مقالاتمقالات مختارة

العلمانية الْمُخَاتِلَة

بقلم إخليهن محمد الأمين

يشهد صراع الأفكار والإيديولوجيا في العالم العربي اليوم فصلاً جديداً من فصوله بعد انكسار الحركات الإسلامية في الثورة المضادة التي قامت في وجه الربيع العربي، هذه الحركات التي خاضت معارك شرسة خلال العقود الماضية ضد دعاة العلمانية من أجل تثبيت الهوية الإسلامية والوقوف في وجه الأفكار المنقولة والهويات المستوردة إلى العالم العربي، واستطاعت أن تهزم دعاة العلمانية “على الأقل” في المعركة النظرية وفي كسب الجمهور إلى جانبها.

الجديد في الصراع الفكري اليوم، هو نمط الطرح العلماني المنافق، الذي بات يتجنب الطرح المباشر لأفكاره، ويعمد إلى أنواع من المخاتلة في الطرح تلبس الفكر اللائكي لبوساً دينياً، ليوهم أنه ليس ضد الدين وإنما يسعى لقراءته “قراءة جديدة تواكب العصر”، ويخلط المعاني غير المتفق عليها بالمعاني الجميلة مثل الحرية والتعددية والديمقراطية والمساواة ليُوْهِمَ الناس أن المخالف له من دعاة الإسلامية، يقف ضد هذه المعاني الجميلة ويعارضها.

والحقيقة أن هذه المعاني الجميلة لا أحد يقف ضدها، الكل يدافع عنها والكل يسعى لترسيخها، ولكن ما يقف ضده خصوم للائكية هو ما يتخفى خلف تلك المعاني من فكر علماني لائكي لا يمتلك أصحابه الجرأة في الكشف عن أنفسهم ومصارحة الجماهير بأفكارهم وغاياتهم الحقيقية. إن الدعوة إلى العلمانية في البلاد الإسلامية ليست أمراً جديداً. لكن الدعوة لها اليوم تعتبر تخلُّفاً عقلياً ومعرفياً بالغاً، يدل على أن أصحاب هذه الدعوة يعيشون طفولة فكرية ولا يدرون شيئاً عن تاريخ صراع الأفكار.

أو لا يدرك هؤلاء الجهلاء المساكين أن دعوات التغريب والإلحاق الثقافي تلقت ضربات قاضية في العالم العربي جعلتها غير قابلة للاستنبات في البيئة الإسلامية يوم كان العالم العربي يعيش تحت ظل الاستعمار والانبهار بالثقافة الغربية. ويوم كان أقل مناعة وأكثر عجزاً عن مقاومة الأفكار المنقولة، فكيف بها اليوم وقد استعادت الأمة ثقتها بنفسها وبتراثها، وقد عّم التدين وشاع، وقد تربع الفكر الإسلامي على الواجهة الفكرية والثقافية للأمة؟

إن أقطاب الفلاسفة وقادة الحركات السياسية في العالم العربي، عادوا بعد عقود من الزمن ليبينوا للناس خطل دعوتهم للعلمانية في البلاد الإسلامية، وعلى رأس هؤلاء مؤسس القومية العربية “ميشل عفلق: رحمه الله الذي كتب في أيامه الأخيرة مقالات تناهض العلمانية في العالم العربي. وقد نقل عنه الفيلسوف اليساري الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله في كتابه القيم “وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر” بعض كلامه في رفض العلمانية، ومنه قوله: إن الذين يطرحون شعار العلمانية إنما يريدون للأمة نسيان تراثها، ويقابل هذا النسيان ترويج وتعميم للثقافة الغربية والحضارة الغربية.

وعلى هذا المنوال سار الجابري نفسه الذي كتب فصولاً في عدد من كتبه يدعو فيها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، يعارض فيها العلمانية ويدعو إلى استبدالها بالعقلانية، وقال بهذا الصدد إن “مسألة العلمانية في الوطن العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى