العلاّمة عبد الحميد بن باديس
تمهيد:
دور العلامة ابن باديس في استقلال الجزائر عن فرنسا دور مركزي، إذ كان ابن باديس وطِيلة ربع قرن هو رافع لواء الهوية الإسلامية والعربية للجزائر في وجه فرنسا، والمحرض على رفض الذوبان والاندماج في الهوية الفرنسية، حتى كاد أن يعلن الثورة المسلحة عليها لولا أن توفاه الله عز وجل.
وهذا الدور المركزي لابن باديس لا يتضح إلا إذا فهمنا تاريخ الجزائر مع الاحتلال الفرنسي الذي استمر 130 عاماً، عانت فيه الجزائر وأهلها أشد المعاناة من التشريد والحبس والقتل ومصادرة الأموال والأراضي فضلاً عن محاربة الإسلام والعروبة، وكانت استراتيجية فرنسا ضم الجزائر لها نهائياً وإرسال فرنسيين لها ليكونوا سكاناً للجزائر بدل أهلها، في نموذج سابق على جريمة المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين اليوم.
ولم يقف الجزائريون أمام هذا الوضع مكتوفي الأيدي، بل قاموا بمقاومة فرنسا عسكرياً ومدنياً بحسب ما قدروا عليه، وهو الذي سنفصل فيه قليلاً لنفهم الخلفية التاريخية التي جاء فيها ابن باديس.
الاحتلال الفرنسي للجزائر:
بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م أصيبت فرنسا بانهيار اقتصادي وتعرضت لمجاعة قاسية نتيجة للحصار الاقتصادي والعسكري اللذين فرضتهما الدول الأوربية المعادية للثورة الفرنسية، ولم تجد فرنسا أمامها إلا اللجوء إلى الجزائر لشراء القمح منها، فما كان من والي الجزائر الداي حسين باشا إلا أن وضع تحت تصرفها فائض المحصول من الحبوب وأقرضها ربع مليون فرنك دون فائدة لشراء ما يلزمهم، ومن أجل ذلك أسست الحكومة الفرنسية خطاً ملاحياً خاصاً لنقلها.
وكانت فرنسا قد اعتمدت شركة يملكها يهوديان وسيطة بينها وبين الجزائر، حيث كانت تشتري من الجزائر بسعر وتبيع لفرنسا بسعر مرتفع بالأجل، مما رتب على فرنسا ديوناً تجارية للجزائر، أخذت تماطل في سدادها.
وفي عام 1827 حين قدم قناصل الدول الأجنبية لزيارة حاكم الجزائر الداي حسين لتهنئته بعيد الفطر، جرى حوار بينه وبين “دوقال” قنصل فرنسا وطلب منه أن يبلغ حكومته بضرورة الإسراع في تسديد الديون التي عليها للجزائر، فأساء القنصل الفرنسي الرد، فأمره الداي حسين بالخروج من حضرته، لكن “دوقال” لم يستجب للأمر، فقام الباشا بضربه بالمروحة التي كانت في يده، فكتب القنصل إلى بلاده بما حدث، وادّعى أنه ضُرب ثلاث مرات.
فاتخذت فرنسا من هذه الحادثة ذريعة للتخلص من ديونها للجزائر من جهة واستغلالها لمحاولة احتلال الجزائر والاستيلاء على خزينتها التي تحتوي على 150 مليون فرنك!!
فأرسلت فرنسا قطعة من أسطولها إلى الجزائر وطلب قائده من الداي حسين الاعتذار للقنصل إلا أنه رفض، فحاصر الفرنسيون الجزائر ثلاث سنوات، تكبدت فيها فرنسا الكثير من النفقات وضربت تجارة فرنسا، دون أن يعتذر الداي لهم.
وفي عام 1830 قام ملك فرنسا بإعلان الحرب على الجزائر وأعطاها طابعاً دينياً حيث اعتبرها “حملة مسيحية على بلاد البرابرة المسلمين”، وأنها في صالح كل العالم المسيحي.
ومما ساعد على فرض الحصار والاحتلال في النهاية أن الأسطول الجزائري كان قد تحطم في معركة نافارين في شبه جزيرة المورة باليونان عام 1827.
جرائم الإحتلال الفرنسي بالجزائر:
لنأخذ لمحة سريعة عن جرائم فرنسا تجاه الجزائر والجزائريين ونقارن بين أقوال الفرنسيين أنفسهم، ففي حين كان المنشور الذي وزعه الفرنسيون في بداية الاحتلال يقول: ” إننا نحن أصدقاءكم الفرنسيين نتوجه الآن نحو مدينة الجزائر، أننا ذاهبون لكي نطرد الأتراك من هناك، إن الأتراك هم أعداؤكم وطغاتكم الذين يتجبرون عليكم ويضطهدونكم والذي يسرقون أملاككم وإنتاج أرضكم، والذين يهددون حياتكم باستمرار، إننا لن نأخذ المدينة منهم لكي نكون سادة عليها. إننا نقسم على ذلك بدمائنا وإذا انضممتم إلينا، وإذا برهنتم على أنكم جديرون بحمايتنا فسيكون الحكم في أيديكم كما كان في السابق، وستكونون سادة مستقلين على وطنكم.
إن الفرنسيين سيعاملونكم كما عاملوا المصريين، إخوانكم الأعزاء، الذين لم يفتأوا يفكرون فينا ويتأسفون على فراقنا طيلة الثلاثين سنة الماضية، منذ خرجنا من بلادهم، والذين ما يزالون يرسلون أبناءهم إلى فرنسا يتعلموا القراءة والكتابة ولكل فن وحرفة مفيدة، ونحن نعدكم باحترام نقودكم وبضائعكم ودينكم المقدس، لأن ملك فرنسا المعظم حامي وطننا المحبوب، ويحمي كل دين.
فإذا كنتم لا تثقون في كلمتنا وفي قوة سلاحنا، فابتعدوا عن طريقنا ولا تنضموا إلى الأتراك الذين هم أعداؤنا وأعداؤكم، فابقوا هادئين. إن الفرنسيين ليسوا في حاجة إلى مساعدة لضرب وطرد الأتراك، إن الفرنسيين هم، سيظلون أصدقاءكم المخلصين فتعالوا إلينا وسنكون مسرورين بكم وسيكون ذلك فرصة لكم، وإذا أحضرتم إلينا الأطعمة والأغذية والأبقار والأغنام فنسدفع ثمن ذلك بسعر السوق، وإذا كنتم خائفين من سلاحنا فأشيروا علينا بالمكان الذي يقابلكم فيه جنودنا المخلصون دون سلاح مزودين بالنقود في مقابل التمويل الذي تأتون به”.
قارن هذا بما جاء في تقرير اللجنة الإفريقية عام 1833 إلى الحكومة الفرنسية التي كانت كلفتها بالتحقيق في الجرائم كما يلي:
“لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية وجردنا السكان الذين وعدناهم بالاحترام.. وأخذنا الممتلكات الخاصة بدون تعويض.. وذبحنا أناسا كانوا يحملون عهد الأمان.. وحاكمنا رجالا يتمتعون بسمعة القديسين في بلادهم.. لأنهم كانوا شجعانا..”.
أما الضابط الفرنسي مونتايناك فيقول: “هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب.. قتل الرجال وأخذ النساء والأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب، لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة”.
أما سيمون دو بوفوار فكتبت تقول: “مند عام 1954 ونحن جميع الفرنسيين شركاء في جريمة قتل جماعي، أتت تارة باسم القمع وطورا باسم إشاعة السلام على أكثر من مليون ضحية رجالا ونساءً وشيوخا وأطفالا حصدوا بالرشاشات خلال عمليات المداهمة والتفتيش، أو حرقوا أحيانا من قراهم أو ذبحوا أو بقرت بطونهم، أو عذبوا حتى الموت. قبائل برمتها أسلمت للجوع والبرد، للضرب للوباء في مراكز التجميع التي ما هي في الواقع إلا معسكرات استئصال ومواخير عند الاقتضاء للنخبة من فرق الجيش، حيث يحتضر أكثر من 500,000 جزائري وجزائرية”.
ويمكن تعداد صنوف الإجرام الفرنسي تجاه الجزائر بالتالي:
1- توطين الفرنسيين والأوروبيين في أملاك الجزائريين بعد طردهم منها أو قتلهم، وقد وصل عدد المستوطنين إلى مليون مستوطن.
2- إرهاق الجزائريين بالضرائب، رغم فقرهم، ومصادرة أموالهم والتساهل مع المستوطنين.
3- إصدار قانون الأهالي (الأنديجينا)، وهو قانون ظالم يكبّل حياة الجزائريين.
4- مصادرة الأوقاف، ومحاصرة القضاء الشرعي.
5- منع استخدام اللغة العربية أو تدريسها حتى في البيوت.
6- تمكين اليهود من الاستيطان في الجزائر ومنحهم الجنسية الفرنسية، حتى وصل عددهم إلى 30 ألف يهودي.
الاحتلال الفرنسي يحارب التعليم ويدعم الطرق الصوفية:
عمل الاحتلال الفرنسي على ضرب التعليم في الجزائر، لأن الشعب المتعلم سيكون شوكة في حلق المستعمر والمحتل، ورغم أن الجزائريين كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة التعليم قبل الاحتلال الفرنسي لبلادهم، يقول الجنرال فالز في سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية… وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر كانون الأول عام 1831م، يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب)..
وقد أحصيت أكثر من 2000 مدرسة في الجزائر سنة 1830م، ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.
لكن الاحتلال الفرنسي عمل بكل قوة على محاربة العلم والمعرفة في الجزائر، فالفرنسيون عندما دخلوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، في سلوك همجي بربري.
وحاربوا المدارس والتعليم، حتى أنه بعد أقل من قرن على (الاستعمار) أصبح أطفال الشعب الجزائري أميين لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا 5 % سنة 1914، وذلك بفضل سياسات فرنسا وتعاون الطرقيين معها أحباب الجهل والخرافة!!
كان الفرنسيون يعرفون أن أصحاب الطرق من مشايخ الصوفية في الجزائر سيكونون خير سند لهم، لأنه يبحثون عن مصالحهم المادية وهو ما يمكن لفرنسا أن تمنحهم إياه في مقابل تسكين الشعب الجزائري وقبوله للاحتلال الفرنسي.
ولذلك زادت عدد الطرق وأتباعها بشكل مخيف في الجزائر في عهد الاحتلال، حتى أصبح في العاصمة لوحدها 23 طريقة صوفية، لها 349 زاوية، فيها 57 ألف شيخ و6 ألاف مقدم، ويتبعها 295 ألف مريد، وحصيلة تبرعاتهم 7 ملايين!!
يقول مالك بن نبي في مذكراته “مذكرات شاهد القرن” ص 181: “هكذا كان الناس يشهدون كل عام موكب (القادرية) المهيب يأتي إلى (أفلو). راية ترفرف، وعلى رأسها ابن شيخ الطريقة (المقدّم) يلبس الثياب الخضراء من رأسه إلى قدميه، إنها ثياب أهل الجنة، وهو ذو ذكاء شيطاني يعرف كيف يبتزّ من السذاجة العامة للناس كل ما يريد.
لقد كان يملك في تلك الفترة في (وادي سوف) بستاناً للنخيل، مؤلفاً من حوالي ألف نخلة، وهو من هبات أولئك الذين يريدون أن يدخلوا الجنة في موكبه”.
أما علاقتهم بفرنسا فيلخصها شيخ الطريقة التيجانية محمد الكبير في حديثه للكولونيل يسكوني: “إن من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا ماديا وأدبيا وسياسيا، إن أجدادي قد أحسنوا صنعا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل إلى بلادنا، ففي عام 1838 م كان أحد أجدادي قد أظهر شجاعة – نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا (عبد القادر الجزائري) وفي عام 1870 حمل سيدي أحمد تشكرات الجزائريين وبرهن على ارتباطه بفرنسا قلبيا، فتزوج من (أوريلي بيكار) وهو أول مسلم جزائري تزوج بأجنبية على يد الكردينال (لا فيجري) على حسب الطقوس المسيحية”، ولا نحتاج لتعليق على هذه الشهادة الصريحة في العمالة والخيانة.
ولذلك كانت معركة ابن باديس مع هؤلاء الطرقيين في البداية، ليطهّر الصف الجزائري قبل أن يصطدم بالفرنسيين.
حركات المقاومة الجزائرية ضد فرنسا
لم يقف الجزائريون مكتوفي الأيدي أمام الاحتلال الفرنسي بل قاوموه وتصدوا له في عدة محاولات كان أبرزها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري والتي استمرت 15 عاما (1832 – 1847)، ورافقها وتبعها عدد من المحاولات الجهادية لكنها لم تنجح في دحر الفرنسيين وإنما إيقاع خسائر جسيمة بها.
كما كانت هناك عدة محاولات سياسية لمقاومة فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى مثل حركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، والتي عرفت باسم “وحدة نواب المسلمين” سنة 1919، وحركة “نجم شمال إفريقيا” التي أسسها عدد من العمال المغاربة المهاجرين في فرنسا سنة 1926، وحركة “اتحاد المنتخبين المسلمين الجزائريين” سنة 1927.
الإصلاح السلفي في الجزائر قبل ابن باديس:
لقد دخلت الجزائر في الإسلام على يد التابعين تحت قيادة أبي المهاجر دينار، ولذلك شهدت الجزائر ظهور العديد من الشخصيات السلفية في تاريخها مثل الفقيه أبي الفضل النحوي من علماء القرن الخامس الهجري، وأبي الحسن علي بن الحق الزويلي (ت 719هـ)، وتلميذه الحافظ ابن مرزوق الحفيد، وأحمد زروق في القرن العاشر الهجري وتلميذه ابن علي الخروبي، مثلما ظهر عبد الرحمن الأخضري (ت 953هـ)، وجاء بعده في القرن الحادي عشر الشيخ عبد الكريم بن الفكون (ت 1073هـ)، والشيخ محمد بن عبدالله الجلالي معاصر أحمد التيجاني الصوفي.
ولذلك فالسلفية ليست طارئة على الجزائر بل إن المذهب المالكي الذي يتبعه غالبية الجزائريين هو عين السلفية، ولذلك حين ظهرت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية رأينا بعض الحجاج الجزائريين والمغاربة يؤيدها مثل ملك المغرب المولى سليمان، والسيد محمد السنوسي مؤسس الحركة السنوسية، والمؤرخ الجزائري أبو رواس الناصري الذي كان أول من عرّف الجزائريين بدعوة محمد بن عبد الوهاب.
وكان للطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة أو القرويين أو بتأثير الحركة السنوسية دور في حمل الدعوة السلفية والدعوة الإصلاحية، مثل الشيخ ابن الموهوب والشيخ صالح بن مهنا، والشيخ عبد القادر الجاوي (ت 1913) والذي من طلابه الشيخ حمدان الونيسي شيخ ابن باديس، والشيخ مصطفى بن الخوجة (ت 1915) وعمر بن قدور (ت 1915)، وممن ظهر في هذه المرحلة من المصلحين السلفيين الأستاذ محمد بن أبي شنب (ت 1929) والشيخ عبد الحليم بن سماية (ت 1933).
ولا ننسي هنا أن مجلة المنار التي يصدرها العلامة رشيد رضا كانت تصل للجزائر وأن محمد عبده زار الجزائر سنة 1903، وقد كان الجزائريون متعلقين بمجلة المنار بصورة كبيرة، لدرجة أنهم طالبوا رشيد رضا بألاّ يتعرض لفرنسا حتى لا تنقطع عنهم المنار!!
مولد ونشأة ابن باديس:
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي ابن باديس سنة (1308هـ/ 1889م) في مدينة قسنطينة لأسرة عريقة بالعلماء والأمراء والسلاطين. ومن أشهر رجالات هذه الأسرة المعز لدين الله بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية (حكم: 406-454هـ/1016-1062م) الذي قاوم البدعة ونصر السنة وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة.
ومن أجداده العلماء الشيخ المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قمّوش بقسنطينة، والشيخ أحمد بن باديس الذي كان إماما بقسنطينة أيام الشيخ عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر الهجري.
وبقيت أسرته من الأسر التي تشارك في الحكم، فجدّه لأبيه: الشيخ المكي بن باديس كان قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي المجلس البلدي، وعمه أحميدة بن باديس كان نائباً عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ورفع عريضة مع ثلاثة من النواب عام 1891م بأنواع المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري على يد الإدارة الاستعمارية الفرنسية ومن المستوطنين المهاجرين.
كما أن من عائلة ابن باديس من كانوا قادة كباراً في ثورة الأمير عبد القادر الجزائري وتم أسرهم وسجنهم في باريس، وأفرج عنهم مع الأمير عبد القادر الجزائري في عام 1852م وتم نفيهم إلى الشام.
لقي ابن باديس كل عناية ورعاية من والده الذي توسم فيه النباهة، حتى قال له: “يا عبد الحميد، أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فأكفني أمر الآخرة، كن الولد الصالح الذي ألقى به وجه الله”.
وهو ما بقي يعترف به عبد الحميد، فقد قال في حفل ختم تفسير القرآن سنة 1938، وأمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلته الشهاب: “إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة… فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر”.
أتم عبد الحميد بن باديس حفظ القرآن في سن الثالثة عشرة، ثم تتلمذ على الشيخ حمدان الونيسي، والذي نصحه بنصيحة سار عليها ابن باديس طيلة عمره، حين قال له: “اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة”، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا.
ثم تاقت نفسه للاستزادة من العلم فسافر لتونس في سنة (1327هـ – 1908م) والتحق بجامع الزيتونة وبقي هناك أربع سنوات، فدرس على العلماء وخاصة العلاّمة «محمّد النخلي القيرواني» والشيخ العلامة محمّد الطاهر بن عاشور، واستفاد من الشيخ الخضر حسين والمؤرخ البشير صفر والمصلح المجدد سعد الفياض، وقد كان جاداً في التحصيل حتى أنه اختصر دراسة الزيتونة من سبع سنوات إلى ثلاث سنوات فقط، ومكث بعدها سنة يدرس تطوعا على عادة جامع الزيتونة، وبذلك حصل على شهادة التطويع.
ولم يكتف بدروس الزيتونة بل ذهب للجمعية الخلدونية التي كانت تدرس العلوم العصرية مثل الحساب والمساحة والجغرافيا والكيمياء والطبيعيات، فتعلم العلم الشرعي وأصبح على دراية بما يحيط بالأمة من أحوال وتحديات.
ثم في عام 1913 عاد لدياره ولم يتجاوز عمره 23 سنة، ليباشر التدريس بالجامع الكبير، بسبب نفوذ والده وعلاقاته بالإدارة الفرنسية، لكن المغرضين من أصحاب الأهواء سرعان ما عارضوه وناصبوه العداء، حتى أنهم أطفأوا النور عليه وهو يدرس بالمسجد، فقرر السفر لبيت الله الحرام في نفس العام.
اللقاء بالبشير الإبراهيمي بالمدينة المنورة:
في المدينة لقي ابن باديس الكثير من العلماء المجاورين فيها أو الزائرين لها مثله، ومن أبرز من قابل فيها شيخه القديم حمدان الونيسي الذي طلب منه الإقامة عنده في المدينة، وهو الأمر الذي عارضه الشيخ حسين الهندي الذي أشار عليه بالعودة للوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية، وهي النصيحة التي نفذها ابن باديس على أحسن وجه، وبقيت استراتيجيته حيث قال عن نفسه: “فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية، بجميع مدعماتها، في هذا الوطن”.
أبرز ما حدث مع ابن باديس في المدينة تعرفه على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي، والذي سبق ابن باديس في سكن المدينة والاستقرار فيها مع والده قبل أكثر من سنة على لقائهما، وبقي هناك حتى 1920، حيث جاء للجزائر ليكمل مع ابن باديس طريق الدعوة التي بدأها.
فقد مكث ابن باديس والإبراهيمي ثلاثة أشهر يلتقيان يوميا بعد العشاء وحتى الفجر يتدارسان أحوال الجزائر وكيفية إصلاحه وبث النهضة الدينية والعلمية والسياسية فيه. وقد بين لنا البشير الإبراهيمي محتوى هذه اللقاءات حين قال: “وأشهدُ الله على أن تلك الليالي من عام 1913 هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعيّة العلماء المسلمين والتي لم تبرز للوجود إلا عام 1931».
العودة للجزائر:
في عودته للجزائر زار ابن باديس بلاد الشام ومصر حيث اجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيسي، فرحب به وأجازه ومنحه العالمية الأزهرية، وقد منحته هذه الرحلة معرفة واقع البلاد الإسلامية مما وسع مداركه وأكسبه خبرة غنية بتجارب سابقة، كما مكنته من التعرف بقادة الإصلاح فيها، ولذلك سنجد فيما بعد أن ابن باديس له صلات بكثير من رجالات الإصلاح في العالم العربي، وأن كثيراً من رجالات الإصلاح يتابع أخبار ومجلات ابن باديس.
حين وصل ابن باديس للجزائر، قام بعدة جولات بالقطار لأرجاء الجزائر ليتعرف عليها ويتعمق في فهم مشكلاتها.
بداية الدعوة والجهادي الفردي:
منذ عودة ابن باديس نهاية عام 1913 وحتى تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة 1930، سيكون ابن باديس شعلة من النشاط والحركة في سبيل نهضة الجزائر وتحررها، من خلال إنشاء جيل جزائري جديد يقوم بهذه المهمة.
فمنذ عودته بدأ بإلقاء الدروس في المسجد الكبير ثم تحول للمسجد الأخضر وهو المركز الرئيس لنشاطه ومساجد سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بومعزة وسيدي فتح الله، حيث استحصل له أبوه على تصريح بذلك، ولم تقتصر دروسه على الكبار، بل خصص دروساً للصغار أيضاً بعد خروجهم من درس الكتاتيب القرآنية، وهذا أمر لم يكن معهوداً قبله.
وكانت دروسه تقام طوال النهار والليل، حيث كان يدرس عشرة دروس في اليوم، يتنقل فيها بين المساجد والنوادي، فانهال عليه الطلاب من كل مكان، حتى أصبح عنده أكثر من ألف طالب، وكان يستعين بأهل الخير على إيوائهم وإطعامهم.
وهذا تطلب منه التفكير في إنشاء مدرسة ابتدائية قرب مسجد بو معزة، ثم تنتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست في عام 1917، ثم في سنة 1930 عرفت باسم مدرسة التربية والتعليم، تضمن قانون الجمعية: أنها تسعى “لنشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية والفرنسية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين”، وذلك من خلال تأسيس مدرسة للتعليم، وملجأ للايتام، وناد للمحاضرات، ومعمل للصنائع، وإرسال بعثات طلابية للدراسة في الكليات والتدرب في المعامل الكبيرة على نفقة الجمعية.
ومن سعة أفق ابن باديس أن جعل تعليم الفتيات مجانياً بخلاف الطلاب الذين يدفع المقتدر منهم رسوماً رمزية، وذلك لتشجيع التعليم بين الفتيات.
وفي هذا يظهر سبق ابن باديس لإنشاء المدارس والجمعيات وتعليم الفتيات خصوصاً، على كثير من الدعوات والتجمعات العلمانية، ولكن للأسف أن هذا الميراث من السبق الحضاري يتنكر له كثير من محبي ابن باديس اليوم بلسان الحال إن لم يجمعوا لسان المقال أيضاً.
ومن هذه المدرسة نشأ جيل كامل في الجزائر متشبع بقيم الإسلام ولغته وآدابه، ويستطيع الخطابة ونظم الشعر وإلقاء المحاضرات، وقد أرسل بعض هؤلاء الطلبة للتوسع في العلم بجامع الزيتونة، وبعض آخر للتدرب في المعامل الكبري، وقد اعتمد ابن باديس على هذا الجيل في إنشاء جمعية العلماء المسلمين والقيام بمشروعه الإسلامي الكبير بمقاومة الاحتلال الفرنسي، بعد أن عمل بهدوء ودون ضجة لسنوات عديدة. ومع تدريسه للطلاب إلا أنه أيضاً كان يخصص يوماً لتعليم العمال ويوماً لتعليم النساء.
وبعد أن انتشرت الدروس في المساجد وأنشأ المدرسة، فكر ابن باديس بالتوسع في نشر فكره ومشروعه فدخل عالم الصحافة، ففي البداية تعاون مع جريدة النجاح (تأسست 1919) في الكتابة والتحرير، حيث كان يكتب بأسماء مستعارة هي القسنطيني والعبسي والصنهاجي، ثم وجد أنها لا تلبي طموحه فقام بتأسيس صحيفة “المنتقد” الأسبوعية في عام 1925 والتي شنت حملة قوية على العقائد الفاسدة والخرافات الشائعة، واستمرت “المنتقد” 18 عدداً ثم أوقفت بقرار تعسفي من الإدارة المحتلة.
وصحيفة المنتقد جاءت كمرحلة جديدة في دعوة ابن باديس وجهاده، إذ رأى ابن باديس أنه بعد 10 سنوات من التعليم، حان الوقت لمهاجمة الطرقية وخرافاتها بقوة، ولذلك جاء هذا الاسم “المنتقد” والذي يهاجم بشكل مباشر وفي الصميم المبدأ الصوفي الطرقي الضال “لا تعترض فتنطرد”، والذي يراد به إلغاء العقول والتفكير والاكتفاء بدور التبعية والتقليد للشيخ مهما كان موقفه خطأ أو ضلالاً.
ولكن قناة ابن باديس لم تهن أو تلين فبعد شهر يصدر جريدة “الشهاب” الأسبوعية تحت شعار “تستطيع الظروف أن تخيفنا، ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا”، وفي عام 1929 تحولت إلى مجلة شهرية بسبب المضايقات من قبل الإدارة الفرنسية، وكان شعارها: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”..
ومن أجل ضمان استمرار صدور المجلتين أنشأ ابن باديس المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة 1925، ليتجنب عوائق صدورهما إذا كانتا تطبعان في مطبعة مستأجرة!!
وفي هذه المرحلة يعود زميله الشيخ البشير الإبراهيمي سنة 1920 ليتعاونا في الإصلاح، ويكون لهما لقاء كل أسبوعين أو شهر على الأكثر، لأن البشير الإبراهيمي جعل مركز نشاطه في مدينة سطيف، وفيما بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين سيتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية العلمية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، حيث سيبقى ابن باديس مشرفاً على مقاطعة قسنطينة بما تضم من القرى والمدن، فيما يتولى الإبراهيمي مسئولية مدينة تلمسان العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، أما الشيخ الطيب العقبي فسيكون مشرفاً على مقاطعة الجزائر.
ومن الواضح في مسيرة ابن باديس أنه يحاول أن يتجاوز أخطاء وعثرات تجارب المصلحين الجزائريين السابقين، فهو يتجنب أن تكون دعوته ضيقة النطاق سواء على صعيد الجغرافيا أو الشريحة المستفيدة، كما أنه يتجنب أن تكون دعوته فردية مرتبطة بشخصه ولذلك ينشئ مؤسسات: مدرسة/ مجلة/ مطبعة…، ويسعى للتكامل مع زملائه وعدم حصر الدعوة في مكان محدد فيتوزعون على المناطق ويلتقون دورياً، ويحاول أن يتطور مع الأحداث والمستجدات فلا يبقى بنفس الأسلوب مع تطور دعوته وقوته ولذلك نجده يتنقل من المسجد لفتح جمعية، ثم مدرسة، ثم يرسل بعثات للخارج، جريدة ومجلة، ثم مطبعة.
إرهاصات تأسيس جمعية العلماء المسلمين:
هناك الكثير من المقدمات التي سبقت ظهور جمعية العلماء المسلمين في سنة 1931، فبعد مسيرة ابن باديس الطويلة في الجهاد الفردي بالتعليم والدعوة والإعلام تكوّن في الجزائر تيار من العلماء الإصلاحيين وطلبتهم بقيادة ابن باديس، وكانت لهم لقاءات دورية لتدارس أحوال الجزائر وكيفية النهوض به، للوصول للغاية النهائية وهي الاستقلال عن فرنسا وإعادة الجزائر دولة مسلمة قوية ومتقدمة، ولقد صرح ابن باديس لمن استفسروا منه عن موقفه من المطالبة باستقلال الجزائر قائلاً: “وهل يمكن من شرع في تشييد منزل أن يتركه من دون سقف؟ وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الاستقلال”، وذلك في سنة 1933.
ومن هذه الإرهاصات محاولة ابن باديس التي لم تنجح سنة 1924 لإنشاء جمعية (الإخاء العلمي) يكون مركزها العام بمدينة قسنطينة العاصمة وتجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقرب بين آرائهم في التعليم والتفكير، وتوثق الأواصر بينهم.
وقد طلب ابن باديس من الشيخ البشير الإبراهيمي كتابة قانونها الأساسي، لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح، وكانت الخلاصة التي خرج بها ابن باديس والإبراهيمي أن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد، ولكن التجربة لم تذهب بلا فائدة.
فعاود ابن باديس التركيز على النشاط في الصحافة والمجلات لتكوين رأي عام وداعم لهذه المحاولات في المرات القادمة، حيث دعا ابن باديس في مقالاته إلى اتحاد العلماء وتجمعهم, والاتفاق على خطة عمل لإصلاح الأوضاع الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية, في تمهيد لفكرة جمعية العلماء، فكتب في مجلته الشهاب: “أيها السادة العلماء المصلحون المنتشرون بالقطر الجزائري إن التعارف أساس التآلف والاتحاد شرط النجاح فهلموا إلى التعارف والاتحاد بتأسيس حزب ديني محض”، (الشهاب، عدد 3، 26/11/1925).
وقام بعض أصدقاء ابن باديس في العاصمة سنة 1927 بإنشاء «نادي الترقي» بهدف “مساعدة الأعمال التمدينية التي تقوم بها فرنسا وذلك بالسعي في تثقيف مسلمي الجزائر عملياً، واقتصادياً، واجتماعياً”، وقد حاضر ابن باديس في حفل تأسيسه، ومن ثم طلب أعضاء النادي من الشيخ الطيب العقبي رفيق ابن باديس أن يكون محاضراً في النادي لسكنه في العاصمة. وسيكون النادى فيما بعد مقر الاجتماع لتأسيس جمعية العلماء.
وفي خطوة تالية سنة 1927 دعا ابن باديس الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة في مكتبه يدرسون فيها أوضاع الجزائر، وما يمكن عمله، فلبى الدعوة البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والعربي بن بلقاسم التبسي، ومحمد السعيد الواهري، ومحمد خير الدين، وكانت نتيجة هذا الاجتماع الاتفاق على خطة عمل لنشر الدعوة الإصلاحية واستخدام الصحافة والنوادي وإنشاء فرق الكشافة الإسلامية، واتفقوا على تحديد محاور الفكر الإصلاحي الذي يجب أن يكون في الجزائر، وهو مما يعتبر خطوة تمهيدية لجمعية العلماء مستقبلاً، وفعلا كانت تلك هي محاور البرنامج الذي اتبعته الجمعية بعد ميلادها.
شرارة التأسيس:
في سنة 1930 قررت فرنسا إقامة احتفالات ضخمة بمناسبة مرور 100 عام على احتلالها للجزائر، وكان مقررا لها أن تستمر مدة 6 شهور، وانفقوا فيها 130 مليون فرنك فرنسي، وقد وضح أحد قادتهم القصد من هذه الاحتفالات بقوله: “إن احتفالنا اليوم ليس احتفالاً بمرور مائة سنة على احتلالنا الجزائر، ولكنه احتفال بتشييع جنازة الإسلام”!!
لكن ابن باديس ورفاقه تصدوا لهذه الاحتفالات، يقول البشير الإبراهيمي: “استطعنا بدعايتنا السرية، أن نفسد عليها كثيراً من برامجها، فلم تدم هذه الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا، ونلفت أنظاره إلينا”.
وكان الرد العملي على هذه الاحتفالات دعوة مجلة الشهاب (عدد 2/1931) لتأسيس جمعية العلماء، وفعلا تم تأسيس جمعية العلماء المسلمين في 5/5/1931.
قصة ميلاد الجمعية:
تأسست جمعية العلماء المسلمين في اجتماع عقد في نادي الترقي بالعاصمة الجزائرية، حضره 70 عالماً من مختلف مناطق الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: مالكيين وإباضيين، مصلحين وطرقيين، موظفين حكوميين وغير موظفين، وكان رئيس الاجتماع الشيخ أبو يعلى الزواوي.
ويحكى الشيخ خير الدين أحد المؤسسين الذين حضروا الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية قصتها فيقول: “كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين (محمد عبابسة الأخضري) وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة وكلفه أن يختار ثلة من جماعة نادي الترقي الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة, أو مخاوف أصحاب الزوايا, وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية في نادي الترقي بالعاصمة حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام, وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس”.
وقد تخلف ابن باديس عن الحضور في أول يومين للاجتماع حتى لا يستثير وجوده العلماء الرسميين أو الطرقيين، وفضل أن يستدعى في اليوم التالي على أن يكون داعياً للاجتماع، وفي هذا بعد نظر منه.
وكان هناك مسودة لقانون الجمعية عرض في الاجتماع وتم إقراره، ومن ثم تم اختيار أعضاء مجلس الإدارة، حيث وقع الاختيار على ابن باديس ليرأسها رغم عدم حضوره.
وهكذا ظهرت جمعية العلماء بحنكة ابن باديس وذكائه، حين تجنب الاصطدام بإدارة الاحتلال وبالعلماء الموالين لها وبأصحاب الزوايا، وأيضاً نص قانونها على تجنب العمل السياسي، حتى يطمئن السلطات الفرنسية أكثر، لكن الحقيقة كانت كما جاء في تقرير المتصرف الفرنسي لمدينة مزاله: “وعلى الرغم من أنها (الجمعية) تدعي أنها لا سياسية فإنها نواة للأحزاب الوطنية وقاعدة ينمو فوقها الشعور الوطني”.
ومنهج ابن باديس هذا لم يكن عن خوف أو جبن عن خوض العمل السياسي، بل هو منهج ارتضاه عن دراسة وتأمل، يقول ابن باديس: “فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا، من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم”.
وفي نهاية سنتها الأولى حاول العلماء الموالون لفرنسا وأرباب الطرق والزوايا الاستيلاء على الجمعية وحرفها عن مسارها، لكنهم فشلوا في ذلك فانشقوا عن الجمعية وأسسوا (جمعية علماء السنة) برئاسة الشيخ مولود الحافظي الذي كان من المؤسسين لجمعية العلماء، لكن هذه الجمعية سرعان ما فشلت واندثرت.
ثم في سنة 1936 تجددت صلة بعض زعمائها بزعيم كتلة نواب قسنطينة د.ابن جلول، فأصبح لهم مؤسستان في الجزائر العاصمة وفي قسنطينة، وأنشأوا نادى الصفا الذي غير اسمه إلى نادى الرشاد، وأصبح مقرا لحبك المكائد لجمعية العلماء.
ولذلك يعتبرالعام الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو ميلادها الحقيقي، حيث أصبحت الجمعية مقتصرة فقط على التيار الإصلاحي.
وتم تقسيم الإشراف على متابعة نشاطات الجمعية بين الشيخ الطيب العقبي الذي تولى الإشراف على نشاط الجمعية في العاصمة وما جاورها, والشيخ البشير الإبراهيمي الذي تولى الإشراف على نشاطات الجهة الغربية من البلاد, انطلاقا من تلمسان, وبقيت قسنطينة وما جاورها تحت إشراف ابن باديس.
الجمعية وإنشاء المدارس والتعليم:
وعندما استقرت أمور الجمعية وانطلقت في نشاطاتها تكاثرت فروعها حتى بلغت بعد 5 سنوات 33 شعبة وذلك في سنة 1936، وفي سنة 1938 زاد العدد إلى 58 شعبة، فقد أقبل الشعب الجزائري على التعلم وحضور الندوات والمحاضرات في شعب الجمعية وذلك برغم الاضطهادات والعراقيل التي كانت توضع في طريقها.
وقد عدد البشير الإبراهيمي أهمّ أنشطة الجمعية وأعمالها في ثماني نقاط هي:
1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار، فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان، على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزعتها، لتصرف في مصارفها التي وُقِفَت عليها. (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي، في الأحوال الشخصية مبدئيًا.
8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
ومن أجل ذلك قامت الجمعية بإنشاء المدارس التابعة لها فبعد ثلاث سنوات، كان يتبع الجمعية 150 مدرسة، يتعلم فيها تقريباً 50 ألف طالب.
وكان ابن باديس ينتقد طريقة التعليم السائدة في عصره، والتي ترتكز على بعض المواد الشرعية فقط، والتي تدرس بطريقة كئيبة لا تخرج سوى طلبة كالببغاوات يرددون ما حفظوا دون فهم أو قدرة على الاجتهاد، يقول ابن باديس عن الغاية من تدريسه القرآن للطلاب: “وأن يكوّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تُعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم”.
فأدخل تعليم المواد العصرية إلى دروسه ودروس مدارسه، فمن المواد التي أصبحت تدرس: الحساب والجغرافيا والتاريخ والمنطق واللغة الفرنسية، ومن الكتب التي يطالعها الطلبة: مقدمة ابن خلدون، وطوّر ابن باديس طريقة التعليم بحيث تنمي ملكات الطلبة وتؤهلهم للفهم والاجتهاد، ولذلك ظهر في طلابه الأدباء والشعراء والفقهاء والمصلحون، ويقول الشّيخ الإبراهيمي: “كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة”.
وكان ابن باديس يهتم بتغيير عقلية التخلف عند الناس، ففي رثائه لصاحب المنار رشيد رضا كتب يقول: “إذا كان التفكير لازماً للإنسان في جميع شؤونه، وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطالب العلم ألزم من كل إنسان…” وأيضاً: ” فالتفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد وخير منها الجاهل البسيط”.
وكان يرسل المتفوقين للدراسة في جامع الزيتونة بتونس، ويجعل عليهم مشرفين وعرفاء. وبقيت عناية الجمعية بالتعليم تتزايد حتى عقدت سنة 1937 مؤتمراً لمعلمي التعليم العربي، لدراسة واقعه ومشكلاته والنهوض به، وأصدرت أبحاثه في كتاب خاص.
واعتنت الجمعية بتعليم الفتيات بل أعفتهن جميعاً من الرسوم بخلاف الأولاد الذين أعفت الفقراء منهم فقط، كما أن ابن باديس سعى في أن يبعث بعض الفتيات لمواصلة التعليم في دمشق لدى جمعية دوحة الآداب بمرافقة مشرفة، إلا أن ظروف الحرب العالمية حالت دون ذلك.
الجمعية وإنشاء الصحف:
تعاونت الجمعية في البداية مع عدد من الصحف الإصلاحية في بث دعوتها، كمجلة الشهاب التي يرأسها ابن باديس وصحف أخرى كالمرصاد والجحيم والليالي والدفاع الفرنسية.
لكن الجمعية أصدرت سنة 1933 أول صحفها وهي صحيفة السنة النبوية لتصدر أسبوعياً، برئاسة ابن باديس، لتكون الناطقة بلسانها وتخوض الصراع مع الطرقية وجمعيتها علماء السنة، لكن سرعان ما أوقفتها السلطات الفرنسية بعد عدة أشهر فقط.
وبعد أسبوع فقط من إيقاف السنة النبوية، أصدرت الجمعية صحيفة الشريعة المحمدية، بنفس الإدارة التي تولت السنة النبوية، وأيضاً تم إيقافها بعد شهر ونصف.
وعلى إثرها أصدرت الجمعية جريدة الصراط السوي لكنها عطلت بعدة عدة أشهر مرة أخرى مطلع سنة 1934.
وبعد سنتين لم تلِن فيها إرادة الجمعية صدرت مجلة البصائر الأسبوعية لتكون لسان الجمعية والتي استمرت لغاية سنة 1939 حيث قررت الجمعية إيقافها لأن “التعطيل خير من نشر الأباطيل” كما قال البشير الإبراهيمي، حيث رفضت الجمعية تأييد فرنسا في الحرب.
وكانت صحف الجمعية كصحف ابن باديس تعالج مختلف القضايا الدينية والسياسية الجزائرية والإسلامية، وتهتم بنشر العقيدة السليمة ومحاربة البدعة والخرافة، وإصلاح التعليم في الجزائر وتونس وكل مكان، كما كان لقضية فلسطين حضور بارز على صفحاتها.
الجمعية ومقاومة الطرقية والصوفية المنحرفة:
كان ابن باديس يدرك أن الجزائر تواجه استعماراً مادياً فرنسياً، واستعماراً معنوياً طرقياً صوفياً، وأنهما متحالفان معاً ضد الشعب الجزائري.
ورأى ابن باديس أن البدء بمحاربة الطرقية والصوفية المنحرفة هو المدخل السليم لمحاربة الاستعمار الفرنسي.
وهذا المنهج من ابن باديس سابق على إنشاء الجمعية لكنه مع إنشاء الجمعية أصبح منهجاً جماعياً تقوم به جمعية تضم عدداً من العلماء ومئات المدرسين من خلال مدارس الجمعية، ولم يعد أمراً فردياً يقوم به ابن باديس.
وبسبب تصدي ابن باديس للطرقية وخاصة الطريقة العليوية التي جمعت بين الانحراف الديني والولاء للفرنسيين، ففي سنة 1920 نشر الشيخ أحمد بن عليوة رئيس زاوية مستغانم ديوانه الشعري، والذي فيه توعد وتهديد للنبي صلى الله عليه وسلم إن هلك ابن عليوة بسبب شوقه للنبي!! قال ابن عليوة:
إنْ مُتّ بالشَّوْق منكد من هو بالملك موحّد
إن تبق في هجري زائد عبس بالقول تساعد
ما عذر ينجيك للمولى ندعيك ينظر في أمريك ما نرجوه فيك !!
وضمنه عقيدة وحدة الوجود والحلول، كقوله:
فتشت عليك يا الله لقيت روحي أنا الله (والعياذ بالله)
كما أن الطريقة العليوية بسبب هذا الانحراف والولاء للمحتل الفرنسي كانت تفتح له الأبواب وتمهد لهم السبل، في الوقت الذي كان الشرفاء من الصوفية يعانون الأذي من الفرنسيين ومثلهم العلماء المصلحون.
وحين سئل ابن باديس في سنة 1922 عن ديوان ابن عليوة أجاب برسالة سميت “جواب سؤال على سوء مقال” رد فيها عليه لسوء أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بعض شطحاته الحلولية المنافية للعقيدة الإسلامية، ولأهمية هذه الرسالة قرضها عدد من كبار علماء المغرب وتونس والجزائر، مثل الطاهر بن عاشور والخضر حسين ومحمد النيفر وأشادت بها مجلة الفتح لمحب الدين الخطيب.
وحقد ابن عليوة وأتباعه على ابن باديس وأرسلوا له من يقتله في عام 1926، وفعلا تربص به القاتل في مساء 9 جمادى الآخرة 1341هـ الموافق ليوم 14/12/ 1926 م وضربه بهراوة على رأسه وصدعه، فشج رأسه وأدماه، لكن ابن باديس أمسك به وصرخ طلباً للمساعدة، ونجى من القتل، ثم عفا عن القاتل لأنه مستأجر.
واستمر ابن باديس في حربه للطرقية والصوفية المنحرفة، فلما تأسست الجمعية نصت في منهجها على محاربة الطرقية، فجاء في الأصل السادس عشر “الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف، ومبناها كلها على الغلو في الشيخ …”.
وقد اتبع ابن باديس مع الطرقية أسلوب المهادنة والتعاون في بداية تأسيس الجمعية، وذلك لقطع الطريق على الاستعمار الفرنسي من استغلال صراع الإصلاحيين مع الطرقيين، ولكن بشرط أن لا يكونوا عوناً للمستعمر.
ولكنهم حين أخلوا بالشرط وتعاونوا مع الفرنسيين أظهر العلماء للشعب الحقيقة وأن شيوخ الطرق تبع للفرنسيين وباحثون عن مصالحهم الشخصية من المال والمناصب، فنبذهم الشعب الجزائري، وتقلص نفوذ الطرقية في الجزائر، ولم يعد لها تأثير على الشارع الجزائري.
وهو الأمر الذي ساهم في تحرير الجزائر، حين اعترف أحد قادتهم سنة 1955 أنهم لم يجدوا شيوخ طرق وصوفية يوقفون ثورة الجزائر ضد فرنسا بسبب أعمال جمعية العلماء، في حين وجد الاستعمار الفرنسي شيوخا صوفيين في المغرب ليتمكن من إيقاف الثورة ضد فرنسا!!
لكن اليوم تعود الصوفية للشارع الجزائري بقوة وبدعم من النظام وذلك لإضعاف التيار الإسلامي في الجزائر، فبدلا من علاج التطرف بالعلم يتم اللجوء للخرافة من قبل أنظمة علمانية واشتراكية!!
الجمعية تفتح فرعا لها في فرنسا:
حين زار وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري فرنسا سنة 1936 وكان فيه ابن باديس والإبراهيمي والعقبي، طلب المهاجرون الجزائريون من ابن باديس ورفاقه أن يهتموا بهم ويرسلوا لهم من طلابهم، من يعلمهم ويرشدهم.
وبعد عودة ابن باديس للجزائر أرسل لهم تلميذه الفضيل الورتلاني – والذي سيكون له دور بارز لاحقاً مع حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان في نشر الدعوة الإسلامية – وقد أسس الورتلاني جمعية نادي التهذيب في باريس، التي كانت تعد بمثابة فرع لجمعية العلماء بالجزائر، لأن التوجيه والمناهج والقائمين على النادي كله من جمعية العلماء بالجزائر، وسرعان ما أصبح لها ستة فروع في ضواحى باريس، وثم أصبحت 11 فرعاً حين أغلقت بسبب احتلال الألمان لفرنسا سنة 1940.
وقد تطلبت هذ الفروع مجيء عدد آخر من طلاب جمعية العلماء بالجزائر، والذين أشرفوا على نشر التعليم والدعوة بين جموع المهاجرين الجزائريين وغيرهم، وكانت هذه التجربة من أوائل المؤسسات الدعوية الإسلامية في أوروبا إن لم تكن الأولى.
الجمعية وفرنسا:
حرص ابن باديس على تأجيل اصطدامه بفرنسا حتى يتمكن من بناء قاعدة صلبة يستطيع الاعتماد عليها، ولذلك تنوعت سياسته مع فرنسا بحسب ظروف كل مرحلة.
ففي البداية كان يطالب فرنسا بأن تعدل مع الجزائريين بناء على شعاراتها وقيمها التي تنادي بها، ومع تأكيده على أن العلاقة بينهما هي علاقة بين أمتين وليست بين أمة واحدة، وكان ينادي بالمساواة في الحقوق السياسية لا القومية مع الفرنسيين.
وهو يحاول بهذه الطريقة أن يصل لحقِّ الشعب الجزائري بالتعليم والمشاركة السياسية والتنعم بخيرات بلاده، واستمرت هذه السياسة لبعد قيام الجمعية بعدة سنوات.
ورغم ذلك لم تكن فرنسا راضية عن نشاطات ابن باديس وحاولت أن تصرفه عن مشروعه عبر الإغراء ببعض المناصب مثل منصب المفتي أو تسميته بشيخ الإسلام، ولما لم يستجب لذلك قامت بالتضييق على عائلته في أعمالها وتجارتها، فلم يرضخ أيضاً.
وقد حرص ابن باديس على أن يميز بين نشاطه الخاص ضد فرنسا وبين نشاط الجمعية، فكان يخوض بعض الصدامات مع فرنسا باسمه الشخصي من خلال مجلته الخاصة الشهاب، في الوقت الذي لا تتدخل الجمعية ومجلاتها في تلك الصدامات، وذلك للحفاظ على الجمعية وعدم تعريضها للخطر وهذا من حنكته ودهائه.
ومع ذلك شهدت الجمعية الكثير من مظاهر التضييق على عملها كإيقاف ترخيص المدارس، ومراقبة ومتابعة أعضائها، والتعطيل المتكرر لمجلاتها، ومنع علمائها من دخول مناطق جزائرية، خاصة الصحراء، وقبول فرنسا توصية جمعية علماء السنة الطرقية بمنع غير الموظفين الرسميين من التدريس في المساجد، ولكن هذا فتح باب إنشاء المساجد الحرة غير التابعة للسلطات وكان فيها خير عظيم.
كما صدر قرار باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر سنة 1933 ما عرض أنشطة وعلماء الجمعية لمتاعب كبيرة جدا من قبل السلطات الفرنسية.
ومنذ سنة 1936 تغيرت سياسة ابن باديس وذلك عقب محاولة فرنسا إلغاء الهوية الجزائرية تماماً وإلحاقها بفرنسا بالكلية واعتبار الجزائر مقاطعة من فرنسا، فأعلن ابن باديس رفضه لهذا المسعى وأنه يرفض التجنس بالجنسية الفرنسية وأنه يتبرأ من بعض قادة الجزائر الذين قبلوا ذلك.
ودعا ابن باديس إلى عقد مؤتمر عام لدراسة الأوضاع، فعقد في 7/7/1936 المؤتمر الإسلامي الجزائري الأول في نادي الترقي، وكان هذا المؤتمر نقطة تحول في تاريخ الجزائر، وتقرر إرسال وفد جزائري إلى فرنسا لشرح وجهة النظر الجزائرية، وكان في الوفد ابن باديس والإبراهيمي بشكل شخصي، واستطاع الوفد بثقل العلماء الحاضرين أن يجبروا النواب الجزائريين على الالتزام بمقررات المؤتمر التي تحافظ على هوية الجزائر الإسلامية ولغتها العربية.
وأصبح نشاط العلماء ضد سياسة الفرنسة ظاهرا ومكشوفا، وأنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم في المواطنة والديمقراطية التي تدعيها فرنسا، وهو تحول مهم في سياسة ابن باديس تجاه فرنسا، وما كان يمكن القيام به لولا تلك الجهود الطويلة والتي أفرزت قوة على الأرض لا يستهان بها.
ولذلك لجأت الإدارة الفرنسية لضرب جهود ابن باديس والجمعية بعد عودتهم من فرنسا، باتهامهم بقتل مفتي العاصمة ابن مكحول واعتقال الشيخ الطيب العقبي باعتباره المتهم بذلك، ولم تحاكم الرجل أو تقبض عليه، وتركت الاتهام معلقًا، وذلك حتى تُشَوِّهَ سمعة الرجل وجمعيته، وهو ما دفع به إلى الاستقالة عام 1938، وتم إغلاق نادى الترقي لمنع تجمع المصلحين فيه، وحرضت الطرق الصوفية على مهاجمة ابن باديس، حتى إنها أطلقت عليه لقب “ابن إبليس”!
ولذلك توجه ابن باديس والجمعية لمقاطعة السلطات الفرنسية والمجالس التابعة لها، والاتصال بالحركات الوطنية الإسلامية في تونس والمغرب.
ومن ثم صدر أمر بمنع تقديم المشروبات في النوادي مجاناً أو بالبيع إلا بإذن خاص من الوالي الفرنسي، بهدف القضاء على تجمعات الإصلاحيين من خلال إفلاس النوادي والمقاهي التي تجمعهم، وتبعه قرار منع فتح المدارس والتضييق على القائم منها وإغلاقه.
ثم جاءت سنة 1938 ونذر الحرب العالمية الثانية وأرادت فرنسا أن تكسب ولاء الجزائريين لها تمهيدًا لإشراكهم في صفوف القتال الفرنسية، فتوجهت للشيخ العقبي والذي يحاكم بتهمة قتل المفتي وطلبت منه أن تعلن الجمعية تأييدها لفرنسا، وأن براءته رهن بذلك.
وقصدت فرنسا تحقيق عدة غايات من ذلك، إذا صدر التأييد فهذا مكسب كبير لها، وإذا رفض فإن خلافا قد يقع بين العقبي والجمعية أو بين بعض أفرادها أو سيختلف قادة الجمعية بين مؤيد ومعارض، وكل ذلك مفيد لفرنسا!!
وقد كانت محاكمة العقبي قضية هامة ومفصلية لكونها محاكمة للجمعية في شخص العقبي، لما له من مكانة حتى أن ابن باديس الذي لم يقطع درسه حين توفي ولده الوحيد وعمره 17 سنة، قطع درسه لحضور محاكمة العقبي.
فرفض ابن باديس والجمعية ذلك – وهو ما أزعج العقبي الذي تلاعبت به فرنسا عبر بعض المغرضين، ولم تنتبه الجمعية لضرورة مساندته في ذلك، فاستقال من الجمعية – وحتى لا تضطر الجمعية لإعلان موقف لا تريده قررت إيقاف صحفها، وكذلك فعل ابن باديس.
وبدأ ابن باديس يفكر بالثورة على فرنسا إذا أعلنت إيطاليا الحرب عليها، وذلك بدلا من قبول بعض الجزائريين الانخراط في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية.
وفي خضم هذا الصراع المتصاعد مع فرنسا والذي أصبح صريحاً ومكشوفاً، لم يتوقف ابن باديس عن التفكير في المستقبل وما بعد الاستعمار الفرنسي، فقدم ابن باديس رؤيته لأسس الدستور المرتقب للجزائر المستقلة بعنوان “أصول الولاية في الإسلام” في مجلته (الشهاب) عدد 1/1938، وجعلها 13 اصلاً، منها:
الأصل الأول: لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل…
الأصل الثاني: الذي يتولى أمرا من أمور الأمة هو أكفؤها فيه، لا خيرها في سلوكه، فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة وكان أحدهما أرجح في الخيرية، والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر قدم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية…
الأصل الرابع: حق الأمة في مراقبة أولي الأمر، لأنها مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم.
الأصل السابع: حق الأمة في مناقشة أولي الأمر، ومحاسبتهم في أعمالهم وحملهم على ما تراه هي، لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم، وهذا كله من مقتضى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأنهم على باطل …
الأصل التاسع: لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه فائدتها، وما الولاة إلا منفذون لإرادتها، فهي تطيع القانون لأنه قانونها، لا لأن سلطة أخرى لفرد أو لجماعة فرضته عليها كائنا من كان ذلك الفرد، وكائنة من كانت تلك الجماعة …
الأصل الثاني عشر: حفظ التوازن بين طبقات الأمة، فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقسو عليه لقوته فيتعدى عليه حتى يضعف وينكسر، ويعطى الضعيف حقه، دون أن يذل لضعفه، فيطغى عليه، وينقلب معتديا على غيره …
ومع تعاظم دور الجمعية في الجزائر، ورفض الجمعية وابن باديس الانصياع لرغبات فرنسا في ابتلاع الجزائر، وعدم استسلام ابن باديس والجمعية لليأس والقنوط، أصدرت السلطات الفرنسية قرارا بحل الجمعية في سنة 1940، وفرض الإقامة الجبرية على ابن باديس ونفي البشير الإبراهيمي إلى جنوب الجزائر.
أثر ابن باديس على الجزائر
آثار ابن باديس على الجزائر ضخمة جداً، ولعل أبرزها أنه تمكن – بعون الله عز وجل – من تربية جيل جزائري كامل وتكوين أمة تدرك شخصيتها الإسلامية والعربية، وذلك بعد أن حارب الطرقية والخرافة والجهل، وفضح وكشف ألاعيب المحتلين الفرنسيين وأذنابهم.
كما أنه أرسى في الجزائر العمل الدعوي المؤسسي ودعم الإعلام الهادف وسخّره لمصلحة الجزائر.
وفاته رحمه الله تعالى
وفي مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359هـ، الموافق 16 أبريل 1940م، وبعد أشهر معدودة من حلّ الجمعية توفي ابن باديس وهو تحت الإقامة الجبرية، وكان قد بلغ الخمسين من عمره، وكان يعاني رحمه الله من عدة أمراض مستعصية مما جعل هناك ظنونا بأنه لم يمت ميتة طبيعية، وقد شيع جنازته خمسون ألفا من الجزائريين، أو يزيد، جاؤوا من كافة مناطق الجزائر، وقد دفن – رحمه الله- في مقبرة آل باديس بمدينة قسنطينة.
مراجع للتوسع:
* جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1913-1940)، عبد الرشيد زروقة، دار الشهاب، بيروت، ط 1، 1999.
* جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية، مازن مطبقاني، دار القلم، دمشق، ط 1، 1988.
* ابن باديس فارس الإصلاح والتنوير، د.محمد بهي الدين سالم، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1999.
* عبد الحميد بن باديس وآراؤه الفلسفية بين النظرية والتطبيق (1889-1940)، د.عبد الحميد النساج، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 2010.
* نشاط جمعية العلماء الجزائريين في فرنسا (1936-1956)، سعيد بورنان، دار هومه، الجزائر، 2011.
* مقدمة مجلة الشهاب، عبدالرحمن شيبان، دار الغرب الإسلامي، بيروت ط 1، 2000.
* آثار ابن باديس، عمار الطالبي، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، الجزائر، ط 1، 1968.
(المصدر: مجلة البيان)