم من خلال قناعتهم بهذه الخصائص، يجب عليهم أن يدركوا أن للدين أيضا خصائص يدركها من مارسه وجربه لما أودع الله في أوامره ونواهيه، من حكم عظيمة تجلب للنفوس اليقين والطمأنينة والسكينة والصحة القلبية والبدنية، ولكن لمن جربها، ومارسها.

ولا تعطي الشريعة تلك الثمار لمن يعظمها بلسانه كالمنافقين، ثم يسوون أوضاعهم على مقتضى حكمتهم وعقلانيتهم وفلسفاتهم، فإن من يفعل ذلك يريد أن يكون متبوعا لا تابعا، وذلك عند التحقيق لا يدل على حقيقة الإيمان بالنبوة والوحي والغيب، الذي يوجب الإيمان به على العقلاء أن يؤمنوا أنه طور فوق أطوار العقول، تماما كإيمانهم بخصائص الأشياء ونفعها مع جهلهم بكنه حقيقة تلك الخصائص التي ينكرها من لم يشاركهم في معرفتها بالتجربة العلمية والعملية…

ومن هنا يمكن أن ندرك بواعث العلمانية – بفتح العين وسكون اللام من العالم المادي الدنيوي- في نفرتها من تعاليم الكنيسة وطغياناتها التي شملت مجالات عديدة من حياة المجتمعات بعلمائهم ومفكريهم وفلاسفتهم والتي كانت تمارسها على عقول الناس ونتائج تفكيرهم وتجاربهم والتي أضحت حقائق علمية، يؤمنون بها ويتبعونها، بينما هم لا يشاركون الكنيسة في معرفة طقوسها وتعاليمها، ومن مارسها منهم كالقس مارتن لوثر؛ وجدها تصادم العقول في كثير من مسلماتها وحجبها لتعاليمها عن الناس، وفتاواها للإقطاعيين والنبلاء في زمنها في تسخير الناس بالفتاوى الظالمة الاستعبادية التي يكون معظم الشعوب من خلالها سخرة عند الأغنياء بدون إنسانية، فحاول التحرر من ذلك ولكنه لم يتمكن من التخلص من ربقة خرافات الكنيسة لأنه كان معايشا لها.

ولذا نقول

إن العلمانية بهذا المفهوم المادي الإلحادي الصرف والدين الفاسد المحرف ورجاله، كلاهما خطر على الدين والدنيا، لأن كلا منهما يريد أن يكون متبوعا، لا تابعا للحق والتجارب العلمية الصحيحة التي تفيد الناس وتنفعهم وتحررهم من ربقة التقليد والتبعية لغير الحق المعصوم من المؤثرات النفسية والجنسية والبيئية، والاتجاهات الفكرية النازعة للعنصرية.

وقد تفظن الإمام محمد عبده لما وقع في الدين الإسلامي من مثل هذه الترهات التي تحسب عليه عند الآخرين، وهو إنما جاء للقضاء عليها، وتحرير الناس من غير الحقائق العلمية والبراهين العملية التي لا تخضع للأهواء والانحرافات أو الشبهات والشهوات البشرية الكثيرة، فاستحسن تنقية الدين منها حتى لا نقع فيما وقعت فيه الكنيسة وتعاليمها الكهنوتية، فنكون من الذين يضلون عن سبيل الله بعلم أو بغير علم، وما زال ذلك الطرح مسؤولية العلماء والعقلاء، التاريخية، وقد حملهم النبي صلى الله عليه وسلم أمانة حماية الدين من الأمور الدخيلة عليه بقوله: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) الحديث، وإنما كانت مسؤولية أنبياء بني إسرائيل العمل على تنقية التوراة ودفع أعمال الظلمة والمنحرفين فكريا وعقائديا من المساس بمقدساتها الربانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى