العلمانية بين معنى المفهوم ومآلاته
بقلم الزهراء محمد
إن من أبرز المصطلحات والمفاهيم التي دخلت إلى عالمنا العربي والإسلامي، وأخذنا نكرره ونردده بغير فهمه على الوجه الصحيح، هو مصطلح «العلمانية». ويُقصد بالعلمانية: فصل الدين عن الدنيا في جميع مناحي الحياة، وأبرزها السياسية والثقافية والفكرية. ولا علاقة للعلمانية بالعلم كما يُشاع عند البعض، فالدين عند العلمانيين ينحصر أثره في دور العبادة.
وبحسب دائرة المعارف البريطانية، فالعلمانية «حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بالحياة وحدها؛ ذلك أنه كانت لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر». ويزعم العلمانيون أن العلمانية لا تعادي الدين، وإنما تُبعِده عن جوانب الحياة، وتكفل للفرد حُرية التدين، حيث يصير الدين عبادات شخصية لكل فرد، ولا يتطرق لأن يكون في جوانب الحياة المختلفة.
نشأة العلمانية
نشأت العلمانية في أوروبا كنتاج للتحريف الذي صار من رجال الكنيسة واستناد رجال الدين بشرح «الأناجيل»ثم «علم الأسرار»، ثم زاد انحراف رجال الدين حتى وصل إلى جميع نواحي الحياة؛ ما أدى إلى نفور الناس من الدين بالكلية. وينبغي ذكر أن أوروبا لم تُحكم بالدين قبل تحريف الإنجيل باستثناء الأحوال الشخصية، ولم يتدخل الدين في السياسة، الأمر الذي يُعد علمانية أيضًا حسب المنظور الإسلامي، ثم جاءت العلمانية فأقصت الدين بالكلية. وكان من المفترض نبذ تحريف ما جاء به رجال الكنيسة من شذوذ وفتك في القرون المظلمة لأوروبا، والبحث عن دين الحق.
إن دين الكنيسة كان يحقـِّر من قيمة الإنسان والدنيا بشكل كبير في سبيل الحصول على «الخلاص»، والذي يعني ببساطة خلاص الروح الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد الكامل من متاع الأرض، كما يقول ولفرد كانتول سميث” في كتاب «الإسلام في التاريخ الحديث»: «لم تكن في حساب الكنيسة المسيحية، لا أيام ضعفها في القرون الأولى، ولا حين أصبح لها السلطان، إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصي، كالذي يسير على معبر دقيق كل همه أن يُشمر ثيابه ويلتفت إلى مواقع قدميه حتى لا ينزلق أو يتلطخ بالوحل، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدام الآخرين أو يقيهم من الانزلاق».
فالدين عند رجال الكنيسة لم يكن يسعى إلى عمارة الأرض، وإنما الزهد في الدنيا وتقبل الظلم؛ فقد طالبت الكنيسة من الفلاحين تقبل الظلم الواقع عليهم حتى ينعموا برضا الله، وحتى لا يختلط الفهم؛ فالأمر مختلف تمامًا في منهج الإسلام. يقول الله تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا”.
فدور الإنسان في الإسلام ليس سلبيًا بالتأكيد، فالعمل للآخره لا يعني إهمال الدنيا، بل المقصود هو إقامه الدين الحنيف الذي من شأنه إقامه العدل، وأن يقف سدًا منيعًا من جور البعض على بعضهم. فقد خلقنا الله ابتداءً لعبادته بجعلنا خلفاء لإقامة دينه في أرضه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
العلمانية والأخلاق
تنبع الأخلاق والقيم بشكل أساسي من الدين، فإذا انسلخ المرء من دينه، وجرّد كل الأشياء، وجعل منظوره الواقعية والمادية البحتة، فلا بد أن يقع الخلل، في أول الأمر، بدأ تنحي الأخلاق عن السياسة، ويتجلى ذلك واضحًا في قول “مكيافيللي”: «إن الغاية تبرر الوسيلة». فالغاية ببرت أفعال هتلر وموسوليني، والغاية بررت اجتياح واستعمار البلدان من أجل تصريف المنتجات، ثم أُزيحت الأخلاق في نواحي البحث والعلوم المختلفة بتعمد عدم ذكر اسم الله واستبداله بالطبيعة، كل ذلك نتاج عن إقصاء الدين، واعتبار الأخلاق مُتغيرة وتعبر عن الواقع، وليس القيم والمفاهيم الثابتة!
فما الذي تبقى إذن من الأخلاق؟، بعد أن قالت العلمانية إن السياسة والاقتصاد لا علاقة لهما بالدين، لم يتبقَ من الأخلاق غير القليل الذي ينبهر به بعض المسلمين، كاحترام الوقت، وعدم الغش وما إلى ذلك. وتلك الأمور في صميمها إسلامية، ولكن الغرب لا يفعلها لكونها جزءًا من الإسلام بالطبع، بل هي أداة للمزيد من المادية لسير المجتمع على ركائز لدعم النفعية ليس إلا، وللحد من المشكلات المُجتمعية.
العلمانية والاقتصاد
كان النظام فترة حكم الكنيسة إقطاعيًا، وقد كانت الكنيسة تطلب من الناس الرضا بما يقع عليهم من ظلم لأن ذلك قدر الله. وحين خرج الناس عن دين الكنيسة إلى العلمانية، قد بدلوا ذلك بأسوأ، سواءً بالرأسمالية أو الشيوعية. وحتى الآن، فالوضع في قمة الظلم، والفوارق كبيرة جدًا بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، ووسائل جمع الأموال تقوم بشكل أساسي على الربا وشَغل الناس بمنتجات عالمية، وصرف المليارات على تسويقها. بل وصل الأمر حد الجنون، وقد نرى أن كثيرًا من الناس قد وصل بهم الأمر للمفاخرة على أنه استطاع شراء حذاء من ماركة عالمية مشهورة!
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
وكما قال الشيخ إبراهيم السكران: “والعلمانية رفضت أن تكون السياسة لله”
المجتمعات العملانية وانهيار المجتمع وتفكك الأسرة
في أبريل عام 2008، ألقى القاضي بول كولريدج خطابًا أمام محامي الأسرة من منظمة «الحل»، وصف فيه الأسرة البريطانية بالانهيار والتفكك الكامل، فضلًا عن زيادة معدلات الطلاق، وأيضًا الأسر التي يعيش فيها الطفل مع أمه أو أبيه.
الأمر لا يخفى على أحد، فمنهج العلمانية قد دمر العلاقات الإنسانية تمامًا، والمجتمع الغربي في حالة كبيرة من الانحدار والتفكك. ونستعرض بعضًا من الأسباب التي أدت لذلك:
- قلة الوقت الذي يقضيه الوالدان مع الطفل، بالإضافة إلى كفاح المرأة لإثبات ذاتها في العمل ونسيان أسرتها.
- عزف الكثير من الأزواج عن إنجاب الأطفال في بعض البلدان كألمانيا وفرنسا وإسبانيا، ما أدى إلى شيخوخة السكان؛ فعدد الشباب أقل من كبار السن.
- انخفاض معدلات الزواج في بلدان الاتحاد الأوروبى بما يقرب من 50% من حيث القيمة النسبية، واستُبدل ذلك بالسكن المشترك (الأفراد الذين يعيشون بدون زواج)، حيث أصبح شيئًا مقبولًا اجتماعيًا. ومن البديهي بعد أن أصبح السكن المشترك مقبولًا في المجتمعات العلمانية؛ أصبح إنجاب الأطفال خارج نطاق الزواج مرتفعًا بشكل كبير، حيث تُشير أرقام المكتب الإحصائي للجماعات الأوروبية إلى أن نسبة المواليد الأحياء خارج منظومة الزواج في بلدان الاتحاد الأوروبي في عام 2014 بلغت 42%.
- الترويج للشذوذ الجنسي وزواج الشواذ
زواج الشواذ في الولايات المتحدة أصبح مسموحًا به في جميع الولايات المتحدة الأمريكية مُنذ 26 يونيو 2015، وبذلك تكون الدولة الثامنة عشر التي تسمح بزواج الشواذ، وذلك بعد قرار اتخذته المحكمة العليا للولايات المتحدة، وقد قضت أن دستور الولايات المتحدة يتطلب من جميع الولايات الاعتراف بالزواج، بغض النظر عن الجنس الشركاء.
- ضعف الروابط بين الأقارب، بسبب التركيز على الجانب المنفعي في الحياة. فالأبناء يغادرون منزلهم في سن معين، ولا يربطهم رابط اجتماعي إلا من خلال المناسبات الدينية والاجتماعية.
بعد انطلاق الثورة الصناعية، خرجت الكثير من القيم التي كانت من أسباب تفكك الأسرة، فالمرأة أصبحت ندًا للرجل، وباتت مركزية الأسرة والمجتمع تدور حول فلك ومحور شخصي بحت، فكل يسعى لإثبات نفسه.
خاتمة
الإسلام الذي جعل لكل شيء ميزانًا، أمر برجم الزاني المحصن، وجلد الزاني غير المحصن. والعلمانية لا ترى عقوبة للزنى إذا كان برضى الطرفين البالغين. الإسلام الذي حرم الربا، بل جعله من الكبائر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. ونص حديث الصحيحين: “اجتنبوا السبع الموبقات”. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وقد ألغت العلمانية في معظم الدول الأوروبية بعد عام 1400م ما وضعته الكنيسة من تحريم للربا، حيث كان يُنظر إلى المرابين في الكنيسة الرومانية على أنهم يهود!
إن دين رجال الكنيسة قد صرف الناس عن الاهتمام بالدنيا، ثم جاءت العلمانية لتُقصي الدين بالكامل، بدلًا من التوصل إلى الحقيقة التي تكمن في أن الدين لا يمكن أبدًا أن يكون عقيدة ومنهاجًا بعيدين عن المجتمع، بل هو الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء، ومن غيره ينهار المجتمع مهما وصل الإنسان إلى أي تقدم مادي. ويجب على كل مسلم قد عرف حقيقة العلمانية، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات، أن يسعى في فضح حقيقة العلمانية كمنهج مخالف للدين، بعد أن يتم ترسيخ المنهج الإسلامي الحنيف والتمسك به، وتربية الجيل الناشىء على الإسلام. يجب أن يكون هناك صوت للرد على العلمانيين، ومناقشة الشبهات التي تخاطب الجيل الحالى، ونرى كل يوم ضرورة الحاجة إلى تعلم العلوم الشرعية كما أوصى رسول الله «فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ«.
فالحل هو إحلال منهج العلمانية بمنهج الإسلام، ولن يتم ذلك إلا بإقامة شريعة الله.
المصادر
(المصدر: موقع تبيان)